فصل: باب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **


*2*كِتَاب الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة‏)‏ ، ‏"‏ الاعتصام ‏"‏ افتعال من العصمة والمراد امتثال قوله تعالى ‏(‏واعتصموا بحبل الله جميعا‏)‏ الآية‏.‏

قال الكرماني هذه الترجمة منتزعة من قوله تعالى ‏(‏واعتصموا بحبل الله جميعا‏)‏ لأن المراد بالحبل‏:‏ الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة، والجامع كونهما سببا للمقصود وهو الثواب والنجاة من العذاب، كما أن الحبل سبب لحصول المقصود به من السقي وغيره‏.‏

والمراد ‏"‏ بالكتاب ‏"‏ القرآن المتعبد بتلاوته و ‏"‏ بالسنة ‏"‏ ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما هم بفعله‏.‏

والسنة في أصل اللغة الطريقة وفي اصطلاح الأصوليين والمحدثين ما تقدم، وفي اصطلاح بعض الفقهاء ما يرادف المستحب، قال ابن بطال‏:‏ لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله أو في إجماع العلماء على معنى في أحدهما، ثم تكلم على السنة باعتبار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي بيانه بعد باب، ثم ذكر فيه خمسة أحاديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا فَقَالَ عُمَرُ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ مِسْعَرٍ وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان عن مسعر وغيره‏)‏ أما ‏"‏ سفيان ‏"‏ فهو ابن عيينة و ‏"‏ مسعر ‏"‏ هو ابن كدام بكسر الكاف وتخفيف الدال، و ‏"‏ الغير ‏"‏ الذي أبهم معه لم أر من صرح به إلا أنه يحتمل أن يكون سفيان الثوري، فإن أحمد أخرجه من روايته عن ‏"‏ قيس بن مسلم ‏"‏ وهو الجدلي بفتح الجيم والمهملة كوفي يكنى أبا عمرو، كان عابدا ثقة ثبتا وقد نسب إلى الأرجاء، وفي الرواة قيس بن مسلم آخر لكنه شامي غير مشهور، روى عن عبادة بن الصامت وحديثه عنه في ‏"‏ كتاب خلق الأفعال ‏"‏ للبخاري و ‏"‏ طارق بن شهاب ‏"‏ هو الأحمسي معدود في الصحابة لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو كبير لكن لم يثبت له منه سماع‏.‏

قوله ‏(‏قال رجل من اليهود‏)‏ تقدم الكلام عليه في ‏"‏ كتاب الإيمان ‏"‏ وفي تفسير سورة المائدة مع شرح سائر الحديث، وحاصل جواب عمر ‏"‏ أنا اتخذنا ذلك اليوم عيدا ‏"‏ على وفق ما ذكرت‏.‏

قوله ‏(‏سمع سفيان مسعرا ومسعر قيسا وقيس طارقا‏)‏ هو كلام البخاري يشير إلى أن العنعنة المذكورة في هذا السند محمولة عنده على السماع لاطلاعه على سماع كل منهم من شيخه، وقوله سبحانه ‏(‏اليوم أكملت لكم دينكم‏)‏ ظاهره يدل على أن أمور الدين كملت عند هذه المقالة وهي قبل موته صلى الله عليه وسلم بنحو ثمانين يوما فعلى هذا لم ينزل بعد ذلك من الأحكام شيء وفيه نظر، وقد ذهب جماعة إلى أن المراد بالإكمال ما يتعلق بأصول الأركان لا ما يتفرع عنها، ومن ثم لم يكن فيها متمسك لمنكري القياس، ويمكن دفع حجتهم على تقدير تسليم الأول بأن استعمال القياس في الحوادث متلقى من أمر الكتاب، ولو لم يكن إلا عموم قوله تعالى ‏(‏وما آتاكم الرسول فخذوه‏)‏ وقد ورد أمره بالقياس وتقريره عليه فاندرج في عموم ما وصف بالكمال، ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى ‏(‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏)‏ قال أنزل سبحانه وتعالى كثيرا من الأمور مجملا، ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته وما لم يقع في وقته وكل تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى ‏(‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏)‏ ‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الغد حين بايع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه‏)‏ حين يتعلق بسمع، والذي يتعلق بالغد محذوف وتقديره من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في باب الاستخلاف في أواخر ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وسياقه هناك أتم، وزاد في هذه الرواية ‏"‏ فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ‏"‏ أي الذي عنده من الثواب والكرامة على الذي عندكم من النصب‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ

الشرح‏:‏

حديث ابن عباس تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ وبيان من رواه بلفظ التأويل ويأتي معنى التأويل في باب قوله تعالى ‏(‏بل هو قرآن مجيد‏)‏ من ‏"‏ كتاب التوحيد ‏"‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفًا أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ وَقَعَ هَاهُنَا يُغْنِيكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الِاعْتِصَامِ

الشرح‏:‏

حديث أبي برزة وهو مختصر من الحديث الطويل المذكور في أوائل ‏"‏ كتاب فتن ‏"‏ في باب ‏"‏ إذا قال عند قوم شيئا ثم خرج فقال بخلافه ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى هناك، وقوله هنا ‏"‏ إن الله يغنيكم بالإسلام ‏"‏ كذا وقع بضم أوله ثم غين معجمة ساكنة ثم نون ونبه ‏"‏ أبو عبد الله ‏"‏ وهو المصنف على أن الصواب بنون ثم عين مهملة مفتوحتين ثم شين معجمة‏.‏

قوله ‏(‏ينظر في أصل كتاب الاعتصام‏)‏ فيه إشارة إلى أنه صنف ‏"‏ كتاب الاعتصام ‏"‏ مفردا وكتب منه هنا ما يليق بشرطه في هذا الكتاب كما صنع في ‏"‏ كتاب الأدب المفرد ‏"‏ فلما رأى هذه اللفظة مغايرة لما عنده أنه الصواب أحال على مراجعة ذلك الأصل وكأنه كان في هذه الحالة غائبا عنه فأمر بمراجعته وأن يصلح منه وقد وقع له نحو هذا في تفسير ‏(‏أنقض ظهرك‏)‏ ونبهت عليه في تفسير سورة ‏(‏ألم نشرح‏)‏ ونقل ابن التين عن الداودي أن ذكر حديث أبي برزة هذا هنا إنما يستفاد منه تثبيت خبر الواحد وهو غفلة منه، فإن حكم تثبيت خبر الواحد انقضى وعقب بالاعتصام بالكتاب والسنة ومناسبة حديث أبي برزة للاعتصام بالكتاب من قوله ‏"‏ إن الله نعشكم بالكتاب ‏"‏ ظاهرة جدا والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ

الشرح‏:‏

حديث ابن عمر في مكاتبته لعبد الملك بالبيعة له وقد تقدم بأتم من هذا السياق مع شرحه في باب كيف يبايع الإمام من أواخر ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ ومن ثم يظهر المعطوف عليه بقوله هنا ‏"‏ وأقر لك ‏"‏ وبينت هناك أن ذلك كان بعد قتل عبد الله بن الزبير والغرض منه هنا استعمال سنة الله ورسوله في جميع الأمور

*3*باب قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت بجوامع الكلم‏)‏ وذكر فيه حديثين لأبي هريرة أحدهما بلفظ الترجمة وزاد ‏"‏ ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم رأيتني أتيت بمفاتيح خزائن الأرض ‏"‏ وتقدم تفسير جوامع الكلم في باب المفاتيح في اليد من ‏"‏ كتاب التعبير ‏"‏ وفيه تفسيرها عن الزهري وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني، وجزم غير الزهري بأن المراد ‏"‏ بجوامع الكلم ‏"‏ القرآن بقرينة قوله ‏"‏ بعثت‏"‏، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني، وتقدم شرح ‏"‏ نصرت بالرعب ‏"‏ في ‏"‏ كتاب التيمم‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فوضعت في يدي‏)‏ أي المفاتيح وتقدم تفسير المراد بها في باب النفخ في المنام من ‏"‏ كتاب التعبير‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏قال أبو هريرة‏)‏ هو موصول بالسند المذكور أولا وقوله ‏"‏ فذهب ‏"‏ أي مات، وقوله ‏"‏وأنتم تلغثونها أو ترغثونها أو كلمة تشبهها ‏"‏ فالأولى بلام ساكنة ثم غين معجمة مفتوحة ثم مثلثة والثانية مثلها لكن بدل اللام راء وهي من الرغث كناية عن سعة العيش وأصله من رغث الجدي أمه إذا ارتضع منها وأرغثته هي أرضعته ومن ثم قيل رغوث وأما باللام فقيل إنها لغة فيها وقيل تصحيف وقيل مأخوذة من اللغيث بوزن عظيم وهو الطعام المخلوط بالشعير، ذكره صاحب المحكم عن ثعلب والمراد يأكلونها كيفما اتفق وفيه بعد‏.‏

وقال ابن بطال‏:‏ وأما اللغث باللام فلم أجده فيما تصفحت من اللغة انتهى، ووجدت في حاشية من كتابه هما لغتان صحيحتان فصيحتان معناهما الأكل بالنهم وأفاد الشيخ مغلطاي عن كتاب ‏"‏ المنتهى ‏"‏ لأبي المعالي اللغوي لغث طعامه ولغث بالغين والعين أي المعجمة والمهملة إذا فرقه، قال وألغيت ما يبقى في الكيل من الحب، فعلى هذا فالمعنى وأنتم تأخذون المال فتفرقونه بعد أن تحوزوه واستعار للمال ما للطعام لأن الطعام أهم ما يقتنى لأجله المال، وزعم أن في بعض نسخ الصحيح وأنتم تلعقونها بمهملة ثم قاف‏.‏

قلت‏:‏ وهو تصحيف ولو كان له بعض اتجاه، والثالثة جاءت من رواية عقيل في ‏"‏ كتاب الجهاد ‏"‏ بلفظ تنتثلونها بمثناة ثم نون ساكنة ثم مثناة ولبعضهم بحذف المثناة الثانية من النثل بفتح النون وسكون المثلثة وهو الاستخراج نثل كنانته استخرج ما فيها من السهام، وجرابه نفض ما فيه والبئر أخرج ترابها فمعنى تنتثلونها تستخرجون ما فيها وتتمتعون به، قال ابن التين عن الداودي هذا المحفوظ في هذا الحديث، قال النووي‏:‏ يعني ما فتح على المسلمين من الدنيا وهو يشمل الغنائم والكنوز، وعلى الأول اقتصر الأكثر ووقع عند بعض رواة مسلم بالميم بدل النون الأولى وهو تحريف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عن سعيد‏)‏ هو ابن أبي سعيد المقبري واسم أبي سعيد كيسان‏.‏

قوله ‏(‏ما مثله أومن أو آمن عليه البشر‏)‏ أو شك من الراوي، فالأولى بضم الهمزة وسكون الواو وكسر الميم من الأمن، والثانية بالمد وفتح الميم من الإيمان، وحكى ابن قرقول أن في رواية القابسي بفتح الهمزة وكسر الميم بغير مد من الأمان وصوبها ابن التين فلم يصب، وقوله ‏"‏وإنما كان الذي أوتيته ‏"‏ في رواية المستملي ‏"‏ أوتيت ‏"‏ بحذف الهاء، وقد تقدم شرح هذا الحديث مستوفى في أوائل فضائل القرآن بحمد الله تعالى، ومعنى الحصر في قوله ‏"‏ إنما كان الذي أوتيته ‏"‏ أن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر، فلما كان لا شيء يقاربه فضلا عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع، قيل يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديث عقب الذي قبله أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن وليس ذلك بلازم، فإن دخول القرآن في قوله ‏"‏ بعثت بجوامع الكلم ‏"‏ لا شك فيه وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن‏؟‏ وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قوله تعالى ‏(‏ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون‏)‏ وقوله ‏(‏ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون‏)‏ إلى غير ذلك ومن أمثلة جوامع الكلم من الأحاديث النبوية حديث عائشة ‏"‏ كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ‏"‏ وحديث ‏"‏ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ‏"‏ متفق عليهما، وحديث أبي هريرة ‏"‏ وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‏"‏ وسيأتي شرحه قريبا، وحديث المقدام ‏"‏ ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ‏"‏ الحديث أخرجه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبع، إنما يسلم ذلك فيما لم تتصرف الرواة في ألفاظه، والطريق إلى معرفة ذلك أن تقل مخارج الحديث وتتفق ألفاظه، وإلا فإن مخارج الحديث إذا كثرت قل أن تتفق ألفاظه لتوارد أكثر الرواة على الاقتصار على الرواية بالمعنى بحسب ما يظهر لأحدهم أنه واف به، والحامل لأكثرهم على ذلك أنهم كانوا لا يكتبون ويطول الزمان فيتعلق المعنى بالذهن فيرتسم قيه ولا يستحضر اللفظ فيحدث بالمعنى لمصلحة التبليغ، ثم يظهر من سياق ما هو أحفظ منه أنه لم يوف بالمعنى‏.‏

*3*باب الِاقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا قَالَ أَيِمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ ثَلَاثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلِإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا وَيَسْأَلُوا عَنْهَا وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏)‏ أي قبولها والعمل بما دلت عليه فأما أقواله صلى الله عليه وسلم فتشتمل على أمر ونهي وإخبار، وسيأتي حكم الأمر والنهي في باب مفرد، وأما أفعاله فتأتي أيضا في باب مفرد قريبا‏.‏

قوله ‏(‏وقول الله تعالى‏:‏ واجعلنا للمتقين إماما‏.‏

قال أئمة نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا‏)‏ كذا للجميع بإبهام القائل، وقد ثبت ذلك من قول مجاهد أخرجه الفريابي والطبري وغيرهما من طريقه بهذا اللفظ بسند صحيح، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريقه بسند صحيح أيضا، قال يقول‏:‏ اجعلنا أئمة في التقوى حتى نأتم بمن كان قبلنا ويأتم بنا من بعدنا، وللطبري وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى ‏"‏ اجعلنا أئمة التقوى لأهله يقتدون بنا ‏"‏ لفظ الطبري‏.‏

وفي رواية ابن أبي حاتم ‏"‏ اجعلنا أئمة هدى ليهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة ‏"‏ لأنه قال تعالى لأهل السعادة ‏(‏وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا‏)‏ وقال لأهل الشقاوة ‏(‏وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار‏)‏ ورجح الطبري أنهم سألوا أن يكونوا للمتقين أئمة ولم يسألوا أن يجعل المتقين لهم أئمة، ثم تكلم الطبري على إفراد ‏"‏ إماما ‏"‏ مع أن المراد جماعة بما حاصله أن الإمام اسم جنس فيتناول الواحد فما فوقه‏.‏

وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله ‏(‏واجعلنا للمتقين إماما‏)‏ أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي ليس المراد أن نؤم الناس وإنما أرادوا اجعلنا أئمة لهم في الحلال والحرام يقتدون بنا فيه، ومن طريق جعفر بن محمد معناه اجعلني رضا فإذا قلت صدقوني وقبلوا مني‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ اقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه تبعا لمن تقدمه على عزو التفسير المذكور أولا للحسن البصري ولم أر له عنه سندا، والثاني للضحاك وقد صح عن ابن عباس ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير ونقله ابن أبي حاتم أيضا عن أبي صالح وعبد الله بن شوذب‏.‏

قوله ‏(‏وقال ابن عون‏)‏ هو عبد الله البصري من صغار التابعين ‏(‏ثلاث احبهن لنفسي إلخ‏)‏ وصله محمد ابن نصر المروزي في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ والجوزقي من طريقه قال محمد بن نصر حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا سليم ابن أخضر سمعت ابن عون يقول‏:‏ غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ‏"‏ ثلاث أحبهن لنفسي ‏"‏ الحديث ووصله ابن القاسم اللالكائي في ‏"‏ كتاب السنة ‏"‏ من طريق القعنبي سمعت حماد بن زيد يقول قال ابن عون‏.‏

قوله ‏(‏ولإخواني‏)‏ في رواية حماد ‏"‏ ولأصحابي ‏"‏ قوله ‏(‏هذه السنة‏)‏ أشار إلى طريقة النبي صلى الله عليه وسلم إشارة نوعية لا شخصية، وقوله ‏"‏أن يتعلموها ويسألوا عنها ‏"‏ في رواية يحيى بن يحيى هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتبعه ويعمل بما فيه‏.‏

قوله ‏(‏والقرآن أن يتفهموه ويسألوا الناس عنه‏)‏ في رواية يحيى ‏"‏ فيتدبروه ‏"‏ بدل فيتفهموه وهو المراد‏.‏

قوله ‏(‏ويدعوا الناس إلا من خير‏)‏ كذا للأكثر بفتح الدال من يدعوا وهو من الودع بمعنى الترك، ووقع في رواية الكشميهني بسكون الدال من الدعاء، وكذا هو في نسخة الصغاني، ويؤيد الأول أن في رواية يحيى بن يحيى ‏"‏ ورجل أقبل على نفسه ولها عن الناس إلا من خير ‏"‏ لأن في ترك الشر خيرا كثيرا قال الكرماني قال‏:‏ في القرآن يتفهموه وفي السنة يتعلموها لأن الغالب أن المسلم يتعلم القرآن في أول أمره فلا يحتاج إلى الوصية بتعلمه، فلهذا أوصى بتفهم معناه وإدراك منطوقه انتهى، ويحتمل أن يكون السبب أن القرآن قد جمع بين دفتي المصحف ولم تكن السنة يومئذ جمعت، فأراد بتعلمها جمعها ليتمكن من تفهمها، بخلاف القرآن فإنه مجموع فليبادر لتفهمه ثم ذكر فيه ثلاثة عشر حديثا‏:‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ قُلْتُ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ قَالَ لِمَ قُلْتُ لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ قَالَ هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏عمرو بن عباس‏)‏ بموحدة ثم مهملة هو الباهلي بصري يكنى أبا عثمان من طبقة علي ابن المديني، و ‏"‏ عبد الرحمن ‏"‏ هو ابن مهدي و ‏"‏ سفيان ‏"‏ هو الثوري و ‏"‏ واصل ‏"‏ هو ابن حبان وتقدم تصريح الثوري عنه بالتحديث في ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ و ‏"‏ أبو وائل ‏"‏ هو شقيق بن سلمة‏.‏

قوله ‏(‏جلست إلى شيبة‏)‏ هو ابن عثمان بن طلحة العبدري حاجب الكعبة وقد تقدم نسبه عند شرح حديثه في باب كسوة الكعبة من ‏"‏ كتاب الحج ‏"‏ وليس له في الصحيحين إلا هذا الحديث عند البخاري وحده، قوله ‏(‏أن لا أدع فيها‏)‏ الضمير للكعبة وإن لم يجر لها ذكر لأن المراد بالمسجد في قول أبي وائل ‏"‏ جلست إلى شيبة في هذا المسجد ‏"‏ نفس الكعبة فكأنه أشار إليها فقد تقدم في رواية الحج في هذا الحديث ‏"‏ على كرسي في الكعبة ‏"‏ أي عند بابها كما جرت به عادة الحجبة؛ قال ابن بطال‏:‏ أراد عمر قسمة المال في مصالح المسلمين فلما ذكره شيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر بعده لم يتعرضا له لم يسعه خلافهما، ورأى أن الاقتداء بهما واجب‏.‏

قلت‏:‏ وتمامه أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم منزل منزلة حكمه باستمرار ما ترك تغييره فيجب الاقتداء به في ذلك لعموم قوله تعالى ‏(‏واتبعوه‏)‏ وأما أبو بكر فدل عدم تعرضه على أنه لم يظهر له من قوله صلى الله عليه وسلم ولا من فعله ما يعارض التقرير المذكور، ولو ظهر له لفعله لا سيما مع احتياجه للمال لقلته في مدته فيكون عمر مع وجود كثرة المال في أيامه أولى بعدم التعرض‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ سَأَلْتُ الْأَعْمَشَ فَقَالَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ

الشرح‏:‏

حديث حذيفة في الأمانة تقدم شرحه في ‏"‏ كتاب الفتن‏"‏‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا عمرو بن مرة‏)‏ هو الجملي بفتح الجيم وتخفيف الميم و ‏"‏ مرة ‏"‏ شيخه هو ابن شراحيل ويقال له مرة الطيب بالتشديد وهو الهمداني بسكون الميم، وليس هو والد عمرو الراوي عنه‏.‏

قوله ‏(‏وأحسن الهدي هدي محمد‏)‏ بفتح الهاء وسكون الدال للأكثر، وللكشميهني بضم الهاء مقصور ومعنى الأول الهيئة والطريقة والثاني ضد الضلال‏.‏

قوله ‏(‏وشر الأمور محدثاتها إلخ‏)‏ تقدم هذا الحديث بدون هذه الزيادة في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ وذكرت ما يدل على أن البخاري اختصره هناك ومما أنبه عليه هنا قبل شرح هذه الزيادة أن ظاهر سياق هذا الحديث أنه موقوف، لكن القدر الذي له حكم الرفع منه قوله ‏"‏ وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فإن فيه إخبارا عن صفة من صفاته صلى الله عليه وسلم وهو أحد أقسام المرفوع وقل من نبه على ذلك، وهو كالمتفق عليه لتخريج المصنفين المقتصرين على الأحاديث المرفوعة الأحاديث الواردة في شمائله صلى الله عليه وسلم فإن أكثرها يتعلق بصفة خلقه وذاته كوجهه وشعره، وكذا بصفة خلقه كحلمه وصفحه، وهذا مندرج في ذلك مع أن الحديث المذكور جاء عن ابن مسعود مصرحا فيه بالرفع من وجه آخر، أخرجه أصحاب السنن لكن ليس هو على شرط البخاري، وأخرجه مسلم من حديث جابر مرفوعا أيضا بزيادة فيه، وليس هو على شرطه أيضا، وقد بينت ذلك في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ في باب الهدي الصالح، و ‏"‏ المحدثات ‏"‏ بفتح الدال جمع محدثة والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع ‏"‏ بدعة ‏"‏ وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة سواء كان محمودا أو مذموما، وكذا القول في المحدثة وفي الأمر المحدث الذي ورد في حديث عائشة ‏"‏ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ‏"‏ كما تقدم شرحه ومضى بيان ذلك قريبا في ‏"‏ كتاب الأحكام ‏"‏ وقد وقع في حديث جابر المشار إليه ‏"‏ وكل بدعة ضلالة ‏"‏ وفي حديث العرباض بن سارية ‏"‏ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ‏"‏ وهو حديث أوله ‏"‏ وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ‏"‏ فذكره وفيه هذا أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وهذا الحديث في المعنى قريب من حديث عائشة المشار إليه وهو من جوامع الكلم قال الشافعي ‏"‏ البدعة بدعتان‏:‏ محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالفها فهو مذموم ‏"‏ أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضا ما أخرجه البيهقي في مناقبه قال ‏"‏ المحدثات ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة ‏"‏ انتهى‏.‏

وقسم بعض العلماء البدعة إلى الأحكام الخمسة وهو واضح، وثبت عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قد أصبحتم على الفطرة وإنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالهدي الأول، فمما حدث تدوين الحديث ثم تفسير القرآن ثم تدوين المسائل الفقهية المولدة عن الرأي المحض ثم تدوين ما يتعلق بأعمال القلوب، فأما الأول فأنكره عمر وأبو موسى وطائفة ورخص فيه الأكثرون وأما الثاني فأنكره جماعة من التابعين كالشعبي، وأما الثالث فأنكره الإمام أحمد وطائفة يسيرة وكذا اشتد إنكار أحمد للذي بعده، ومما حدث أيضا تدوين القول في أصول الديانات فتصدى لها المثبتة والنفاة، فبالغ الأول حتى شبه وبالغ الثاني حتى عطل، واشتد إنكار السلف لذلك كأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وكلامهم في ذم أهل الكلام مشهور، وسببه أنهم تكلموا فيما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وثبت عن مالك أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر شيء من الأهواء - يعني بدع الخوارج والروافض والقدرية - وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلا يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرها، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف، وإن لم يكن له منه بد فليكتف منه بقدر الحاجة، ويجعل الأول المقصود بالأصالة والله الموفق‏.‏

وقد أخرج أحمد بسند جيد عن غضيف بن الحارث قال بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال‏:‏ إنا قد جمعنا الناس على رفع الأيدي على المنبر يوم الجمعة، وعلى القصص بعد الصبح والعصر، فقال‏:‏ أما إنهما أمثل بدعكم عندي ولست بمجيبكم إلى شيء منهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏ ما أحدث قوم بدعة إلا رفع من السنة مثلها فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة‏"‏‏.‏

انتهى وإذا كان هذا جواب هذا الصحابي في أمر له أصل في السنة فما ظنك بما لا أصل له فيها، فكيف بما يشتمل على ما يخالفها‏.‏

وقد مضى في ‏"‏ كتاب العلم ‏"‏ أن ابن مسعود كان يذكر الصحابة كل خميس لئلا يملوا ومضى في ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ أن ابن عباس قال‏:‏ حدث الناس كل جمعة فإن أبيت فمرتين، ونحوه وصية عائشة لعبيد بن عمير، والمراد بالقصص التذكير والموعظة، وقد كان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن لم يكن يجعله راتبا كخطبة الجمعة بل بحسب الحاجة، وأما قوله في حديث العرباض ‏"‏ فإن كل بدعة ضلالة ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ وإياكم ومحدثات الأمور ‏"‏ فإنه يدل على أن المحدث يسمى بدعة وقوله ‏"‏ كل بدعة ضلالة ‏"‏ قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال ‏"‏ حكم كذا بدعة وكل بدعة ضلالة ‏"‏ فلا تكون من الشرع لأن الشرع كله هدي، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان، وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله ‏"‏ كل بدعة ضلالة ‏"‏ ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام‏.‏

وقوله في آخر حديث ابن مسعود ‏(‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزتين‏)‏ أراد ختم موعظته بشيء من القرآن يناسب الحال‏.‏

وقال ابن عبد السلام‏:‏ في أواخر ‏"‏ القواعد ‏"‏ البدعة خمسة أقسام ‏"‏ فالواجبة ‏"‏ كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم ‏"‏ والمحرمة ‏"‏ ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة ‏"‏ والمندوبة ‏"‏ كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عن التراويح وبناء المدارس والربط والكلام في التصوف المحمود وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله ‏"‏ والمباحة ‏"‏ كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن‏.‏

وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأول والله أعلم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في قصة العسيف قالا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏ لأقضين بينكما بكتاب الله ‏"‏ وهذا يوهم أن الخطاب لهما وليس كذلك، وإنما هو لوالد العسيف والذي استأجره لما تحاكما بسبب زنا العسيف بامرأة الذي استأجره، والقدر المذكور هنا طرف من القصة المذكورة، واقتصر البخاري هنا عليه لدخوله في غرضه من أن السنة يطلق عليها ‏"‏ كتاب الله ‏"‏ لأنها بوحيه وتقديره، لقوله تعالى ‏(‏وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى‏)‏ وقد تقدم تقرير ذلك مع شرح الحديث في ‏"‏ كتاب المحاربين ‏"‏ المتعلق ببيان الحدود‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏فليح‏)‏ بالفاء والمهملة مصغر هو ابن سليمان المدني، وشيخه ‏"‏ هلال بن علي ‏"‏ هو الذي يقال له ابن أبي ميمونة‏.‏

قوله ‏(‏كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى‏)‏ بفتح الموحدة أي امتنع وظاهره أن العموم مستمر لأن كلا منهم لا يمتنع من دخول الجنة ولذلك قالوا ‏"‏ ومن يأبى ‏"‏ فبين لهم أن إسناد الامتناع إليهم عن الدخول مجاز عن الامتناع عن سنته وهو عصيان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في أول الأحكام حديث أبي هريرة أيضا مرفوعا ‏"‏ من أطاعني فقد أطاع الله ‏"‏ وتقدم شرحه مستوفى وأخرج أحمد والحاكم من طريق صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبي هريرة رفعه ‏"‏ لتدخلن الجنة إلا من أبى وشرد على الله شراد البعير ‏"‏ وسنده على شرط الشيخين، وله شاهد عن أبي أمامة عند الطبراني وسنده جيد، والموصوف بالإباء وهو الامتناع إن كان كافرا فهو لا يدخل الجنة أصلا وإن كان مسلما فالمراد منعه من دخولها مع أول داخل إلا من شاء الله تعالى‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ فَقَالُوا أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ فَقَالُوا فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏محمد بن عبادة‏)‏ بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده البختري بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي يكنى أبا جعفر ما له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر تقدم في ‏"‏ كتاب الأدب ‏"‏ وهو من الطبقة الرابعة من شيوخ البخاري، و ‏"‏ يزيد ‏"‏ شيخه هو ابن هارون، قوله ‏(‏حدثنا سليم بن حيان وأثنى عليه‏)‏ أما سليم فبفتح المهملة وزن عظيم وأبوه بمهملة ثم تحتانية ثقيلة والقائل ‏"‏ وأثنى عليه ‏"‏ هو محمد وفاعل أثنى هو يزيد‏.‏

قوله ‏(‏قال حدثنا أوسمعت‏)‏ القائل ذلك سعيد بن ميناء والشاك هو سليم بن حيان، شك في أي الصيغتين قالها شيخه سعيد، ويجوز في جابر أن يقرأ بالنصب وبالرفع والنصب أولى‏.‏

قوله ‏(‏جاءت ملائكة‏)‏ لم أقف على أسمائهم ولا أسماء بعضهم، ولكن في رواية سعيد بن أبي هلال المعلقة عقب هذا عند الترمذي أن الذي حضر في هذه القصة جبريل وميكائيل، ولفظه ‏"‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال‏:‏ إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي ‏"‏ فيحتمل أنه كان مع كل منهما غيره‏.‏

واقتصر في هذه الرواية على من باشر الكلام منهم ابتداء وجوابا، ووقع في حديث ابن مسعود عند الترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم توسد فخذه فرقد، وكان إذا نام نفخ؛ قال فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم بما بهم من الجمال، فجلست طائفة منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطائفة منهم عند رجليه‏.‏

قوله ‏(‏إن لصاحبكم هذا مثلا قال فاضربوا له مثلا‏)‏ كذا للأكثر وسقط لفظ ‏"‏ قال ‏"‏ من رواية أبي ذر‏.‏

قوله ‏(‏فقال بعضهم إنه نائم إلى قوله يقظان‏)‏ قال الرامهرمزي هذا تمثيل يراد به حياة القلب وصحة خواطره، يقال رجل يقظ إذا كان ذكي القلب؛ وفي حديث ابن مسعود فقالوا بينهم‏:‏ ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا‏.‏

وفي رواية سعيد بن أبي هلال، ‏.‏

فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا، فقال ‏"‏ اسمع سمع أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ‏"‏ ونحوه في حديث ربيعة الجرشي عند الطبراني زاد أحمد في حديث ابن مسعود فقالوا اضربوا له مثلا ونؤول أو نضرب وأولوا، وفيه ليعقل قلبك‏.‏

قوله ‏(‏مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة‏)‏ في حديث ابن مسعود ‏"‏ مثل سيد بنى قصرا ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ بنيانا حصينا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه ومن لم يجبه عاقبه - أو قال - عذبه ‏"‏ وفي رواية أحمد ‏"‏ عذب عذابا شديدا ‏"‏ والمأدبة بسكون الهمزة وضم الدال بعدها موحدة وحكى الفتح‏.‏

وقال ابن التين‏:‏ عن أبي عبد الملك الضم والفتح لغتان فصيحتان‏.‏

وقال الرامهرمزي نحوه في حديث ‏"‏ القرآن مأدبة الله ‏"‏ قال‏:‏ وقال لي أبو موسى الحامض من قاله بالضم أراد الوليمة، ومن قاله بالفتح أراد أدب الله الذي أدب به عباده‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا يتعين الضم‏.‏

قوله ‏(‏وبعث داعيا‏)‏ في رواية سعيد ‏"‏ ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال بعضهم أولوها له يفقهها‏)‏ قيل يؤخذ منه حجة لأهل التعبير أن التعبير إذا وقع في المنام اعتمد عليه ‏"‏ قال ابن بطال‏:‏ قوله ‏"‏ أولوها له ‏"‏ يدل على أن الرؤيا على ما عبرت في النوم ‏"‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر لاحتمال الاختصاص بهذه القصة لكون الرائي النبي صلى الله عليه وسلم والمرئي الملائكة، فلا يطرد ذلك في حق غيرهم‏.‏

قوله ‏(‏فقال بعضهم إنه نائم‏)‏ هكذا وقع ثالث مرة‏.‏

قوله ‏(‏فقالوا الدار الجنة‏)‏ أي الممثل بها زاد في رواية سعيد بن أبي هلال ‏"‏ فالله هو الملك والدار الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول الله ‏"‏ وفي حديث ابن مسعود عند أحمد ‏"‏ أما السيد فهو رب العالمين، وأما البنيان فهو الإسلام والطعام الجنة ومحمد الداعي ‏"‏ فمن اتبعه كان في الجنة‏.‏

قوله ‏(‏فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله‏)‏ أي لأنه رسول صاحب المأدبة فمن أجابه ودخل في دعوته أكل من المأدبة، وهو كناية عن دخول الجنة ووقع بيان ذلك في رواية سعيد ولفظه ‏"‏ وأنت يا محمد رسول الله فمن أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها ‏"‏ قوله ‏(‏ومحمد فرق بين الناس‏)‏ كذا لأبي ذر بتشديد الراء فعلا ماضيا، ولغيره بسكون الراء والتنوين وكلاهما متجه‏.‏

قال الكرماني‏:‏ ليس المقصود من هذا التمثيل تشبيه المفرد بالمفرد، بل تشبيه المركب بالمركب، مع قطع النظر عن مطابقة المفردات من الطرفين انتهى، وقد وقع في غير هذه الطريق ما يدل على المطابقة المذكورة، زاد في حديث ابن مسعود ‏"‏ فلما استيقظ قال‏:‏ سمعت ما قال هؤلاء، هل تدرى من هم‏؟‏ ‏.‏

قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال هم الملائكة، والمثل الذي ضربوا الرحمن بنى الجنة ودعا إليها عباده ‏"‏ الحديث‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ تقدم في ‏"‏ كتاب المناقب ‏"‏ من وجه آخر عن سليم بن حيان بهذا الإسناد ‏"‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الأنبياء كرجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ‏"‏ الحديث، وهو حديث آخر وتمثيل آخر، فالحديث الذي في المناقب يتعلق بالنبوة وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهذا يتعلق بالدعاء إلى الإسلام وبأحوال من أجاب أو امتنع، وقد وهم من خلطهما كأبي نعيم في ‏"‏ المستخرج ‏"‏ فإنه لما ضاق عليه مخرج حديث الباب ولم يجده مرويا عنده أورد حديث اللبنة ظنا منه أنهما حديث واحد وليس كذلك لما بينته، وسلم الإسماعيلي من ذلك فإنه لما لم يجده في مروياته أورده من روايته عن الفربري بالإجازة عن البخاري بسنده، وقد روى يزيد بن هارون بهذا السند حديث اللبنة أخرجه أبو الشيخ في ‏"‏ كتاب الأمثال ‏"‏ من طريق أحمد ابن سنان الواسطي عنه، وساق بهذا السند حديث ‏"‏ مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا ‏"‏ الحديث، لكنه عن أبي هريرة لا عن جابر وقد ذكر الرامهرمزي، حديث الباب في ‏"‏ كتاب الأمثال ‏"‏ معلقا فقال‏:‏ وروى يزيد ابن هارون فساق السند ولم يوصل سنده بيزيد وأورد معناه من مرسل الضحاك بن مزاحم‏.‏

قوله ‏(‏تابعه قتيبة عن ليث‏)‏ يعني ابن سعد ‏(‏عن خالد‏)‏ يعني ابن يزيد وهو أبو عبد الرحيم المصري أحد الثقات‏.‏

قوله ‏(‏عن سعيد بن أبي هلال عن جابر قال خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم‏)‏ هكذا اقتصر على هذا القدر من الحديث وظاهره أن بقية الحديث مثله، وقد بينت ما بينهما من الاختلاف، وقد وصله الترمذي عن قتيبة بهذا السند ووصله أيضا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان، وأبو نعيم من طريق أبي العباس السراج، كلاهما عن قتيبة ونسب السراج في روايته الليث وشيخه كما ذكرته، قال الترمذي بعد تخريجه‏:‏ هذا حديث مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله‏.‏

قلت‏:‏ وفائدة إيراد البخاري له رفع التوهم عمن يظن أن طريق سعيد بن ميناء موقوفة، لأنه لم يصرح برفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتى بهذه الطريق لتصريحها؛ ثم قال الترمذي وجاء من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا‏.‏

قال وفي الباب عن ابن مسعود، ثم ساقه بسنده إلى ابن مسعود وصححه، وقد بينت ما فيه أيضا بحمد الله تعالى‏.‏

ووصف الترمذي له بأنه مرسل‏:‏ يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي عند الطبراني فإنه بنحو سياقه وسنده جيد، وسعيد بن أبي هلال غير سعيد بن ميناء الذي في السند الأول، وكل منهما مدني لكن ابن ميناء تابعي بخلاف ابن أبي هلال، والجمع بينهما إما بتعدد المرئي وهو واضح أو بأنه منام واحد حفظ فيه بعض الرواة ما لم يحفظ غيره، وتقدم طريق الجمع بين اقتصاره على جبريل وميكائيل في حديث وذكره الملائكة بصيغة الجمع في الجانبين الدال على الكثرة في آخر، وظاهر رواية سعيد بن أبي هلال أن الرؤيا كانت في بيت النبي صلى الله عليه وسلم لقوله ‏"‏ خرج علينا فقال إني رأيت في المنام ‏"‏ وفي حديث ابن مسعود أن ذلك كان بعد أن خرج إلى الجن فقرأ عليهم، ثم أغفى عند الصبح فجاءوا إليه حينئذ، ويجمع بأن الرؤيا كانت على ما وصف ابن مسعود، فلما رجع إلى منزله خرج على أصحابه فقصها، وما عدا ذلك فليس بينهما منافاة إذ وصف الملائكة برجال حسان، يشير إلى أنهم تشكلوا بصورة الرجال، وقد أخرج أحمد والبزار والطبراني من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس نحو أول حديث سعيد بن أبي هلال لكن لم يسم الملكين، وساق المثل على غير سياق من تقدم قال‏:‏ إن مثل هذا ومثل أمته، كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل فقال أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء، أتتبعوني‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم؛ فانطلق بهم فأوردهم، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم إن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا أروى من هذه فاتبعوني، فقالت طائفة صدق والله لنتبعنه‏.‏

وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه ‏"‏ وهذا إن كان محفوظا قوي الحمل على التعدد إما للمنام وإما لضرب المثل، ولكن علي بن زيد ضعيف من قبل حفظه‏.‏

قال ابن العربي في حديث ابن مسعود‏:‏ إن المقصود ‏"‏ المأدبة ‏"‏ وهو ما يؤكل ويشرب ففيه رد على الصوفية الذين يقولون لا مطلوب في الجنة إلا الوصال، والحق أن لا وصال لنا إلا بانقضاء الشهوات الجثمانية والنفسانية والمحسوسة والمعقولة وجماع ذلك كله في الجنة انتهى، وليس ما ادعاه من الرد بواضح، قال وفيه من أجاب الدعوة أكرم ومن لم يجبها أهين، وهو خلاف قولهم من دعوناه فلم يجبنا فله الفضل علينا فإن أجابنا فلنا الفضل عليه‏.‏

فإنه مقبول في النظر، وأما حكم العبد مع المولى فهو كما تضمنه هذا الحديث‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏سفيان‏)‏ هو الثوري ‏"‏ وإبراهيم ‏"‏ هو النخعي ‏"‏ وهمام ‏"‏ هو ابن الحارث، ورجال السند كلهم كوفيون‏.‏

قوله ‏(‏يا معشر القراء‏)‏ بضم القاف وتشديد الراء مهموز جمع قارئ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسنة العباد، وسيأتي إيضاحه في الحديث الحادي عشر‏.‏

قوله ‏(‏استقيموا‏)‏ أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركا، وقوله فيه ‏"‏ سبقتم ‏"‏ هو بفتح أوله كما جزم به ابن التين وحكى غيره ضمه، والأول المعتمد زاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه ‏"‏ فإن استقمتم فقد سبقتم ‏"‏ أخرجه أبو نعيم في المستخرج وقوله ‏"‏ سبقا بعيدا ‏"‏ أي ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما‏.‏

قوله ‏(‏فإن أخذتم يمينا وشمالا‏)‏ أي خالفتم الأمر المذكور، وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى ‏(‏وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‏)‏ والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة فاستشهدوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو عاشوا بعده على طريقته فاستشهدوا أو ماتوا على فرشهم‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ

الشرح‏:‏

حديث أبي موسى في ‏"‏ النذير العريان ‏"‏ وقد تقدم شرحه مستوفى في باب الانتهاء عن المعاصي من ‏"‏ كتاب الرقاق ‏"‏ و ‏"‏ بريد ‏"‏ بموحدة وراء مصغر هو ابن عبد الله بن أبي بردة و ‏"‏ أبو بردة ‏"‏ شيخه هو جده وهو ابن أبي موسى الأشعري‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ فَقَالَ عُمَرُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ قَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ عَنْ اللَّيْثِ عَنَاقًا وَهُوَ أَصَحُّ

الشرح‏:‏

حديث أبي هريرة في قصة أبي بكر في قتال أهل الردة وقد تقدمت الإشارة إليه قريبا‏.‏

قوله ‏(‏في آخره قال ابن بكير‏)‏ يعني يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ‏(‏وعبد الله‏)‏ يعني كاتب الليث وهو أبو صالح إلخ، ومراده أن قتيبة حدثه عن الليث بالسند المذكور فيه بلفظ ‏"‏ لو منعوني كذا ‏"‏ ووقع هنا في رواية الكشميهني ‏"‏ كذا وكذا ‏"‏ وحدثه به يحيى وعبد الله عن الليث بالسند المذكور بلفظ ‏"‏ عناقا ‏"‏ وقوله ‏"‏ وهو أصح ‏"‏ أي من رواية من روى ‏"‏ عقالا ‏"‏ كما تقدمت الإشارة إليه في ‏"‏ كتاب الزكاة ‏"‏ أو أبهمه كالذي وقع هنا‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَتَسْتَأْذِنَ لِي عَلَيْهِ قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يَقَعَ بِهِ فَقَالَ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس كما جزم به المزي واسم ‏"‏ أبي أويس ‏"‏ عبد الله المدني الأصبحي، و ‏"‏ ابن وهب ‏"‏ هو عبد الله المصري و ‏"‏ يونس ‏"‏ هو ابن يزيد الأيلي‏.‏

قوله ‏(‏قدم عيينة‏)‏ بتحتانية ونون مصغرا ‏(‏ابن حصن‏)‏ بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين ثم نون ‏(‏ابن حذيفة بن بدر‏)‏ يعني الفزاري معدود في الصحابة، وكان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء، وله ذكر في ‏"‏ المغازي ‏"‏ ثم أسلم في الفتح وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا فأعطاه مع المؤلفة وإياه عنى العباس بن مرداس السلمي بقوله‏:‏ أتجعل نهبي ونهب العبـ يد بين عيينة والأقرع وله ذكر مع الأقرع بن حابس سيأتي قريبا في ‏"‏ باب ما يكره من التعمق ‏"‏ وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبا بكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر، وقد ذكره البخاري في ‏"‏ التاريخ الصغير ‏"‏ وسماه النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ الأحمق المطاع ‏"‏ وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأسر عيينة، فأتى به أبو بكر فاستتابه فتاب، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح، وفيه من جفاء الأعراب شيء‏.‏

قوله ‏(‏على ابن أخيه الحر‏)‏ بلفظ ضد العبد، و ‏"‏ قيس ‏"‏ والد الحر لم أر له ذكرا في الصحابة، وكأنه مات في الجاهلية، والحر ذكره في الصحابة أبو علي بن السكن وابن شاهين، وفي العتبية عن مالك قدم عيينة ابن حصن المدينة، فنزل على ابن أخ له أعمى فبات يصلي فلما أصبح غدا إلى المسجد فقال عيينة كان ابن أخي عندي أربعين سنة لا يطيعني، فما أسرع ما أطاع قريشا، وفي هذا إشعار بأن أباه مات في الجاهلية‏.‏

قوله ‏(‏وكان من النفر الذين يدنيهم عمر‏)‏ بين بعد ذلك السبب ب قوله ‏(‏وكان القراء‏)‏ أي العلماء العباد ‏(‏أصحاب مجلس عمر‏)‏ فدل على أن الحر كان متصفا بذلك، وتقدم في آخر سورة الأعراف ضبط قوله ‏"‏ أو شبانا ‏"‏ وأنه بالوجهين، وقوله ‏"‏ومشاورته ‏"‏ بالشين المعجمة وبفتح الواو ويجوز كسرها‏.‏

قوله ‏(‏هل لك وجه عند هذا الأمير‏)‏ هذا من جملة جفاء عيينة إذ كان من حقه أن ينعته بأمير المؤمنين ولكنه لا يعرف منازل الأكابر‏.‏

قوله ‏(‏فتستأذن لي عليه‏)‏ أي في خلوة، وإلا فعمر كان لا يحتجب إلا وقت خلوته وراحته، ومن ثم قال له سأستأذن لك عليه، أي حتى تجتمع به وحدك‏.‏

قوله ‏(‏قال ابن عباس فاستأذن لعيينة‏)‏ أي الحر، وهو موصول بالإسناد المذكور‏.‏

قوله ‏(‏فلما دخل قال يا ابن الخطاب‏)‏ في رواية شعيب عن الزهري الماضية في آخر تفسير الأعراف، فقال‏:‏ هي بكسر ثم سكون وفي بعضها ‏"‏ هيه ‏"‏ بكسر الهاءين بينهما تحتانية ساكنة، قال النووي بعد أن ضبطها هكذا هي كلمة تقال في الاستزادة ويقال بالهمزة بدل الهاء الأولى، وسبق إلى ذلك قاسم بن ثابت في ‏"‏ الدلائل ‏"‏ كما نقله صاحب المشارق فقال في قول ابن الزبير أيها قوله ‏"‏ إيه ‏"‏ بهمز مكسور مع التنوين كلمة استزادة من حديث لا يعرف، وتقول ‏"‏ إيها عنا ‏"‏ بالنصب أي كف، قال وقال يعقوب يعني ابن السكيت تقول لمن استزدته، من عمل أو حديث ‏"‏ إيه ‏"‏ فإن وصلت نونت فقلت ‏"‏ إيه حدثنا ‏"‏ وحكاه كذا في النهاية وزاد فإذا قلت ‏"‏ إيها ‏"‏ بالنصب فهو أمر بالسكوت‏.‏

وقال الليث قد تكون كلمة استزادة وقد تكون كلمة زجر كما قال‏:‏ إيه عنا أي كف‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ هيه هنا بكسر الهاء الأولى، وفي بعض النسخ بهمزة بدلها وهو من أسماء الأفعال، تقال لمن تستزيده، كذا قال ولم يضبط الهاء الثانية، ثم قال وفي بعض النسخ هي بحذف الهاء الثانية والمعنى واحد، أو هو ضمير لمحذوف أي هي داهية أو القصة هذه انتهى، واقتصر شيخنا ابن الملقن في شرحه على قوله ‏"‏ هي يا ابن الخطاب ‏"‏ بمعنى التهديد له ووقع في تنقيح الزركشي فقال ‏"‏ هئ يا ابن الخطاب ‏"‏ بكسر الهاء وآخره همزة مفتوحة، تقول للرجل إذا استزدته ‏"‏ هيه وإيه ‏"‏ انتهى، وقوله وآخره همزة مفتوحة لا وجه له ولعله من الناسخ أو سقط من كلامه شيء، والذي يقتضيه السياق أنه أراد بهذه الكلمة الزجر وطلب الكف لا الازدياد، وقد تقدم شيء من الكلام على هذه الكلمة في مناقب عمر وقوله ‏"‏ يا ابن الخطاب ‏"‏ هذا أيضا من جفائه حيث خاطبه بهذه المخاطبة وقوله ‏"‏ والله ما تعطينا الجزل ‏"‏ بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام أي الكثير، وأصل الجزل ما عظم من الحطب‏.‏

قوله ‏(‏ولا تحكم‏)‏ في رواية غير الكشميهني ‏"‏ وما ‏"‏ بالميم بدل اللام‏.‏

قوله ‏(‏حتى هم بأن يقع به‏)‏ أي يضربه‏.‏

وفي رواية شعيب عن الزهري في التفسير ‏"‏ حتى هم به ‏"‏ وفي رواية فيه ‏"‏ حتى هم أن يوقع به‏"‏‏.‏

قوله ‏(‏فقال الحر يا أمير المؤمنين‏)‏ في رواية شعيب المذكورة ‏"‏ فقال له الحر ‏"‏ وفي رواية الإسماعيلي من طريق بشر بن شعيب عن أبيه عن الزهري ‏"‏ فقال الحر بن قيس‏.‏

قلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏"‏ وهذا يقتضي أن يكون من رواية ابن عباس عن الحر، وأنه ما حضر القصة بل حملها عن صاحبها وهو الحر، وعلى هذا فينبغي أن يترجم للحر في رجال البخاري ولم أر من فعله‏.‏

قوله ‏(‏إن الله قال لنبيه‏)‏ فذكر الآية ثم قال‏:‏ وإن هذا من الجاهلين، أي فأعرض عنه‏.‏

قوله ‏(‏فوالله ما جاوزها‏)‏ هو كلام ابن عباس فيما أظن وجزم شيخنا ابن الملقن بأنه كلام الحر وهو محتمل ويؤيده رواية الإسماعيلي المشار إليها، ومعنى ‏"‏ ما جاوزها ‏"‏ ما عمل بغير ما دلت عليه بل عمل بمقتضاها ولذلك قال ‏"‏ وكان وقافا عند كتاب الله ‏"‏ أي يعمل بما فيه ولا يتجاوزه، وفي هذا تقوية لما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية محكمة، قال الطبري بعد أن أورد أقوال السلف في ذلك وأن منهم من ذهب إلى أنها منسوخة بآية القتال، والأولى بالصواب أنها غير منسوخة لأن الله أتبع ذلك تعليمه نبيه محاجة المشركين ولا دلالة على النسخ، فكأنها نزلت لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم عشرة من لم يؤمر بقتاله من المشركين أو أريد به تعليم المسلمين، وأمرهم بأخذ العفو من أخلاقهم فيكون تعليما من الله لخلقه صفة عشرة بعضهم بعضا فيما ليس بواجب، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلا أو تركا انتهى ملخصا‏.‏

وقال الراغب ‏"‏ خذ العفو ‏"‏ معناه خذ ما سهل تناوله، وقيل تعاط العفو مع الناس، والمعنى خذ ما عفي لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا، وهو كحديث ‏"‏ يسروا ولا تعسروا ‏"‏ ومنه قول الشاعر‏:‏ خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سوأتي حين أغضب وأخرج ابن مردويه من حديث جابر وأحمد من حديث عقبة بن عامر لما نزلت هذه الآية ‏"‏ سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا أدلكم على أشرف أخلاق الدنيا والآخرة‏؟‏ قالوا‏:‏ وما ذاك، فذكره قال الطيبي‏:‏ ما ملخصه أمر الله نبيه في هذه الآية بمكارم الأخلاق فأمر أمته بنحو ما أمره الله به، ومحصلهما الأمر بحسن المعاشرة مع الناس وبذل الجهد في الإحسان إليهم والمداراة معهم والإغضاء عنهم وبالله التوفيق‏.‏

وقد تقدم الكلام على معنى العرف المأمور به في الآية مستوفى في التفسير‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ حِينَ خَسَفَتْ الشَّمْسُ وَالنَّاسُ قِيَامٌ وَهِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِلنَّاسِ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقُلْتُ آيَةٌ قَالَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَرَهُ إِلَّا وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ قَرِيبًا مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُسْلِمُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوْ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حين خسفت الشمس‏)‏ في رواية المستملي ‏"‏ كسفت ‏"‏ وقوله ‏"‏ فأجبناه ‏"‏ في رواية الكشميهني ‏"‏ فأجبنا وآمنا ‏"‏ أي فأجبنا محمدا وآمنا بما جاء به، وقد تقدم شرح حديث أسماء بنت أبي بكر هذا مستوفى في صلاة الكسوف‏.‏

الحديث‏:‏

حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ

الشرح‏:‏

قوله ‏(‏حدثنا إسماعيل‏)‏ هو ابن أبي أويس كما جزم به الحافظ أبو إسماعيل الهروي، وذكر في كتابه ذم الكلام أنه تفرد به عن مالك، وتابعه على روايته عن مالك عبد الله بن وهب كذا قال، وقد ذكر الدار قطني معهما إسحاق بن محمد الفروي وعبد العزيز الأويسي وهما من شيوخ البخاري، وأخرجه في غرائب مالك التي ليست في الموطأ من طرق هؤلاء الأربعة ومن طريق أبي قرة موسى بن طارق، ومن طريق الوليد ابن مسلم، ومن طريق محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، ثلاثتهم عن مالك أيضا فكملوا سبعة، ولم يخرج البخاري هذا الحديث إلا في هذا الموضع من رواية مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم من رواية المغيرة بن عبد الرحمن، وسفيان وأبو عوانة من رواية ورقاء ثلاثتهم عن أبي الزناد ومسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي مسلمة بن عبد الرحمن، ومن رواية همام بن منبه، ومن رواية أبي صالح، ومن رواية محمد بن زياد، وأخرجه الترمذي من رواية أبي صالح كلهم عن أبي هريرة وسأذكر ما في روايتهم من فائدة زائدة‏.‏

قوله ‏(‏دعوني‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ ذروني ‏"‏ وهي بمعنى دعوني وذكر مسلم سبب هذا الحديث من رواية محمد ابن زياد فقال عن أبي هريرة ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل‏:‏ أكل عام يا رسول الله‏؟‏ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله‏:‏ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال ذروني ما تركتكم ‏"‏ الحديث وأخرجه الدار قطني مختصرا وزاد فيه فنزلت ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏)‏ وله شاهد عن ابن عباس عند الطبري في التفسير، وفيه ‏"‏ لو قلت نعم، لوجبت ولو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم ‏"‏ الحديث وفيه فأنزل الله ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم‏)‏ الآية وسيأتي بسط القول فيما يتعلق بالسؤال في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏(‏ما تركتكم‏)‏ أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء، وإنما غاير بين اللفظين لأنهم أماتوا الفعل الماضي واسم الفاعل منهما واسم مفعولهما وأثبتوا الفعل المضارع وهو ‏"‏ يذر ‏"‏ وفعل الأمر وهو ‏"‏ ذر ‏"‏ ومثله دع ويدع ولكن سمع ودع كما قرئ به في الشاذ في قوله تعالى ‏(‏ما ودعك ربك وما قلى‏)‏ قرأ بذلك إبراهيم ابن أبي عبلة وطائفة‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ ونحن ودعنا آل عمرو بن عامر فرائس أطراف المثقفة السمر ويحتمل أن يكون ذكر ذلك على سبيل التفنن في العبارة، وإلا لقال اتركوني، والمراد بهذا الأمر ترك السؤال عن شيء لم يقع خشية أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السؤال لما فيه غالبا من التعنت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يستثقل، فقد يؤدي لترك الامتثال فتقع المخالفة، قال ابن فرج معنى قوله ‏"‏ ذروني ما تركتكم ‏"‏ لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظهر ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله ‏"‏ حجوا ‏"‏ وإن كان صالحا للتكرار فينبغي أن يكتفى بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة فإن الأصل عدم الزيادة، ولا تكثروا التنقيب عن ذلك لأنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل، إذ أمروا أن يذبحوا البقرة فلو ذبحوا أي بقرة كانت لامتثلوا ولكنهم شددوا فشدد عليهم، وبهذا تظهر مناسبة قوله ‏"‏ فإنما هلك من كان قبلكم ‏"‏ إلى آخره بقوله ‏"‏ ذروني ما تركتكم ‏"‏ وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق أبي رافع عن أبي هريرة مرفوعا ‏"‏ لو اعترض بنو إسرائيل أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله عليهم ‏"‏ وفي السند عباد ابن منصور وحديثه من قبيل الحسن وأورده الطبري عن ابن عباس موقوفا وعن أبي العالية مقطوعا، واستدل به على أن لا حكم قبل ورود الشرع وأن الأصل في الأشياء عدم الوجوب‏.‏

قوله ‏(‏فإنما أهلك‏)‏ بفتحات وقال بعد ذلك سؤالهم بالرفع على أنه فاعل أهلك‏.‏

وفي رواية غير الكشميهني ‏"‏ أهلك ‏"‏ بضم أوله وكسر اللام وقال بعد ذلك ‏"‏ بسؤالهم ‏"‏ أي بسبب سؤالهم، وقوله ‏"‏واختلافهم ‏"‏ بالرفع وبالجر على الوجهين، ووقع في رواية همام عند أحمد بلفظ ‏"‏ فإنما هلك ‏"‏ وفيه بسؤالهم ويتعين الجر في ‏"‏ واختلافهم ‏"‏ وفي رواية الزهري ‏"‏ فإنما هلك ‏"‏ وفيه ‏"‏ سؤالهم ‏"‏ ويتعين الرفع في ‏"‏ واختلافهم ‏"‏ وأما قول النووي في ‏"‏ أربعينه ‏"‏ واختلافهم برفع الفاء لا بكسرها فإنه باعتبار الرواية التي ذكرها وهي التي من طريق الزهري‏.‏

قوله ‏(‏فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه‏)‏ في رواية محمد بن زياد ‏"‏ فانتهوا عنه ‏"‏ هكذا رأيت هذا الأمر على تلك المقدمة والمناسبة فيه ظاهرة، ووقع في أول رواية الزهري المشار إليها ‏"‏ ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ‏"‏ فاقتصر عليها النووي في الأربعين، وعزا الحديث للبخاري ومسلم، فتشاغل بعض شراح الأربعين بمناسبة تقديم النهي على ما عداه ولم يعلم أن ذلك من تصرف الرواة، وأن اللفظ الذي أورده البخاري هنا أرجح من حيث الصناعة الحديثية لأنهما اتفقا على إخراج طريق أبي الزناد دون طريق الزهري وإن كان سند الزهري مما عد في أصح الأسانيد، فإن سند أبي الزناد أيضا مما عد فيها فاستويا، وزادت رواية أبي الزناد اتفاق الشيخين، وظن القاضي تاج الدين في شرح المختصر أن الشيخين اتفقا على هذا اللفظ، فقال‏:‏ بعد قول ابن الحاجب الندب أي احتج من قال إن الأمر للندب بقوله ‏"‏ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ‏"‏ فقال الشارح‏:‏ رواه البخاري ومسلم ولفظهما ‏"‏ وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ‏"‏ وهذا إنما هو لفظ مسلم وحده ولكنه اغتر بما ساقه النووي في الأربعين، ثم إن هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله كشرب الخمر وهذا على رأي الجمهور، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا‏:‏ الإكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها، والصحيح عدم المؤاخذة إذا وجدت صورة الإكراه المعتبرة، واستثنى بعض الشافعية من ذلك الزنا، فقال‏:‏ لا يتصور الإكراه عليه وكأنه أراد التمادي فيه، وإلا فلا مانع أن يتعظ الرجل بغير سبب فيكره على الإيلاج حينئذ فيولج في الأجنبية، فإن مثل ذلك ليس بمحال، ولو فعله مختارا لكان زانيا فتصور الإكراه على الزنا، واستدل به من قال لا يجوز التداوي بشيء محرم كالخمر، ولا دفع العطش به، ولا إساغة لقمة من غص به؛ والصحيح عند الشافعية جواز الثالث حفظا للنفس فصار كأكل الميتة لمن اضطر، بخلاف التداوي فإنه ثبت النهي عنه نصا، ففي مسلم عن وائل رفعه أنه ليس بدواء ولكنه داء، ولأبي داود عن أبي الدرداء رفعه ‏"‏ ولا تداووا بحرام ‏"‏ وله عنه أم سلمة مرفوعا إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها، وأما العطش فإنه لا ينقطع بشربها ولأنه في معنى التداوي والله أعلم، والتحقيق أن الأمر باجتناب المنهي على عمومه ما لم يعارضه إذن في ارتكاب منهي كأكل الميتة للمضطر‏.‏

وقال الفاكهاني لا يتصور امتثال اجتناب المنهي حتى يترك جميعه، فلو اجتنب بعضه لم يعد ممتثلا بخلاف الأمر - يعني المطلق - فإن من أتى بأقل ما يصدق عليه الاسم كان ممتثلا انتهى ملخصا‏.‏

وقد أجاب هنا ابن فرج بأن النهي يقتضي الأمر فلا يكون ممتثلا لمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدا من آحاد ما يتناوله النهي بخلاف الأمر فإنه على عكسه ومن ثم نشأ الخلاف، هل الأمر بالشيء نهي عن ضده، وبأن النهي عن الشيء أمر بضده‏.‏

قوله ‏(‏وإذا أمرتكم بشيء‏)‏ في رواية مسلم ‏"‏ بأمر‏"‏، ‏(‏فأتوا منه ما استطعتم‏)‏ أي افعلوا قدر استطاعتكم، ووقع في رواية الزهري ‏"‏ وما أمرتكم به ‏"‏ وفي رواية همام المشار إليها ‏"‏ وإذا أمرتكم بالأمر فائتمروا ما استطعتم ‏"‏ وفي رواية محمد بن زياد ‏"‏ فافعلوا ‏"‏ قال النووي هذا من جوامع الكلم وقواعد الإسلام، ويدخل فيه كثير من الأحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والإمساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها‏.‏

وقال غيره فيه أن من عجز عن بعض الأمور لا يسقط عنه المقدور، وعبر عنه بعض الفقهاء بأن الميسور لا يسقط بالمعسور، كما لا يسقط ما قدر عليه من أركان الصلاة بالعجز عن غيره، وتصح توبة الأعمى عن النظر المحرم، والمجبوب عن الزنا، لأن الأعمى والمجبوب قادران على الندم فلا يسقط عنهما بعجزهما عن العزم على عدم العود، إذ لا يتصور منهما العود عادة فلا معنى للعزم على عدمه، واستدل به على أن من أمر بشيء فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن ‏"‏ ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه ‏"‏ ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد، واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد فإن قيل إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ ‏(‏لا يكلف الله نفسا إلا وسعها‏)‏ فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به؛ بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي، وعبر الطوفي في هذا الموضع بأن ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه، وفعل المأمور به عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وقد نوزع بأن القدرة على استصحاب عدم المنهي عنه قد تتخلف، واستدل له بجواز أكل المضطر الميتة، وأجيب بأن النهي في هذا عارضه الإذن بالتناول في تلك الحالة‏.‏

وقال ابن فرج في ‏"‏ شرح الأربعين ‏"‏ قوله ‏"‏ فاجتنبوه ‏"‏ هو على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه، كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الإكراه، والأصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان كما نطق به القرآن انتهى‏.‏

والتحقيق أن المكلف في ذلك كله ليس منهيا في تلك الحال، وأجاب الماوردي بأن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو يشق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر لأنه ترك، والترك لا يعجز المعذور عنه؛ وأباح ترك العمل بالعذر لأن العمل قد يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏ يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة واستويا، فحينئذ يكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الأمر بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله ما استطعتم‏)‏ نسخ بقوله تعالى ‏(‏فاتقوا الله حق تقاته‏)‏ والصحيح أن لا نسخ بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز، واستدل به على أن المكروه يجب اجتنابه لعموم الأمر باجتناب المنهي عنه فشمل الواجب والمندوب، وأجيب بأن قوله ‏"‏ فاجتنبوه ‏"‏ يعمل به في الإيجاب والندب بالاعتبارين، ويجيء مثل هذا السؤال وجوابه في الجانب الآخر وهو الأمر‏.‏

وقال الفاكهاني النهي يكون تارة مع المانع من النقيض وهو المحرم، وتارة لا معه وهو المكروه، وظاهر الحديث يتناولهما واستدل به على أن المباح ليس مأمورا به، لأن التأكيد في الفعل إنما يناسب الواجب والمندوب، وكذا عكسه، وأجيب بأن من قال المباح مأمور به لم يرد الأمر بمعنى الطلب وإنما أراد بالمعنى الأعم وهو الإذن، واستدل به على أن الأمر لا يقتضي التكرار ولا عدمه، وقيل يقتضيه وقيل يتوقف فيما زاد على مرة؛ وحديث الباب قد يتمسك به لذلك لما في سببه أن السائل قال في الحج أكل عام‏؟‏ فلو كان مطلقه يقتضي التكرار أو عدمه لم يحسن السؤال ولا العناية بالجواب، وقد يقال إنما سأل استظهارا واحتياطا‏.‏

وقال المازري يحتمل أن يقال إن التكرار إنما احتمل من جهة أن الحج في اللغة قصد فيه تكرار فاحتمل عند السائل التكرار من جهة اللغة لا من صيغة الأمر، وقد تمسك به من قال بإيجاب العمرة لأن الأمر بالحج إذا كان معناه تكرار قصد البيت بحكم اللغة والاشتقاق، وقد ثبت في الإجماع أن الحج لا يجب إلا مرة فيكون العود إليه مرة أخرى دالا على وجوب العمرة، واستدل به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في الأحكام لقوله ‏"‏ ولو قلت نعم لوجبت ‏"‏ وأجاب من منع باحتمال أن يكون أوحي إليه ذلك في الحال، واستدل به على أن جميع الأشياء على الإباحة حتى يثبت المنع من قبل الشارع، واستدل به على النهي عن كثرة المسائل والتعمق في ذلك، قال البغوي في ‏"‏ شرح السنة ‏"‏ المسائل على وجهين أحدهما‏:‏ ما كان على وجه التعليم لما يحتاج إليه من أمر الدين فهو جائز بل مأمور به لقوله تعالى ‏(‏فاسألوا أهل الذكر‏)‏ الآية، وعلى ذلك تتنزل أسئلة الصحابة عن الأنفال والكلالة وغيرهما، ثانيهما‏:‏ ما كان على وجه التعنت والتكلف وهو المراد في هذا الحديث والله أعلم، ويؤيده ورود الزجر في الحديث عن ذلك وذم السلف، فعند أحمد من حديث معاوية ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات ‏"‏ قال الأوزاعي هي شداد المسائل‏.‏

وقال الأوزاعي أيضا ‏"‏ إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علما ‏"‏ وقال ابن وهب سمعت مالكا يقول ‏"‏ المراء في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل ‏"‏ وقال ابن العربي ‏"‏ كان النهي عن السؤال في العهد النبوي خشية أن ينزل ما يشق عليهم، فأما بعد فقد أمن ذلك لكن أكثر النقل عن السلف بكراهة الكلام في المسائل التي لم تقع ‏"‏ قال ‏"‏ وإنه لمكروه إن لم يكن حراما إلا للعلماء فإنهم فرعوا ومهدوا فنفع الله من بعدهم بذلك، ولا سيما مع ذهاب العلماء ودروس العلم ‏"‏ انتهى ملخصا‏.‏

وينبغي أن يكون محل الكراهة للعالم إذا شغله ذلك عما هو أعم منه، وكان ينبغي تلخيص ما يكثر وقوعه مجردا عما يندر، ولا سيما في المختصرات ليسهل تناوله والله المستعان‏.‏

وفي الحديث إشارة إلى الاشتغال بالأهم المحتاج إليه عاجلا عما لا يحتاج إليه في الحال فكأنه قال‏:‏ عليكم بفعل الأوامر واجتناب النواهي فاجعلوا اشتغالكم بها عوضا عن الاشتغال بالسؤال عما لم يقع‏.‏

فينبغي للمسلم أن يبحث عما جاء عن الله ورسوله ثم يجتهد في تفهم ذلك والوقوف على المراد به‏.‏

ثم يتشاغل بالعمل به فإن كان من العلميات يتشاغل بتصديقه واعتقاد حقيته، وإن كان من العمليات بذل وسعه في القيام به فعلا وتركا، فإن وجد وقتا زائدا على ذلك فلا بأس بأن يصرفه في الاشتغال بتعرف حكم ما سيقع على قصد العمل به أن لو وقع، فأما إن كانت الهمة مصروفة عند سماع الأمر والنهي إلى فرض أمور قد تقع وقد لا تقع مع الإعراض عن القيام بمقتضى ما سمع فإن هذا مما يدخل في النهي، فالتفقه في الدين إنما يحمد إذا كان للعمل لا للمراء والجدال‏.‏

وسيأتي بسط ذلك قريبا إن شاء الله تعالى‏.‏