فصل: عمرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الدرر في اختصار المغازي والسير



.أُعْطِيَاتُ المؤلفة قلوبهم:

ولم يختلف أهل السير وغيرهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى المؤلفة قلوبهم من قريش وغيرهم، ولا ذِكْرَ للمؤلفة قلوبهم في غير آية قسم الصدقات، قالوا: أعطى قريشا مائة بعير مائة بعير، وكذلك أعطى عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس، قَالَ ابن إسحاق: أعطاهم يتألفهم ويتألف بهم قومهم وكانوا أشرافا، فأعطى أبا سفيان بْن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيم بْن حزام مائة بعير، وأعطى الحارث بْن هشام مائة بعير، وأعطى سهيل بْن عمرو مائة بعير، وأعطى حويطب بْن عبد العزى مائة بعير، وأعطى صفوان بْن أمية مائة بعير، وكذلك أعطى مالك بْن عوف والعلاء بْن جارية الثقفي حليف بني زهرة، قَالَ: فهؤلاء أصحاب المئين، وأعطى رجالا من قريش دون المائة، منهم مخرمة بْن نوفل الزهري، وعمير بْن وهب الجمحي، وهشام بْن عمرو العامري، لا أعرف ما أعطاهم، وأعطى سعيد بْن يربوع خمسين بعيرا، وأعطى عباس بْن مرداس السلمي أباعر قليلة فتسخطها، وقال في ذلك: وكانت نهابا تلافيتها بكرى على المهر في الأجرع وإيقاظي القوم أن يرقدوا إذا هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع وقد كنت في الحرب ذا تدرأ فلم أعط شيئا ولم أمنع إلا أفائل أعطيتها عديد قوائمها الأربع وما كان حصن ولا حابس يفوقان شيخي في المجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبُوا فَاقْطَعُوا عَنِّي لِسَانَهُ» فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قَطْعَ لسانه، وقيل: إن عباس بْن مرداس أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال أَبُو بكر الصديق: بين عيينة والأقرع، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هما واحد» وقال أَبُو بكر: أشهد أنك كما قَالَ الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قَالَ أَبُو عمر: لو كان ما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين من خمس الخمس كما زعم من زعم ذلك، أو من الخمس الذي قَالَ فيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مالي من غنائمكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» ما شق ذلك والله أعلم على الأنصار حتى قالوا ما هو محفوظ عنهم، وقد كتبت ذلك فيما بعد، ولكنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم من إيمانهم وكرمهم أنهم سيرضون بفعله، لأن حرصهم على ظهور الدين من حرصه رضي الله عنهم.

.تسمية المؤلفة قلوبهم:

من بني أمية: أَبُو سفيان بْن حرب بْن أمية، وابنه معاوية، وطليق بْن سفيان بْن أمية، وخالد بْن أسيد بْن أبي العيص بْن أمية، ومن بني عَبْد الدار بْن قصي: شيبة بْن عثمان بْن أبي طلحة، وأبو السنابل بْن بعكك، وعكرمة بْن عامر بْن هاشم، ومن بني مخزوم: زهير بْن أبي أمية، والحارث بْن هشام، وأخوه خالد بْن هشام، وهشام بْن الوليد بْن المغيرة، وسفيان بْن عَبْد الأسد، والسائب بْن أبي السائب، ومن بني عدي بْن كعب: مطيع بْن الأسود، وأبو جهم بْن حذيفة، ومن بني جمح: صفوان بْن أمية بْن خلف، وأخوه أحيحة بْن أمية، وعمير بْن وهب بْن خلف، ومن بني سهم: عدي بْن قيس بْن حذافة، ومن بني عامر بْن لؤي: حويطب بْن عَبْد العزى، وهشام بْن عمرو بْن ربيعة، ومن سائر قبائل العرب من بني الديل بْن بكر بْن عَبْد مناة: نوفل بْن معاوية، ومن بني قيس، ثم من بني عامر بْن صعصعة، ثم من بني كلاب بْن ربيعة بْن عامر: علقمة بْن علاثة بْن عوف بْن الأحوص بْن جعفر بْن كلاب، ولبيد بْن ربيعة بْن مالك بْن جعفر بْن كلاب، ومن بني عامر بْن صعصعة: خالد بْن هوذة بْن ربيعة بْن عمرو بْن عامر، وأخوه حرملة بْن هوذة، ومن بني نصر بْن معاوية: مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع، ومن بني سليم بْن منصور: عباس بْن مرداس، ومن غطفان ثم من فزارة: عيينة بْن حصن، ومن بني تميم ثم من بني حنظلة: الأقرع بْن حابس، وقد ذكر في المؤلفة حكيم بْن حزام، والنضير بْن الحارث بْن علقمة بْن كلدة أخو النضر بْن الحارث المقتول ببدر صبرا، وذكر آخرون النضير بْن الحارث فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فإن كان منهم فمحال أن يكون من المؤلفة قلوبهم، ومن هاجر إلى أرض الحبشة فهو من المهاجرين الأولين ممن رسخ الإيمان في قلبه وقاتل دونه، ليس ممن يؤلف عليه، وعند إعطاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار ولا المهاجرين قَالَ ذو الخويصرة التميمي: قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم يا مُحَمَّد، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أجل، فكيف رأيت؟» قَالَ: لم أرك عدلت، فغضب النبي عليه السلام، وقال: «ويحك إن لم يكن العدل مني فعند من يكون؟» فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقه يا رسول الله، فقال: «لا، دعوه، سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية».

.موقف بعض الأنصار:

قَالَ ابن إسحاق: وحدثني عاصم بْن عمر بْن قتادة قَالَ: لما أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك العطايا في قريش وقبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، فدخل عليه سعد بْن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم بما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قَسَمْتَ في قومك، وأعطيت قوما من العرب عطايا عظاما، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قَالَ: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟» قَالَ: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قَالَ: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» قَالَ: فخرج سعد فجمع من الأنصار في تلك الحظيرة، وجاء رجل من المهاجرين فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا أتاه سعد، فقال: يا رسول الله، قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: «يا معشر الأنصار، ما قَالَةٌ بلغتني عنكم، ووجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟» قالوا: بلى، لله ورسوله المن والفضل، ثم قَالَ: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟» قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل، فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار فِي أنفسكم فِي لُعَاعَةٍ من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إيمانكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ والذي نفس مُحَمَّد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، قَالَ: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسما وحظا، فانصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وروي أن قائلا قَالَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أعطيت عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس وتركت جعيل بْن سراقة الضمري، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفس مُحَمَّد بيده، لَجُعَيْلُ بْن سراقة خير من طلاع الأرض مثل الأقرع وعيينة، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيلا إلى إسلامه»، وكان هذا القسم بالجعرانة، وروى أَبُو الزبير وغيره، عن جابر، قَالَ: بصرت عيناي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجعرانة، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبض ويعطي الناس.

.عمرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة:

ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمرا من الجعرانة إلى مكة، وأمر ببقايا الفيء، فخمس بناحية مر الظهران، فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف على مكة عتاب بْن أسيد بْن أبي العيص وهو ابن نيف وعشرين سنة، ودخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة لست بقين من ذي القعدة، وكانت وقعة الطائف في ذي القعدة المؤرخ من السنة الثامنة من الهجرة، وكانت غيبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها، وأوقع بهوازن، وحارب الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما، واستعمل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالك بْن عوف بْن سعيد بْن يربوع النصري على من أسلم من قومه من قبائل قيس، وأمره بمغاورة ثقيف، ففعل وضيق عليهم، وحسن إسلامه وإسلام المؤلفة قلوبهم حشا عيينة بْن حصن، فلم يزل مغموزا عليه، وسائر المؤلفة قلوبهم منهم الخير الفاضل المجمع على خيره كالحارث بْن هشام حكيم بْن حزام، وعكرمة بْن أبي جهل، وسهيل بْن عمرو، ومنهم دون هؤلاء، وقد فضل الله النبيين وسائر عباده المؤمنين بعضهم على بعض، وهو أعلم بهم، ثم انصرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرقوا، وأقام الحج للناس عتاب بْن أسيد في تلك السنة، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام، وحج المشركون على مشاعرهم، وكان عتاب بْن أسيد خَيِّرًا فاضلا ورعا، وقدم كعب بْن زهير بْن أبي سلمى على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلما وامتدحه، وقام على رأسه بقصيدته التي أولها: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، وأنشدها إلى آخرها، وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم، وكان قبل ذلك حُفِظَ له هجاءٌ في النبي عليه السلام، فعاب عليه الأنصار إذ لم يذكرهم، فغدا على النبي عليه السلام بقصيدة يمدح فيها الأنصار، وقبل النبي عليه السلام إسلامه، وسمع شعره وأثابه.

.غزوة تبوك:

ثم أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة بعد انصرافه من حصار الطائف ذا الحجة، والمحرم، وصفرا، وربيعا الأول، وربيعا الآخر، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، وخرج في رجل من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة الروم، وهي آخر غزاة غزاها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه، وكان خروجه إلى غزوته تلك في حر شديد، وحين طاب أول الثمر، وفي عام جدب، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكاد يخرج غازيا إلا وَرَّى بغيره، إلا غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد المسافة، ونفقة المال، والشُّقَّةِ، وقوة العدو المقصود إليه، فتأخر الجد بْن قيس من بني سلمة وكان متهما بالنفاق، فاستأذن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البقاء وهو غني قوي، فأذن له وأعرض عنه، فنزلت فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} وكان نفر من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي عند جاسوم يثبطون الناس عن الغزو، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلحة بْن عبيد الله في نفر وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت ففعل ذلك طلحة، فاقتحم الضحاك بْن خليفة وكان معهم في البيت جدار الدار، فوقع فانكسرت رجله، وفر ابن أبيرق وكان معهم، وأنفق ناس من المسلمين واحتسبوا، وأنفق عثمان بْن عفان رضي الله عنه نفقة عظيمة جهز بها جماعة من المعسرين في تلك الغزوة، وروي أنه حمل في تلك الغزاة على تسع مائة بعير ومائة فرس، وجهزهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا شكالا، وروي أنه أنفق فيها ألف دينار، وفي هذه الغزوة أتى رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البكاءون وهم سبعة: سالم بْن عمير من بني عمرو بْن عوف، وعلبة بْن زيد أخو بني حارثة، وأبو ليلى عَبْد الرحمن بْن كعب من بني مازن بْن النجار، وعمرو بْن الحمام من بني سلمة، وعبد الله بْن المغفل المزني، وقيل: بل هو عَبْد اللهِ بْن عمرو المزني، وهرمي بْن عَبْد اللهِ أخو بني واقف، وعرباض بْن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يجدوا عنده ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، فسموا البكائين، وذكروا أن ابن يامين بْن عمير النضري حمل أبا ليلى وعبد الله بْن مغفل على ناضح له يعتقبانه، وزودهما تمرا كثيرا، واعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله عليه السلام، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضرب عسكره على باب المدينة، واستعمل عليها مُحَمَّد بْن مسلمة، وقيل: بل سباع بْن عرفطة، وقيل: بل خلف عليها علي بْن أبي طالب رضي الله عنه، وهو الأثبت، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف عليا في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استثقله، فذكر ذلك علي رضوان الله عليه لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خبر سعد، فقال: «كذبوا، إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» والآثار بذلك متواترة صحاح قد ذكرت كثيرا منها في غير هذا الموضع، وخرج عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول بعسكره فضربه على باب المدينة أيضا، فكان عسكره فيما زعموا ليس بأقل العسكريين، وهو يظهر الغزاة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تخلف عَبْد اللهِ بْن أبي بْن سلول فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، خَلَّفَهُمْ سُوءُ نياتهم ونفاقهم، وتخلف في هذه الغزاة من صالحي المسلمين ثلاثة رجال وهم: كعب بْن مالك الشاعر من بني سلمة، ومرارة بْن ربيعة، ويقال: ابن الربيع من بني عمرو بْن عوف، وهلال بْن أمية الواقفي، فافتقدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد يوم أو يومين، فقيل له تخلفوا، فعجل من ذلك وعز عليه لأنه كان يعرف إيمانهم وفضلهم، ونهض فخطر على حجر ثمود، فأمر أصحابه أن لا يتوضئوا من بئر ثمود، ولا يعجنوا خبزا بمائها، ولا يستعملوا شيئا منه، فقيل: إن قوما عجنوا منه، فأمر بالعجين فطرح للإبل علفا، وأمرهم أن لا يستعملوا ماء بئر الناقة في كل ما يحتاجون إليه، وأمر أصحابه عليه السلام بأن لا يدخلوا بيوت ثمود، وقال: «لا تدخلوا بيوت هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ونهاهم أن يخرج أحدهم منفردا، فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحد منهما منفرد عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط، فَخُنِقَ، فَأُخْبِرَ النبي عليه السلام، فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعير له، فأخذته الريح ورمته في جبل طيء فردته بعد ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعطش الناس في تلك الغزاة عطشا شديدا، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه فأرسل عليهم سحابة ارتووا منها وَدَوَابُّهُمْ وَإِبِلُهُمْ، وأخذوا حاجتهم من الماء، وأضل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته، وقال من في قلبه نفاق: مُحَمَّد يدعي أن خبر السماء يأتيه، ولا يدري أين ناقته، فنزل الوحي بما قَالَ هذا القائل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا أصحابه فأخبرهم بقول القائل، وأخبرهم أن الله عز وجل قد عرفه بموضع ناقته، وأنها في موضع كذا قد تعلق خطامها بشجرة، فابتدروا المكان الذي وصف عليه السلام فوجدوها هنالك، وقيل: إن قائل ذلك القول زيد بْن اللصيت القينقاعي وكان منافقا، وقيل: إنه تاب بعد ذلك، وقيل: لم يتب والله أعلم، وفي هذه الغزاة ذكروا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى أبا ذر يمشي في ناحية العسكر وحده فقال: «يرحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» فكان كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مات بالربذة وحده، وأخرج بعد أن كفن إلى الطريق يلتمس من يصلي عليه، فصادف إقبال ابن مسعود من الكوفة فصلى عليه، وكان ممن سمع هذا الحديث، فحدث به يومئذ أيضا، ونزل القرآن من سورة براءة وسورة الأحزاب بفضيحة المنافقين الذين كانوا يخذلون المسلمين، وتاب من أولئك مخشن بْن حمير، ودعا الله أن يكفر عنه بشهادة يخفي بها مكانه، فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر.