فصل: (فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: الحجر على المرتد]

المرتد إذا قلنا: إن ملكه باق على حاله.. فإنه محجور عليه فيه.. وهل يفتقر إلى حجر الحاكم؟ فيه قولان.
فإذا زالت الردة.. فإنه لا ينفك الحجر عنه إلا بحكم الحاكم؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فلم يزل من غير حكمه. والله أعلم

.[كتاب الصلح]

الأصل في جواز الصلح: الكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. فأمر الله تعالى بالصلح بين المؤمنين.
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
فدلت هذه الآيات على جواز الصلح.
وأما السنة: فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا».
وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على جوازه.
إذا ثبت هذا: فإن الصلح فرع على غيره، وهو ينقسم إلى خمسة أقسام:
أحدها قسم هو فرع على البيع، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، فيقر له بها، فيصالحه من ذلك على عين أو دين.. فهذا حكمه حكم ما لو اشترى منه عينا بعين أخرى، أو بدين، فيعتبر فيه ما يعتبر في البيع من الربا، ويبطل بما يبطل فيه البيع من الغرر، ويثبت فيه ما يثبت في البيع من الخيار؛ لأن ذلك بيع بلفظ الصلح.
وإن ادعى عليه دينا في ذمته، فأقر له به، ثم صالحه منه على دين في ذمته، وتفرقا قبل القبض.. لم يصح الصلح فيه، كما لا يصح في بيع الدين بالدين. وإن صالحه من دين على عين، وقبض العين قبل التفرق.. صح الصلح، إذا كان الدين مما يصح أخذ العوض عنه، وإن افترقا عن المجلس قبل قبض العين.. فهل يصح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنهما افترقا، والعوض والمعوض في ضمان واحد، فلم يصح، كما لو صالحه من دين على دين، وتفرقا قبل القبض.
والثاني: يصح، كما يصح في بيع العين بالدين.
القسم الثاني: صلح هو فرع على الإجارة، وهو: أن يدعي عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فيقر له به، ثم يصالحه من ذلك على سكنى داره شهرا، أو خدمة عبده مدة معلومة، فيصح ذلك، ويملك المقر ما ادعى عليه به، ويملك المقر له منفعة الدار أو العبد، كما لو استأجر منه ذلك، ويشترط فيه ما يشترط في الإجارة على ما يأتي بيانها في موضعها إن شاء الله تعالى.
القسم الثالث: صلح هو فرع على الإبراء والحطيطة، وهو: أن يدعي عليه ألفا في ذمته، فيقر له بها، فيصالحه على بعضها.
قال الشيخ أبو حامد: فهذا ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يقول الذي عليه الحق لمن له الحق: أدفع إليك خمسمائة، بشرط أن تسقط عني الخمسمائة الأخرى. أو يقول صاحب الحق: ادفع إلي خمسمائة، على أن أسقط عنك الخمسمائة الأخرى.. فهذا لا يجوز، فإذا فعلا ذلك.. كان باطلا، وكان لصاحب الألف المقر له أن يطالب بالخمسمائة الأخرى، لأنه دفع إليه بعض حقه، وشرط شرطا لا يلزمه، فسقط الشرط، ووجب الألف بالإقرار.
القسم الثاني: أن يقول: أدفع إليك خمسمائة، وتبرئني من خمسمائة. أو يقول الذي له الحق: ادفع إلي خمسمائة، وقد أبرأتك من الخمسمائة الأخرى.. فإن هذا يجوز إذا لم يدخل فيه حرف الشرط، وهو قوله: على أن تبرئني، أو بشرط أن تبرئني؛ لأنه كان له حق، فأخذ بعضه، وأبرأ من البعض.
وقال الشيخ أبو إسحاق في "المهذب": وإن صالحه من ألف على خمسمائة.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، كما لو باع ألفا بخمسمائة.
والثاني: يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كأنه قال: أبرأتك من خمسمائة، وأعطني خمسمائة.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 277] إذا ادعى عليه ألف درهم حالة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها، على خمسمائة مؤجلة.. صح الصلح، ولا يلزم الأجل. وإن ادعى عليه ألف درهم مؤجلة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة حالة.. لم يصح الصلح؛ لأنه جعل الخمسمائة التي تركها عوضا للحلول، وذلك لا يجوز أخذ العوض عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم صحاحا، فأقر له بها، ثم صالحه على خمسمائة مكسرة.. قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 277] صح الصلح، ولا يلزمه أخذ المكسرة، بل يجب له خمسمائة صحاح؛ لأن الصحة صفة، فلا يصح الإبراء منها.
ولو ادعى عليه ألف درهم مكسرة، فأقر له بها، ثم صالحه عنها على خمسمائة صحاح.. لم يصح الصلح؛ لأنه أبرأ من خمسمائة، بشرط حصول الصحة في الباقي، ولا تجوز المعاوضة على الصفة.
القسم الرابع: صلح هو فرع على الهبة، وهو: أن يدعي عليه دارا، فيقر له بها، فقال المقر: أدفع إليك نصفها، على أن تهبني نصفها، أو قال المقر له: ادفع إلي نصفها على أن أهبك النصف الآخر.. فهذا الصلح باطل؛ لما ذكرناه في الإبراء. وإن قال المقر له: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الآخر.. صحت الهبة؛ لأنها هبة مجردة غير معلقة على شرط، وإن كان بلفظ الصلح، بأن قال المقر للمقر له: صالحني من هذه الدار بنصفها.. فذكر في "المهذب": أنها على وجهين:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه باع ماله بماله.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يصح؛ لأنه لما عقد بلفظ الصلح.. صار كما لو قال: ادفع إلي نصفها، ووهبتك النصف الثاني.
القسم الخامس: صلح هو فرع على العارية، بأن يدعي عليه دارا في يده، فأقر له بها، ثم قال المقر له للمقر: صالحني عن هذه الدار بسكناها سنة، فقال المقر: صالحتك.. صح الصلح، ويكون كأن المقر له أعار المقر أن يسكنها سنة.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 278] وللمقر له أن يرجع في عاريته. وذكر في "المهذب": أنها على وجهين:
أحدهما: هذا.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ابتاع داره بمنفعتها.

.[مسألة: الصلح عن الموروث]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن صالح رجل أخاه عن موروثه، فإن عرفا ما صالحه عليه بشيء يجوز في البيع.. جاز). وهذا كما قال: إذا ورث الرجلان من أبيهما، أو أخيهما مالا، فصالح أحدهما الآخر عن نصيبه، فإن هذا فرع للبيع، فإذا شاهدا التركة، وعرفا العوض.. صح الصلح، كما لو اشتراه بلفظ الشراء.

.[فرع: المصالحة على غير جنس]

وإن صالحه عن الدراهم على دنانير، أو عن الدنانير على دراهم.. فإن ذلك صرف، ويشترط فيه قبض العوض في المجلس، كما قلنا في (الصرف).

.[فرع: المصالحة عما أتلفه]

إذا أتلف عليه ثوبا، أو حيوانا قيمته دينار، فأقر له به، ثم صالحه من ذلك على أكثر منه.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح الصلح).
دليلنا: أن الواجب في ذمته قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كما لو غصب منه دينارا، ثم صالحه على أكثر منه.
وإن صالحه عن قيمة الحيوان بعوض، وجعله مؤجلا.. لم يتأجل العوض، ولم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة: (يصح).
دليلنا: أن الواجب هو دين حال في ذمته، فإذا كان العوض عنه مؤجلا.. كان بيع الدين بالدين، وذلك لا يجوز.
وإن ادعى عليه مالا مجهولا، فأقر له به، وصالحه عليه بعوض.. لم يصح الصلح. وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح).
دليلنا: أن ذلك معاوضة، ولهذا يثبت بالشقص فيه الشفعة، فلم يصح في المجهول، كالبيع.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإذا ادعى رجل على رجل شيئا مجملا، فأقر له به، ثم صالحه عنه على شيء.. صح الصلح).
قال الشيخ أبو حامد: أراد إذا كان المعقود عليه معلوما فيما بين المتعاقدين.. صح وإن لم يسمياه، كما إذا قال: بعت منك الشيء الذي أعرفه أنا وأنت بكذا وكذا، فقال: أبتعت.. فإنه يصح.

.[مسألة: الصلح على ما كان أنكره]

وإن ادعى عليه عينا في يده، أو دينا في ذمته، فأنكره المدعى عليه، ثم صالحه على عين، أو دين في ذمته.. لم يصح الصلح بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ابتاع ملكه.
وإن ادعى عليه ألف درهم في ذمته، فأنكره، ثم صالحه على خمسمائة منها، وقلنا: يصح صلح الحطيطة. فهل يصح هذا الصلح؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق \ 278]:
أحدهما: لا يصح الصلح؛ لأنه صلح على الإنكار، فلم يصح، كما لو ادعى عليه عينا في يده، فأنكره
والثاني: يصح، والفرق بينهما: أن في صلح المعاوضة نحتاج إلى ثبوت العوضين برضا المتعاقدين، وليس العين المدعى بها ثابتة للمدعي حتى يأخذ عليها عوضا، وهاهنا هو إبراء، فلا يحتاج إلى رضا صاحبه. هذا مذهبنا. وإن الصلح على الإنكار لا يصح.
وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -: (يصح الصلح على الإنكار).
وقال ابن أبي ليلى: إن أنكره.. لم يصح الصلح، وإن سكت.. صح الصلح.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. والصلح على الإنكار من أكل المال بالباطل؛ لأن من ادعى على غيره دارا في يده، وأنكر ذلك المدعى عليه، ثم صالحه عنها بعوض.. فقد ابتاع ماله بماله، وهذا لا يجوز. وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال بن الحارث: يا بلال، اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» وهذا المدعي لا يخلو: إما أن يكون كاذبا، أو صادقا، فإن كان كاذبا.. فهذا الصلح الذي يصالح به يحل له ما هو حرام عليه، وإن كان صادقا.. فإنه يستحق جميع ما يدعيه، فإذا أخذ بعضه بالصلح.. فالصلح يحرم عليه الباقي الذي كان حلالا له، فوجب أن لا يجوز. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد؛ لأن البيع لا يجوز مع الإنكار، وهو أن يدعي عينا في يد غيره، فينكره، فيبيعها من غيره.. فإن البيع لا يصح، فكذلك الصلح إذا ثبت هذا: فادعي على رجل ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم إن المدعى أبرأه منها.. صحت البراءة، وهل يشترط في صحة البراءة القبول؟ على وجهين يأتي ذكرهما فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما صحت البراءة على الإنكار؛ لأنها ليست بمعاوضة.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأنكره عنها، ثم صالحه على بعضها، وقبض ذلك، وأبرأه عن الحق الذي عليه.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فالصلح باطل، والإبراء لا يلزم). فأما الصلح: فيبطل؛ لأنه صلح على إنكار، وعلى المصالح رد ما أخذه، وأما البراءة: فلا تلزمه؛ لأنه إنما أبرأه براءة قبض واستيفاء، وهو أن يسلم له ما أخذه، فإذا لم يسلم له ذلك.. لم تلزمه البراءة، هذا إذا لم يعلم المدعي بفساد الصلح، فأما إذا علم بفساد الصلح، فأبرأ.. صحت براءته). وهذا كما نقول في رجل: اشترى عبدا شراء فاسدا، فقال البائع للمشتري: أعتق هذا العبد، ولم يعلم البائع بفساد البيع، فأعتقه.. قال الشيخ أبو حامد: لم يصح العتق؛ لأن البائع لم يأمره بإعتاقه عن نفسه، وإنما أمره أن يعتقه بظن أنه قد ملكه بالشراء، وإن علم البائع بفساد البيع، فأمر المشتري بإعتاقه، فأعقته.. صح العتق.
وإن ادعى عليه ألفا في ذمته، فأقر له بها، فصالحه عنها صلح حطيطة، وأبرأه على خمسمائة، فإن قبض منها خمسمائة، وأبرأه عن الباقي، ثم خرجت الخمسمائة التي قبضها مستحقة.. قال الشيخ أبو حامد: فإنه يرجع عليه بالخمسمائة التي أخذها، والإبراء صحيح؛ لأنه لم يبرئه ليسلم له ما قبض، بل أبرأه عن حق هو مقر له به، والإبراء صادق حقه المقر به، فنفذ ذلك، ولم يتعلق بسلامة ما قبضه، وعدم سلامته.

.[فرع: صالحه على عوض بدلا عن عين ثم اختلفا]

إذا ادعى عليه عينا، فصالحه منها على عوض، ثم اختلفا، فقال المدعي: إنما صالحت منها على الإنكار، فالصلح باطل، ولي الرجوع إلى أصل الخصومة، وقال المدعى عليه: لا، بل كنت أقررت لك بها أولا، ثم أنكرت، ثم صالحت منها.. قال الشيخ أبو حامد: فالقول قول المدعي؛ لأن الأصل هو الصلح على الإنكار الذي قد عرف إلى أن تقوم البينة بإقراره بها قبل ذلك.

.[فرع: صحة التوكيل في الصلح]

وإن ادعى رجل على رجل حقا، فأنكر، فجاء أجنبي إلى المدعي، وقال: أنت صادق في دعواك، فصالحني عليه.. فلا يخلو: إما أن يكون المدعى دينا، أو عينا: فإن كان المدعى دينا.. نظرت:
فإن صالحه عن المدعى عليه.. صح الصلح؛ لأنه إن كان أذن له في ذلك، فهو وكيله، والتوكيل في الصلح جائز، وإن لم يوكله.. فقد قضى عن غيره دينا، ويجوز للإنسان أن يقضي عن الغير دينه بغير إذنه، فإذا أخذ المدعي المال.. ملكه، وانقطعت دعواه. وهل للأجنبي أن يرجع على المدعى عليه بما دفع؟ ينظر فيه:
فإن صالح عنه بإذنه، ودفع بإذنه.. رجع عليه.
وإن صالح بغير إذنه، ودفع بغير إذنه، أو صالح بإذنه، ودفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه بشيء؛ لأنه متطوع بالدفع.
وإن صالح الأجنبي ليكون الدين له.. فإن الشيخ أبا إسحاق قال: هل يصح الصلح؟ فيه وجهان، بناء على جواز بيع الدين من غير من هو عليه. وقال ابن الصباغ: لا يصح، وجها واحدا. وإليه أشار الشيخ أبو حامد؛ لأن الوجهين في بيع الدين مع الإقرار، فأما مع الإنكار: فلا يصح، وجها واحدا، كبيع العين المغصوبة ممن لا يقدر على قبضها.
وإن كان المدعى عينا، فإن صالح عن المدعى عليه، بأن يقول للمدعي: المدعى عليه مقر لك بها في الباطن، وقد وكلني في مصالحتك، فصالحه عنه.. صح الصلح؛ لأن الاعتبار بالمتعاقدين، وقد اتفقا على ما يجوز العقد عليه، فإذا صالحه.. ملك المدعي ما يأخذه، وانقطع حقه من العين، وهل يملك المدعى عليه العين المدعى بها؟ ينظر فيه:
فإن كان قد وكل الأجنبي.. ملك العين، وإن كان الأجنبي قد دفع العوض من مال نفسه بإذن المدعى عليه.. رجع عليه، وإن دفع بغير إذنه.. لم يرجع عليه؛ لأنه متطوع؛ لأنه إنما أذن له في العقد دون الدفع.
وإن كان المدعى عليه لم يوكل الأجنبي في الصلح.. فهل يملك العين؟ فيه وجهان:
أحدهما - المنصوص -: (أنه لا يملكها).
والثاني: حكى أبو علي في "الإفصاح": أنه يملكها، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا، وجاء رجل، فادعاها، فإن صدقه.. لزمه قيمتها، وإن كذبه، فجاء رجل من جيران المسجد، فصالحه.. صح الصلح؛ لأنه بذل مالا على وجه البر). وهذا ليس بصحيح؛ لأنه لا يجوز أن يملك غيره بغير ولاية، ولا وكالة.
فعلى هذا: يكون الصلح باطلا في الباطن، صحيحا في الظاهر.
وأما المسألة المذكورة في المسجد: فلا تشبه هذه؛ لأن الواجب على المدعى عليه القيمة؛ لأنه قد وقفها، ويجوز الصلح عما في ذمة غيره بغير إذنه.
وإن قال الأجنبي للمدعي: المدعى عليه منكر ذلك، ولكن صالحني عما ادعيت لتكون العين له.. فهل يصح الصلح؟ قال المسعودي ["في الإبانة " ق \ 278] فيه وجهان.
وأما إذا قال الأجنبي: أنت صادق في دعواك، فصالحني لتكون هذه العين لي، فإني قادر على انتزاعها منه.. فيصح الصلح، كما يصح أن يبتاع شيئا في يد غاصب، فإن قدر الأجنبي على انتزاعها منه.. استقر الصلح، وإن لم يقدر على انتزاعها.. كان له الخيار في فسخ الصلح، كمن ابتاع عينا في يد غاصب ولم يقدر على انتزاعها.
إذا ثبت هذا: فإن كان المدعى عليه قد وكل الأجنبي في أن يصالح عنه.. فهل يصح هذا التوكيل وهذا الصلح فيما بينه وبين الله تعالى؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس: لا يجوز له الإنكار؛ لأنه كاذب، إلا أنه يجوز له بعد ذلك أن يوكل ليصالح عنه على ما ذكرناه.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز له ذلك، بل يلزمه الإقرار به لصاحبه، ولا يجوز له الوكالة للمصالحة عنه إذا غصب العين، أو اشتراها من غاصب وهو يعلم ذلك.
فأما إذا مات أبواه، أو من يرثه، وخلف هذه العين له، فجاء رجل، فادعاها، وأنكره، ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، وخاف إن أقر بها للمدعي أن يأخذها.. فيجوز له أن يوكل الأجنبي في الصلح على ما بيناه؛ لتزول عنه الشبهة.

.[فرع: ترد العين المصالح عليها إذا كانت معيبة]

إذا صالح الأجنبي عن المدعى عليه بعوض بعينه، فوجد المدعي بالعوض الذي قبضه من الأجنبي عيبا.. كان له رده بالعيب، ولا يرجع ببدله عليه، ولكن ينفسخ عقد الصلح، ويرجع إلى خصومة المدعى عليه، وكذلك إذا خرج العوض مستحقا، كما لو ابتاع من رجل عينا، فوجد فيها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فإنه لا يطالبه ببدلها.. وإن صالحه على دراهم، أو دنانير في ذمته، ثم سلم إليه دراهم، أو دنانير، فوجد بها عيبا، فردها، أو خرجت مستحقة.. فله أن يطالبه ببدلها، كما قلنا في البيع.

.[فرع: إقرار المدعى عليه ليس صلحا]

وإن ادعى عينا في يد رجل، فأنكرها المدعى عليه، فقال المدعي: أعطيك ألف درهم، وأقر لي بها، ففعل.. لم يكن صلحا، ولم تلزم الألف، وبذله حرام، وأخذه حرام، وهل يكون إقرارا؟ فيه وجهان، حكاهما الطبري في "العدة".

.[مسألة: احتمال الصلح المعاوضة وقطع الخصومة يكون إقرارا]

إذا ادعى رجل على رجل دينا في ذمته، أو عينا في يده، فأنكره المدعى عليه، ثم قال: صالحني عن ذلك بعوض. لم يكن ذلك إقرارا من المدعى عليه؛ لأن الصلح قد يراد به المعاوضة، وقد يراد قطع الخصومة والدعوى، فإذا احتملهما.. لم نجعله إقرارا. وإن قال المدعى عليه للمدعي: بعني هذه العين، أو ملكني إياها.. فحكى الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ في ذلك وجهين:
أحدهما: وهو قول الشيخ أبي حامد -: أنه لا يكون إقرارا؛ لأن الصلح والبيع بمعنى واحد، فإذا لم يكن قوله: صالحني، إقرارا.. فكذلك قوله: بعني.
والثاني: يكون إقرارا. وهو قول القاضي أبي الطيب، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" غيره، وهو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأن قوله: بعني وملكني، يتضمن الإقرار له بالملك.

.[مسألة: جواز اتخاذ الروشن]

إذا أخرج جناحا أو روشنا إلى شارع نافذ.. نظرت: فإن كان لا يضر بالمسلمين.. جاز، ولا يمنع من ذلك، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد رحمة الله عليهم.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (له إخراجه إلا أن يمنعه المسلمون أو واحد منهم، فإذا منعه رجل من المسلمين.. لم يجز له إخراجه، فإن أخرجه.. قلع).
دليلنا: ما روي: «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بميزاب للعباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقطر عليه، فأمر بقلعه، فخرج إليه العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: قلعت ميزابا ركبه رسول الله بيده، فقال عمر: والله لا يصعد من ينصبه إلا على ظهري، فصعد العباس على ظهره ونصبه».
فإذا ثبت هذا في الميزاب.. ثبت في الروشن مثله؛ لأن الميزاب خشبة واحدة، والروشن خشب، ولا فرق بين الجميع، ولأن الناس يخرجون الرواشن من لدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى يومنا هذا من غير إنكار، فدل على أنه إجماع، ولأنه ارتفاق بما لم يتعين عليه ملك أحد من غير إضرار، فجاز كما لو مشى في الطريق.
إذا ثبت هذا: وأخرج جناحا أو روشنا في شارع نافذ.. فإنه لا يملك ذلك المكان، وإنما يكون أحق به؛ لسبقه إليه، فإن انهدم روشنه أو هدمه، فبادره من يجاذبه، فمد خشبة تمنعه من إعادة الأول.. لم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأن الأول كان أحق به؛ لسبقه إليه، فإذا زال روشنه.. سقط حقه، وكان لمن سبق إليه، كما نقول في المرور في الطريق، وإن أخرج من يجاذبه روشنا تحت روشن الأول.. جاز، ولم يكن للأول منعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك. وإن أراد الثاني أن يخرج روشنا فوق روشن الأول.. قال ابن الصباغ: فإن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق روشن الأول.. جاز، وإن كان يضر بالمار فوق روشن الأول.. منع من ذلك، كما لو أخرج روشنا يضر بالمارة في الشارع، فإنه يمنع من ذلك.