فصل: (فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: اشترى شقصاً بعين فتلفت]

وإن اشترى شقصا بعين، فتلفت قبل القبض.. بطل البيع، وبطلت الشفعة؛ لأن الشفعة فرع للبيع، فإذا بطل الأصل.. بطل الفرع، وهكذا: لو اشترى شقصاً بعرض، فاستحق العرض.. بطلت الشفعة؛ لما ذكرناه.

.[فرع: اشترى شقصاً بعبد فوجد به عيباً]

ًوإن اشترى شقصاً بعبد، فوجد بائع الشقص بالعبد عيباً، فلا يخلو: إما أن يكون ذلك بعد أخذ الشفيع الشقص من المشتري، أو قبل أن يأخذه.
فإن كان ذلك بعد أن أخذ الشفيع الشقص.. فلبائع الشقص أن يرد العبد على المشتري؛ لأنه ملكه منه بعقد معاوضة، فكان له رده بالعيب، فإذا رده عليه.. لم يكن للمشتري أن يسترجع الشقص من الشفيع؛ لأن الشفيع قد ملكه بالأخذ، فلم يجز إبطال ملكه، كما لو باعه للمشتري، ثم وجد بائعه بالثمن عيباً.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص؛ لأنه تعذر عليه الرجوع إلى عين الشقص، فرجع عليه بقيمته، كما لو غصب شيئاً، فتلف في يده.
إذا ثبت هذا: وقد أخذ المشتري من الشفيع قيمة العبد.. فهل يثبت التراجع بين
الشفيع والمشتري بما بين قيمة الشقص وقيمة العبد إن كان بينهما اختلاف؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تراجع بينهما؛ لأن الشفيع قد أخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد، وهو قيمة العبد، ولا يتغير ذلك لما حدث من الرد.
والثاني: يتراجعان؛ لأن الشفيع يأخذ الشقص بما استقر على المشتري والذي استقر عليه الآن، وهو قيمة الشقص.
فعلى هذا: يقابل بين القيمتين، فإن كانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد.. رجع المشتري على الشفيع بما زاد على قيمة العبد، وإن كانت قيمة العبد أكثر من قيمة الشقص.. استرجع الشفيع من المشتري ما زاد من قيمة العبد على قيمة الشقص، فإن عاد الشقص إلى المشتري ببيع، أو هبة، أو إرث.. لم يكن للبائع أن يرد القيمة ويطالب بالشقص؛ لأن ملك البائع والمشتري قد زال عن الشقص، بخلاف المغصوب إذا ضل عن الغاصب؛ لأن ملك المغصوب منه لم يزل.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً قبل أن يأخذ الشفيع الشقص.. فأيهما أحق بالشقص؟ فيه وجهان:
أحدهما: أن البائع أحق به؛ لأن الشفعة تثبت لإزالة الضرر عن الشفيع، وفي إثباتها هاهنا إضرار بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر.
والثاني: أن الشفيع أحق بالشقص؛ لأن حقه سابق؛ لأنه ثبت بالبيع.
فعلى هذا: يرجع بائع الشقص على المشتري بقيمة الشقص، وهل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته، أو بقيمة العبد؟ على الوجهين المذكورين في التراجع.
وإن وجد بائع الشقص بالعبد عيباً، وقد حدث عنده فيه عيب آخر.. فلا يجبر المشتري على قبول العبد لأجل العيب الحادث عند بائع الشقص، ولكن يرجع بائع
الشقص على المشتري بأرش العيب، وهل يرجع المشتري على الشفيع بشيء؟ قال أصحابنا: ينظر فيه:
فإن كان الشفيع قد دفع إلى المشتري قيمة العبد سليما. فلا يرجع عليه بشيء؛ لأنه قد أخذ منه قيمته سليما، فدخل في جملة ذلك أرش العيب.
وإن كان قومه عليه معيبا.. فهل يرجع عليه بشيء فيه وجهان:
أحدهما: لا يرجع عليه؛ لأنه استحقه بما سمي في العقد.
والثاني: يرجع عليه؛ لأن الثمن استقر على المشتري بالعبد والأرش.
قال ابن الصباغ: وينبغي أن يرجع هاهنا، وجها واحدا بخلاف ما تقدم من قيمة الشقص؛ لأن العقد اقتضى أن يكون العبد سليما، فما دفع إلا ما اقتضاه العقد، بخلاف قيمة الشقص، ولهذا لو كان دفع قيمة عبد سليم.. لم يكن للشفيع أن يرجع عليه بقدر قيمة العبد، فثبت أن ذلك مستحق على الشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن قيمة الشقص إذا كانت أكثر من قيمة العبد، وأخذ الشفيع بقيمته سليما.. أن حكمه حكم ما لو أخذ الشقص بقيمته معيبا؛ لأن البائع إنما يرجع على المشتري بالأرش بجزء من قيمة الشقص، فحينئذ يستقر عليه الشقص بأكثر من قيمة العبد، وهل يكون له الرجوع بالفضل؟ على ما مضى من الوجهين.

.[فرع: الشقص يكون مهرا وعوض خلع وأجره]

قد ذكرنا: أن الشقص إذا جعل مهرا في نكاح، أو عوضا في خلع، أو أجرة في إجارة.. فإن الشفعة تثبت فيه، ومضى خلاف أبي حنيفة فيها.
إذا ثبت هذا: فإن الشفيع يأخذه، ويلزمه أن يدفع إلى المرأة مهر مثلها إذا كان صداقا، ويدفع إلى الزوج مهر مثل المرأة التي خالعته عليه، ويدفع إلى المؤاجر أجرة مثل المنفعة التي جعل الشقص أجرة عنها.
وقال مالك: (يلزمه قيمة الشقص).
ودليلنا: أن المنفعة لا مثل لها، فأخذ الشفيع بقيمتها، كالثوب، والعبد.
وإن جعل الشقص متعة في طلاق امرأة.. فيأخذ الشفيع بمتعة مثلها، لا بمهر مثلها؛ لأن الواجب المتعة لا المهر.

.[فرع: أمهر شقصا فيه شفعة]

إذا أصدق الرجل امرأته شقصا فيه شفعة، ثم طلقها قبل الدخول، فإن طلقها بعد ما أخذ الشفيع الشقص.. فإن الزوج لا يستحق الرجوع في نصف الشقص؛ لأن ملك المرأة قد زال عنه، ولكن يرجع الزوج على زوجته بنصف قيمة الشقص، كما لو كان الشقص تالفا.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع عليها بقيمة نصف الشقص أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض؛ لأن القيمة إن كانت أقل وقت العقد، ثم زادت.. فالزيادة حدثت في ملكها، فلا يرجع الزوج عليها بها، وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر، ثم نقصت.. فالنقصان مضمون عليه، فلا يرجع عليها بما هو مضمون عليه. ولم يذكر أصحابنا التراجع بين الزوجة والشفيع.
قلت: والذي يقتضي المذهب: أن الزوجة قد أخذت من الشفيع مهر مثلها، وقد دفعت إلى الزوج نصف قيمة الشقص، فإن كان بين نصف مهر المثل وبين نصف قيمة الشقص فضل.. فهل يثبت بينهما التراجع فيه؟ يحتمل أن تكون على الوجهين، كما قلنا في العبد المعيب.
وإن عفا الشفيع عن الشفعة، ثم طلقها الزوج قبل الدخول.. رجع الزوج بنصف الشقص؛ لأن حق الشفيع قد سقط عنه.
وإن طلقها الزوج قبل الدخول، وقبل علم الشفيع بالنكاح.. ففيه وجهان:
أحدهما: أن الزوج أولى بالرجوع، فيرجع بنصف الشقص، ويأخذ الشفيع النصف بنصف مهر المثل؛ لأن حق الزوج ثبت بنص القرآن، وهو قَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، وحق الشفيع ثبت بأخبار الآحاد، والاجتهاد.
والثاني - وهو المنصوص -: (أن الشفيع أحق)؛ لأن حقه أسبق؛ لأنه ثبت بعقد النكاح، وحق الزوج ثبت بالطلاق، ولأن حق الشفيع ثبت أيضا بالإجماع، وما ثبت بالإجماع.. كالثابت بنص الكتاب، ومع هذا ترجيح، وهو أنا إذا دفعنا الشقص إلى الشفيع.. لم يسقط حق الزوج؛ لأنه يرجع إلى قيمة الشقص، فإذا دفعناه إلى الزوج.. أسقطنا حق الشفيع، فكان هذا أولى.

.[مسألة: اشترى شقصا فيه الشفعة]

إذا اشترى رجل شقصا فيه شفعة.. فلا يخلو: إما أن يعلم الشفيع بالبيع، أو لم يعلم.
فإن لم يعلم، مثل: أن كان غائبا، أو كتم عنه.. لم تسقط شفعته وإن طال الزمان؛ لأن هذا خيار لإزالة الضرر، فلا يسقط بالجهل به، كما لو اشترى شيئا معيبا، ولم يعلم بالعيب إلا بعد زمان طويل.
وهكذا: لو علم بالبيع، ولم يعلم من المشتري، أو لم يعلم جنس الثمن، أو قدره.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لا يعلم القدر من الثمن الذي يدفعه، ولأن له غرضا في العلم بعين المشتري؛ لأنه قد لا يرضى بشركة رجل، ويرضى بشركة غيره.
وإن علم بالبيع، وقدر الثمن، والمشتري.. فلا يخلو: إما أن يكون له عذر، أو لا يكون له عذر.
فإن لم يكن له عذر، وطالب بالشفعة على الفور.. صح ذلك، وإن أخر الطلب عن الفور.. فهل تسقط شفعته؟ فيه أربعة أقوال:
أحدها - قاله في القديم - (أن له الخيار على التأبيد لا يسقط إلا بالعفو، أو بما
يدل على الترك، بأن يقول للمشتري: قاسمني، أو بعني، وليس للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك).
ووجهه: قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه، ولم يؤذنه.. فشريكه أحق». ولم يفرق.
ولأنه استيفاء حق له، فجاز له تأخيره إلى أي وقت شاء، كالقصاص.
والقول الثاني - قاله في القديم أيضا -: (أنه على التراخي لا يسقط إلا بصريح العفو، أو بما يدل عليه)، إلا أن للمشتري أن يرفعه إلى الحاكم ليجبره على الأخذ، أو الترك؛ لأنا لو قلنا: إنه على الفور.. أضررنا بالشفيع؛ لأن الحظ له أن يؤخر لينظر: هل الحظ في الأخذ، أو الترك؟ ولو قلنا: إنه على التأبيد.. أضررنا بالمشتري؛ لأنه لا يغرس في أرضه، ولا يبني مخافة أن ينتزع ذلك منه، فجعل له الخيار إلى أن يرفعه المشتري إلى الحاكم.
والقول الثالث - قاله الشافعي في (سير) " حرملة " -: (أن للشفيع الخيار إلى ثلاثة أيام)، لأنه لا يمكن أن يجعل له الخيار على التأبيد، ولا على الفور؛ لما بيناه، ولا بد من فصل بينهما، وقدر ذلك بثلاثة أيام؛ لأنها مدة قريبة؛ لأنها آخر حد القلة، وأول حد الكثرة، والضرر يزول عنهما بذلك.
والرابع - قاله في الجديد -: (أن خياره على الفور). فإذا أخر الطلب من غير عذر.. سقطت شفعته، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة لمن واثبها»، وروي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الشفعة كنشطة العقال، إن قيدت.. ثبتت، وإن تركت فاللوم على من تركها». ولأنه خيار لإزالة الضرر عن المال
فكان على الفور، كخيار الرد بالعيب، وفيه احتراز من خيار القصاص.
فإذا قلنا بهذا، وعليه التفريع: فمعنى قولنا: (على الفور) هو أن يطالبه على حسب ما جرت العادة به، لا على أسرع ما يمكن، حتى لو أمكنه أن يطرد مركوبه، أو يسرع في السير، فلم يفعل.. أن تبطل شفعته؛ لأن هذا لا يقوله أحد، ولكن على حسب العادة، فإن علم ذلك بالليل.. فليس عليه أن يطالبه، حتى يصبح؛ لأن العادة في الليل الإيواء والسكن دون المطالبة بالحقوق، وكذلك: إن علم وهو جائع أو عطشان.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يفرغ من الأكل والشرب، وكذلك: إن علم به وهو في الحمام.. لم يكن عليه أن يطالب حتى يخرج منه، وكذلك: إن كان يريد الصلاة.. فله أن يتطهر، ويلبس الثوب، ويؤذن، ويأتي بسنن الصلاة وهيآتها، ولا تبطل شفعته بذلك؛ لأن العادة جرت بتقديم هذه الحوائج على غيرها، وكذلك: إذا أخره لإغلاق الباب، وحفظ المال، وتحصيل المركوب إن كانت عادته الركوب، أو كانت المسافة بعيدة؛ لأن العادة جرت بتقديم ذلك، وإذا لقي المشتري، وقال: السلام عليكم، أخذت الشقص أو الشفعة بالثمن الذي اشتريت به.. صح ذلك، ولا تبطل شفعته بالسلام؛ لأن السلام قبل الكلام سنة؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدأ بالكلام قبل السلام.. فلا تجيبوه».
وإن قال: بارك الله لك في صفقة يمينك.. لم تبطل شفعته بذلك؛ لأن ذلك يتصل بالسلام، ولأنه إذا بورك في الصفقة.. انتفع الشفيع بها؛ لأنه يأخذ من الصفقة المباركة، فلم تبطل شفعته بذلك.
وإن سأله بعد السلام عن حاله، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه ترك الأخذ بالشفعة مع القدرة عليها، فبطلت.
وإن قال الشفيع للمشتري: هبني، أو بعني الشقص، وما أشبه ذلك.. بطلت شفعته؛ لأنه عدل عن المطالبة بالشفعة، إلى أن يتملكه بجهة أخرى.
وإن قال المشتري للشفيع: صالحني عما وجب لك من الشفعة بدينار، فقال الشفيع: صالحتك.. لم يصح الصلح، ولا يملك الشفيع العوض، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: (يصح).
دليلنا: أنه خيار تملك، فلا يصح بدل العوض فيه، كخيار الثلاث، وهل تسقط الشفعة؟ فيه وجهان:
أحدهما: تسقط؛ لأنه لما عدل عن الشفعة إلى العوض.. كان ذلك رضا بإسقاطها.
والثاني: لا تسقط وهو الصحيح؛ لأنه عدل عن الشفعة إلى عوض، فإذا لم يصح له العوض.. رجع إلى شفعته، كما لو باع له عينا بثمن لا يصح.

.[فرع: لا تتوقف المطالبة بالشقص على التسليم]

قال الشافعي: (وإن كان بينهما دار بمكة، فحصلا بمصر، فباع أحدهما نصيبه منها، وعلم شريكه، فلقي الشفيع المشتري، فلم يشفع عليه حتى رجعا إلى مكة، فشفع عليه.. لم يكن له ذلك؛ لأنه أخر الأخذ من غير عذر، فإن قال: إنما أخرت المطالبة لأستيقن بقاء الدار، ولأقبض الشقص.. لم يقبل منه ذلك؛ لأن الأصل بقاؤها، ولأن المطالبة بالشفعة لا توقف على تسليم الشقص).

.[فرع: نقد دنانير لأجل الشقص فكانت مستحقة]:

وإن خرجت الدنانير التي دفعها الشفيع مستحقة. نظرت:
فإن شفع بدنانير في ذمته، مثل: أن قال: أخذت الشفعة بالثمن الذي اشتريت به، أو أخذت الشقص على الثمن الذي اشتريت به، ثم نقد الدنانير إلى المشتري، فبان أنها مستحقة.. فقد ملك الشفيع الشقص بالثمن الذي في ذمته، فإذا استحق ما نقده.. لم تبطل شفعته، بل يلزمه أن ينقد دنانير يملكها، كما لو اشترى عينا بثمن في ذمته، ثم نقد عما في ذمته بدنانير، فاستحقت.. فإن الشراء لا يبطل.
وإن شفع بعين الدنانير، مثل: أن قال: أخذت الشفعة أو الشقص بهذه الدنانير ثم استحقت.. فهل تبطل شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تبطل؛ لأنه لما أخذ الشفعة بدنانير لا يملكها صار كأنه ترك أخذ الشقص مع القدرة عليها.
والثاني: لا تبطل، وهو ظاهر ما نقله المزني؛ لأنه استحق أخذ الشفعة بمثل الثمن الذي وقع به العقد في ذمته، فإذا عين عن ذلك ما لا يملكه. بطل حكم التعيين، ولم تبطل الشفعة، كما لو اشترى شيئا بدنانير في ذمته، ثم نقد عنها ما لا يملكه.
فإن كان للشفيع عذر.. فالعذر ثلاثة أشياء: مرض، أو حبس، أو غيبة. فإن كان مرضا.. نظرت:
فإن كان مرضا يسيرا كالصداع اليسير، وما أشبهه.. فحكمه حكم الصحيح.
وإن كان مرضا كبيرا لا يتمكن معه من السير، فإن لم يمكنه التوكيل.. لم تسقط شفعته؛ لأنه غير قادر على المطالبة، وإن أمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المذهب -: أن شفعته تسقط؛ لأنه أخر المطالبة مع القدرة عليها، فهو كالصحيح.
والثاني: لا تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض بترك التوكيل، بأن يطالب بنفسه؛ لأنه أقوم بذلك، أو يخاف الضرر من التوكيل بأن لا يوجد من يتوكل له إلا بعوض فإن وجد بغير عوض احتاج إلى التزام منه أو يخاف أن يقر عليه الوكيل بما يسقط حقه، ثم يرفع ذلك إلى حاكم يحكم بصحة إقرار الوكيل على الموكل.
والوجه الثالث: إن وجد من يتطوع بالوكالة بغير عوض، فلم يوكل.. سقطت شفعته؛ لأنه لا ضرر عليه بذلك، وإن لم يجد من يتوكل عنه إلا بعوض.. لم تسقط شفعته بترك توكيله؛ لأن عليه ضررا بذلك.
وإن علم بالبيع وهو محبوس، فإن كان محبوسا بغير حق، بأن حبسه السلطان مصادرة ليأخذ منه شيئا بغير حق، أو حبس بدين عليه، وهو معسر.. فحكمه حكم المريض: إن لم يقدر على التوكيل.. لم تسقط شفعته، وإن قدر على التوكيل، فلم يوكل.. فعلى الأوجه الثلاثة في المريض، وإن كان محبوسا بحق، بأن حبس بدين عليه يقدر على أدائه، فإن وكل من يطلب بالشفعة.. جاز، وإن لم يوكل.. بطلت شفعته، وجها واحدا؛ لأنه ترك المطالبة مع القدرة عليها.
وإن عجز المريض أو المحبوس بغير حق عن المطالبة بنفسه، وعن التوكيل - إذا قلنا: يجب عليه - إلا أنه قدر على الإشهاد، فلم يشهد.. فهل تسقط شفعته؟ فيه قولان، حكاهما في "المهذب":
أحدهما: تسقط شفعته؛ لأن الترك قد يكون للزهد في الشفعة، وقد يكون للعجز، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته.
والثاني: لا تسقط؛ لأن عذره في الترك ظاهر، فلم يحتج معه إلى الإشهاد.
وإن بلغه البيع وهو غائب في بلد أو سفر، فإن سار عقيب ذلك، أو وكل من يطالب بالشفعة، وأشهد: أنه يسير هو أو وكيله لطلب الشفعة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه لم يترك الطلب، وإن لم يمكنه أن يسير بنفسه، ولا أن يسير وكيله؛ لخوف الطريق، أو لعدم الرفيق، وأشهد: أنه على شفعته.. فهو على شفعته؛ لأنه غير مفرط، فإن لم يمكنه المسير، وأمكنه التوكيل، فلم يوكل.. فهل تسقط شفعته؟ على الأوجه الثلاثة في المريض، وإن لم يمكنه السير، ولا التوكيل - إذا قلنا: يجب - وقدر على الإشهاد، فلم يشهد: أنه على حقه من الشفعة.. فهل تسقط شفعته؟ على القولين اللذين حكاهما في "المهذب".
وإن أمكنه السير، فسار.. فهل يلزمه الإشهاد: أنه يسير لطلب الشفعة؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: يلزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون سيره لطلب الشفعة، ويحتمل أن يكون لتجارة، أو غيرها، وقد قدر على أن يبين ذلك بالإشهاد، فإذا لم يفعل.. كان مفرطا.
والثاني - وهو الصحيح -: أنه لا يلزمه ذلك، ولا تبطل به شفعته؛ لأن الظاهر من حاله لما سار عقيب السماع أنه سار لطلب الشفعة، ولأن له أن يسير بنفسه، وله أن يوكل، ثم ثبت أنه لو سير الوكيل لم يلزم الوكيل الإشهاد، فكذلك الموكل.
قال المحاملي: إذا قلنا: يجب الإشهاد، فاختلفا، فقال الشفيع: أشهدت وسرت، وقال المشتري: لم تشهد، أو قلنا: لا يجب الإشهاد، فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري: لم تسر عقيب السماع.. فالقول قول الشفيع مع يمينه؛ لأن هذا اختلاف في فعله، وهو أعلم به.

.[فرع: عدم رفع الأمر للحاكم لا يثبت الشفعة]

ذكر الطبري في "العدة": أن أبا العباس قال: إذا وجبت له الشفعة، فجاء إلى الحاكم، وقال: أنا مطالب بحقي.. كان على شفعته وإن كان متمكنا من المجيء إلى المشتري، فإن ترك المجيء إلى الحاكم وإلى المشتري مع تمكنه منهما، وأشهد على نفسه: أنه يطالب بالشفعة.. بطلت شفعته بذلك؛ لأنه تركها مع القدرة عليها.

.[مسألة: اعتبار تصديق المخبر]

إذا أخر الشفيع المطالبة على الفور، ثم قال: أخرت؛ لأني لم أصدق الذي أخبرني بالبيع.. نظرت:
فإن كان قد أخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان عدول، أو ما فوق ذلك.. سقطت شفعته؛ لأنه قد أخبره من قوله حجة في الشرع.
وإن أخبره صبي، أو فاسق، أو كافر.. لم تسقط شفعته؛ لأن قول هؤلاء ليس بحجة في الشرع. وإن أخبره رجل عدل.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد لا تقوم به البينة، فهو كما لو أخبره صبي أو فاسق.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن قول الواحد حجة في الشرع مع اليمين.
وإن أخبره عبد أو امرأة.. فاختلف أصحابنا فيها:
فذكر الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": أنها على وجهين، كالحر العدل.
وذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: أنه لا تسقط شفعته، وجها واحدا، كالصبي، والفاسق.

.[مسألة: إظهار غلاء الشقص ليترك الشفعة]

إذا أظهر المشتري أنه اشترى الشقص بألف درهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى بدون ألف درهم.. فهو على شفعته؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك الشفعة؛ لأجل غلاء الشقص، أو لأنه لا يقدر على الألف، فإذا بان أن الثمن دونه.. لم تسقط شفعته.
وهكذا: لو قال: اشتريت ربع الدار بمائة فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصفها بمائة.. فهو على شفعته؛ لأنه قد لا يرضى بربع الدار بمائة، ويرضى نصفها بمائة، وإن قال: اشتريت الشقص بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بألف أو قال اشتريت الشقص بمائة فعفا الشفيع فبان أنه اشترى نصفه بمائة.. سقطت شفعته؛ لأن ما بان أغلظ على الشفيع مما أظهر له المشتري.
وإن قال: اشتريت الشقص بالدراهم، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدنانير، أو قال: اشتريت بالدنانير، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه بالدراهم.. فهو على شفعته، سواء كانت قيمة ما اشترى به أكثر من قيمة ما أظهر الشراء به أو أقل، وبه قال زفر.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد: (إن كانت قيمتها سواء، أو قيمة ما بان أنه اشترى به أكثر.. سقطت شفعته، وإن كان قيمة ما أظهر أكثر مما بان أنه اشترى به.. لم تسقط شفعته).
دليلنا: أنه قد يكون له غرض في ذلك، وهو أنه لا يملك ما أظهر الشراء به.
وإن أظهر المشتري أنه اشترى نصف الدار بمائة، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى ربعها بخمسين، أو أظهر أنه اشترى الربع بخمسين، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشترى نصف الدار بمائة.. لم تسقط شفعته؛ لأنه قد يكون له غرض في أخذ القليل دون الكثير، أو في أخذ الكثير دون القليل.

.[فرع: إظهار الشراء لنفسه أو لغيره]

وإن قال المشتري: اشتريت الشقص لنفسي، فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لغيره أو قال: اشتريته لغيري فعفا الشفيع، ثم بان أنه اشتراه لنفسه.. لم تبطل شفعته؛ لأنه قد يرضى مشاركة أحد الرجلين، ولا يرضى مشاركة الآخر.
وإن اشترى الشقص اثنان، فبلغ الشفيع أنه اشتراه أحدهما، فعفا، ثم بان أنهما اشترياه.. قال أبو العباس: فله أن يأخذ منهما، أو من واحد منهما، ويترك الآخر؛ لأنه إنما ترك الشفعة لأحدهما على أنه اشترى الجميع، فإذا بان أنه اشترى البعض.. ثبتت له الشفعة عليه، وأما الآخر: فلم يترك له الشفعة.