فصل: (فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: العفو عن الشفعة]

قال الطبري في "العدة": وإذا عفا الشفيع عن الشفعة، بأن قال: عفوت عن الشقص، أو سلمته، أو نزلت عنه.. فقد قال الشافعي في " اختلاف العراقيين ": (له الخيار ما لم يفارق مجلسه؛ لأن هذا يجري مجرى البيع، فثبت فيه خيار المجلس، كالبيع). وخرج أبو العباس قولا آخر: أنه لا خيار له، كما لا يثبت له في الإبراء والإسقاط خيار.
قال ابن الصباغ: وإذا وجبت له الشفعة، وقضى بها القاضي، والشقص في يد البائع، فدفع الثمن إلى المشتري، فقال البائع للشفيع: أقلني، فأقاله.. لم تصح الإقالة؛ لأن الإقالة تصح بين المتبايعين، وليس الشفيع مالكا من جهته، فإن باعه منه قبل القبض.. لم يصح، كما لا يصح أن يبيع ما ابتاع قبل القبض.

.[مسألة: باع أحد الشريكين الدار ولم يعلم الآخر وباع نصيبه]

وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه فيها.. ثبت لشريكه فيه الشفعة، فإن باع الشفيع نصيبه فيها قبل أن يعلم بالشراء.. فهل تسقط شفعته؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تسقط شفعته منها؛ لأنه استحق الشفعة ببيع شريكه، وملكه حينئذ باق على الشقص، فلم تسقط شفعته بزوال ملكه.
والثاني - وهو قول أبي العباس -: أن شفعته تسقط؛ لأن سبب استحقاقه للشفعة وجود ملكه، وقد زال ملكه، فوجب أن يسقط استحقاقه للشفعة.
فإذا قلنا بهذا: فباع الشفيع بعض حقه.. ففيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا تسقط شفعته؛ لأن الشفعة تستحق بقليل الملك وكثيره، وقد بقي له ملك فاستحق به الشفعة، كما لو بيع شيء من ملكه.
والثاني: تسقط شفعته؛ لأن الشفعة يستحقها بجميع ملكه، فإذا باع بعضه.. سقط ما يقابله، فإذا سقط البعض.. سقط الجميع، كما لو عفا عن بعض شفعته.

.[مسألة: أخذ بعض الشفعة]

وإن وجبت له الشفعة في الشقص، فأراد أن يأخذ بعضه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تفريقا للصفقة على المشتري، فإن قال: عفوت عن أخذ نصف الشقص.. ففيه ثلاثة أوجه، حكاها المسعودي [في "الإبانة" ق\ 319]:
أحدهما: وهو قول البغداديين من أصحابنا -: أن شفعته تسقط في الجميع، كما لو عفا عن بعض حقه من القصاص.
والثاني: لا يسقط شيء من شفعته.
والثالث: يسقط حقه من نصف الشقص، وله أخذ الباقي إذا رضي المشتري بذلك.

.[فرع: شراء شقصين من أرضين]

وإن اشترى رجل شقصين من أرضين بعقد من رجل، فإن كان لكل شقص شفيع.. فكل واحد من الشفيعين بالخيار: بين أن يأخذ شقصه بالشفعة، وبين أن لا يأخذ؛ لأن كل واحد منهما لا يملك أن يأخذ ما في غير شركته، فإن كان الشفيع فيهما واحدا.. فهو بالخيار: بين أن يأخذهما جميعا، أو يتركهما جميعا، فإن أراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر.. فهل له ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه يبعض ما وجب له، فلم يكن له ذلك، كما لو ثبتت له الشفعة في شقص، فأراد أن يأخذ بعضه، ويترك بعضه.
والثاني: له ذلك، وهو الأصح؛ لأنه لا ضرر على المشتري بذلك؛ لأن الشقص الآخر يبقى له، ولا تبعيض عليه بالشقص.
فإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من رجلين بعقد واحد.. فالشفيع بالخيار: بين أن يأخذ ما حصل للمشتريين، وبين أن يأخذ ما حصل لأحدهما دون الآخر؛ لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء، فباع اثنان نصيبهما من رجل.. فللشريك الثالث أن يأخذ من المشتري جميع ما اشتراه من شريكيه، وله أن يأخذ منه ما اشتراه من أحدهما دون الآخر؛ لما ذكرناه من: أن حكم عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين.
وإن كانت الدار بين ثلاثة شركاء فباع اثنان نصيبهما من اثنين، كل واحد باع نصيبه منهما بعقد أو عقدين.. فهذا في حكم أربعة عقود، والشفيع في ذلك بين ست اختيارات، إن شاء.. أخذ ما حصل للمشتريين. وإن شاء.. تركهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما، وترك الآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لكل واحد منهما. وإن شاء.. أخذ ما حصل لأحدهما ونصف ما حصل للآخر. وإن شاء.. أخذ نصف ما حصل لأحدهما، ولم يأخذ من الآخر شيئا.

.[فرع: بيع أحد الشريكين نصيبه من رجل بعقدين قبل علم الشفيع]

وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما بعض نصيبه من رجل بعقد، ثم باع منه الباقي بعقد آخر، ثم علم شريكه.. فللشفيع أن يأخذ المبيع أولا وثانيا. وله أن يأخذ أحدهما دون الآخر؛ لأن لكل واحد من العقدين حكم نفسه، فإن أخذ الأول.. لم يكن للمشتري أن يشاركه فيه؛ لأن الشفيع استحق الشفعة في الأول قبل وجود ملكه للثاني. وإن عفا عن الأول، وأخذ الثاني.. كان للمشتري أن يشارك الشفيع في الثاني؛ لأنهما شفيعان عند شراء الثاني.
وقال أبو حنيفة: (ليس للشفيع أن يأخذ جميع النصيبين المبيعين، وإنما له أن يأخذ الأول، ونصف الثاني).
قال ابن الصباغ: وحكي هذا عن بعض أصحابنا، ووجهه: أن ملكه ثبت على الأول، فإذا اشترى الثاني.. كان شريكا بالنصيب الثاني.
ودليلنا: أن ملكه على الأول لم يستقر؛ لأن للشفيع أخذه، فلا يستحق به الشفعة، كما لو ارتهن بعضه، واشترى الباقي.
وإن كانت الدار بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من ثلاثة رجال صفقة واحدة.. كان في حكم ثلاثة عقود، فلشريكه أن يأخذ من الثلاثة، وله أن يأخذ من اثنين أو من واحد، وليس لأحد الثلاثة إذا عفا الشفيع عن الأخذ منه أن يشاركه في الشفعة فيما يأخذ من الآخرين؛ لأن ملكه لم يسبق ملك المشفوع عليهما، وإن باع أحد الرجلين نصيبه من ثلاثة رجال في ثلاثة عقود عقدا بعد عقد، فللشفيع أن يأخذ نصيب جميع المشترين، وله أن يأخذ من بعضهم، فإن أخذ من الأول، وعفا عن الآخرين.. لم يشاركاه؛ لأن ملكهما حادث بعد ثبوت الشفعة، وإن عفا عن الأول، وأخذ من الآخرين.. شاركه الأول، وكذلك: إن عفا عن الأول والثاني، وأخذ من الثالث.. شاركه الأول والثاني في الثالث، وكذلك: لو عفا عن الثلاثة.. كان للأول أن يأخذ
من الثاني والثالث، وإن عفا الأول عن الثاني.. كان للأول والثاني أن يأخذا من الثالث.

.[مسألة: وجود أكثر من شفيع للشقص]

وإن كان للشقص شفعاء.. كانت الشفعة لجميعهم؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باع، ولم يؤذن شريكه.. فشريكه أحق به بالثمن». وكل واحد منهم شريك.
وإن كانت أنصباء الشفعاء متساوية.. قسم الشقص المبيع بينهم بالسوية، وإن تفاضلت أنصباؤهم.. ففيه قولان:
أحدهما: أنه يقسم بينهم على عدد الرؤوس، وبه قال الشعبي، والنخعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره المزني؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بالشركة.. لأخذ الجميع وإن قل نصيبه، وإن اشتركوا.. تساووا في الأخذ، كالاثنين في الميراث، ولأن الشفعة لو كانت تستحق على قدر الملك.. لوجب أن يأخذ بقدر الملك حتى لو كان لرجل خمسة أسداس دار، ولرجل سدسها، ثم باع صاحب الخمسة الأسداس نصيبه.. لم يستحق صاحب السدس غير سدس ما بيع بقدر ملكه، وهذا لا يقوله أحد، فثبت أنها تستحق على العدد لا على قدر الملك، ولأنه لو كان عبد بين ثلاثة، لواحد النصف، وللآخر الثلث، وللآخر السدس، فأعتق صاحب النصف والسدس نصيبهما في حالة واحدة.. لقوم الثلث عليهما بالسوية، فكذلك هاهنا مثله.
والقول الثاني: أن الشفعة تقسم على قدر الملك، وبه قال الحسن البصري، وابن المسيب، وعطاء، ومالك، وأحمد، وإسحاق.
قال الشيخ أبو حامد: وهو الصحيح؛ لأنه حق مستفاد بالملك، فقسط على قدر الملك، كغلة العبد، وثمرة النخلة، وما قاله الأول.. منتقض بالفرسان والرجالة في الغنيمة، فإن كل واحد منهم لو انفرد بالغنيمة.. لاستحق جميعها، فإذا اشتركوا.. تفاضلوا.
إذا ثبت هذا: فإن حضر جميع الشفعاء، واختاروا الأخذ.. فلا كلام، وإن عفا بعضهم عن حقه من الشفعة.. كان جميع الشقص لمن لم يعف، فإن أراد من لم يعف أن يأخذ بقدر نصيبه.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وإضرارا به، فلم يجز. وإن قال بعضهم: جعلت حقي من الشفعة لفلان.. سقط حقه من الشفعة، وكان لباقي الشفعاء؛ لأن ذلك عفو، وليس بهبة.

.[فرع: بيع أحد الشركاء نصيبه من أجنبي ثم حضر الشفعاء تباعا]

فإن كانت الدار بين أربعة أنفس، فباع أحدهم نصيبه من أجنبي، وحضر أحد الشفعاء الثلاثة.. فله أخذ جميع الشقص؛ لأن في أخذه البعض إضرارا بالمشتري، ولأن الظاهر أنه لا شفيع للشقص غيره؛ لأن الآخرين لا يعلم هل يطالبان بالشفعة، أم لا؟ فإذا قدم الشفيع الثاني.. أخذ من الأول نصف الشقص؛ لأنه ليس هاهنا شفيع مطالب سواهما، فإذا قدم الثالث.. أخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص المبيع؛ لأن ذلك قدر ما يستحقه كل واحد منهم عند الاجتماع، فإن عفا الشفيعان الآخران.. استقر ملك الأول على ملك جميع الشقص، فإن قال الشفيع الأول: لا آخذ جميع الشقص، وإنما آخذ منه الثلث.. لم يكن له ذلك؛ لأن في ذلك تبعيض الصفقة على المشتري، وهل تبطل شفعته بذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما قال أبو علي بن أبي هريرة: تبطل شفعته؛ لأنه أمكنه أخذ الجميع، فإذا لم يفعل.. بطلت شفعته، كما لو وجبت له الشفعة وحده في شقص، فقال: لا آخذ إلا بعضه.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، فإن اختارا أخذ جميع الشقص.. كان لهما ذلك، وإن اختارا الترك.. سقطت شفعة الجميع، فإن اختار أحدهما أخذ جميع الشقص، واختار الآخر الترك.. كان لهما ذلك.
والوجه الثاني - وهو قول أبي العباس، وأبي إسحاق -: أن شفعة الأول لا تبطل وهو الصحيح؛ لأن له عذرا في ترك أخذ الجميع، وهو أن لا يأخذ ما يؤخذ منه، فلم تسقط بذلك شفعته، كما لو أظهر له المشتري أن الثمن كثير، فترك الأخذ، ثم بان له أن الثمن دونه.. فإن شفعته لا تبطل؛ لأنه أخر الأخذ لعذر.
فعلى هذا: إذا قدم الشفيعان الآخران، وطالبا بالشفعة.. قسم الشقص بينهما أثلاثا، فإن عفوا عن الشفعة.. فهل للأول أن يأخذ نصيبيهما؟
قال أبو إسحاق: ينظر في الأول، فإن قال: أنا مطالب بالشفعة في الكل، ولكن إنما آخذ حصتي، وأتوقف في حصة شريكي؛ لأنظر ما يكون منهما.. فله أخذ نصيبيهما؛ لأنه لم يعف عن الشفعة. وإن قال: لا أطالب إلا بحصتي، وقد عفوت عما زاد عن ذلك.. بطلت شفعته في نصيب شريكيه، وهو ثلثا الشقص، وله أخذ ثلث الشقص لا غير.
فإن أخذ الشفيع الأول جميع الشقص من المشتري، ثم قدم الشفيع الثاني.. فقد قلنا: إنه إذا اختار الشفعة.. أخذ نصف الشقص من الأول، وإن لم يختر ذلك، ولكن قال: لا آخذ إلا ثلث الشقص.. فذكر الشيخ أبو حامد: أن أبا العباس قال: له ذلك إذا رضي الشفيع الأول؛ لأنه يترك بعض حقه، ولا يشبه هذا الشفيع الأول؛ لأن في أخذه لبعض الشقص تبعيضا للصفقة على المشتري. وأما ابن الصباغ: فلم يحك عنه رضا الشفيع الأول. قال: وفي ذلك نظر؛ لأنه يريد أن يأخذ بعض ما يخصه، وليس له ذلك.
إذا ثبت هذا: فإن أخذ الثاني ثلث الشقص من الأول، وهو سهمان من ستة أسهم، ثم قدم الشفيع الثالث.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ثلث ما أخذ من الأول، وهو ثلثا سهم من ستة من الشقص؛ لأنه يستحق ثلث ما أخذه من الشقص، فلا يسقط حقه منه بما تركه في يد الأول، ثم يضم ما أخذه الثالث من الثاني
إلى ما بقي في يد الأول من الشقص، وذلك كله أربعة أسهم وثلثا سهم، فيقسم ذلك بينهما نصفين، لكل واحد منهما سهمان وثلث.
قال الشيخ أبو حامد: ووجه ذلك عندي: أن الشفيع الثالث يستحق أن يأخذ من كل واحد من الأولين ثلث ما بيده من الشقص، وقد أخذ من الثاني ثلث ما بيده منه، وهو ثلثا سهم، وقد بقي في يد الأول من الشقص أربعة أسهم، فثلاثة منها هي التي يستقر ملكه عليها بعد قدوم الثاني، إذ لو أخذ الثاني جميع ما يستحقه على الأول.. لأخذ ثلاثة أسهم، وبقي مع الأول ثلاثة، فللثالث ثلث الثلاثة، وهو سهم، وأما السهم الرابع الذي سامح به الأول.. فإن الثالث كان يستحق أخذ ثلثه من الثاني لو أخذه، فإذا لم يأخذه الثاني.. كان للثالث أن يأخذ ثلثه حيث وجده، ويبقى في يد الأول ثلثا السهم الرابع الذي سامحه به الثاني، ويأخذ الثالث نصف ذلك.
قال ابن الصباغ: ووجه ذلك عندي: أن الثالث يقول للأول: نحن سواء في الاستحقاق، ولم يترك واحد منا شيئا من حقه، فنجمع ما معنا، ونقسمه.
إذا تقرر هذا: فالشقص المأخوذ بالشفعة، وهو ستة أسهم تضرب في ثلاثة، فذلك ثمانية عشر سهما للقادم الأول سهم وثلث، في ثلاثة: فذلك أربعة، وللقادم الثاني سهمان وثلث، في ثلاثة: فذلك سبعة، وللشفيع الأول سبعة.
قال أبو العباس: فإن كان هناك شفيع رابع، والمسألة بحالها، فقدم الرابع.. فإنه يأخذ من الشفيع الثاني ربع ما بيده من الشقص، وهو سهم من أربعة أسهم، ثم يضمه إلى ما حصل للأول والثالث، وهو أربعة عشر، فيصير خمسة عشر سهما، ويقسم ذلك بينهم أثلاثا، لكل واحد خمسة أسهم.
فإن قدم الرابع، ولم يجد غير الشفيع الذي حصل له أربعة أسهم.. قال أبو العباس: فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يأخذ نصف ما حصل له؛ لأنه يقول: لست أجد شفيعا سواك، فأنا وأنت شفيعان بما حصل بيننا، فاقتسمناه نصفين.
والثاني: يأخذ ربع ما حصل له؛ لأنهم أربعة شفعاء، فاستحق أن يأخذ من كل واحد ربع ما حصل له.
قال ابن الصباغ: فإن قدم الشفيع الثالث، ووجد أحد الشفيعين الأولين حاضرا، والآخر غائبا، فإن قضى القاضي للثالث أن يأخذ من الغائب الثلث.. كان له أن يأخذ منه الثلث، ومن الحاضر الثلث، وإن لم يقض له القاضي على الغائب.. فكم يأخذ من الحاضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يأخذ منه الثلث؛ لأنه قدر ما يستحقه مما في يده.
والثاني: يأخذ منه نصف ما بيده؛ لأن أحدهما إذا كان غائبا.. صار كأنهما الشفيعان لا غير، فيقتسمان بينهما بالسوية.
فإن حضر الغائب، وغاب هذا الحاضر، فإن كان أخذ من الحاضر ثلث ما بيده.. أخذ من الذي كان غائبا ثلث ما بيده أيضا، وإن كان أخذ من الحاضر نصف ما بيده.. أخذ من هذا سدس ما بيده، فيتم بذلك نصيبه، وتصح قسمة ذلك من ثمانية وأربعين، فالمبيع اثنا عشر سهما، أخذ كل واحد منهما ستة، فإن أخذ من أحدهما سهمين.. أخذ من الثاني سهمين، وإن أخذ من الأول ثلاثة.. أخذ من الثاني سهما ليتم له ثلث السهم المبيع.

.[فرع: زيادة الشقص في يد الشفيع ورجوع الشفعاء]

فإن أخذ الشفيع الأول الشقص من المشتري، وجاء الشفيعان الآخران، وقد زاد الشقص في يد الأول، فإن كانت زيادة لا تتميز؛ كالشجر إذا طال وامتلأ.. فإن الشفيعين إذا اختارا الأخذ أخذا الشجر بزيادته؛ لأنها زيادة لا تتميز فتبعت الأصل كالرد بالعيب، وإن كانت زيادة تتميز، كالشجر إذا أثمر.. فإن الثمرة تكون للأول؛ لأنها زيادة متميزة حدثت في يد الأول، فكانت له، كما قلنا في الرد بالعيب.
وإن أخذ الشفيعان الآخران الشقص من الشفيع الأول، فاستحق الشقص.. ففيه وجهان:
أحدهما قال أبو إسحاق: يرجع الشفعاء الثلاثة كلهم بالعهدة على المشتري؛ لأنهم استحقوا الشفعة عليه، والأول نائب عن الآخرين في الأخذ منه.
والوجه الثاني - حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " -: أن الشفيع الثاني يرجع بالعهدة على الشفيع الأول، ويرجع الثالث بالعهدة على الأول والثاني، ويرجع الأول على المشتري اعتبارا بما أخذ منه كل واحد منهم. والأول هو المشهور.

.[فرع: للشفيع الغائب أخذ جميع الشقص إذا قدم وكان الحاضر رده بالعيب]

وإن أخذ الشفيع الحاضر جميع الشقص من المشتري، فوجد به عيبا، فرده، ثم قدم الشفيعان الآخران، أو أحدهما.. كان للقادم فسخ الرد بالعيب، وأخذ جميع الشقص.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: (ليس للقادم بعد الأول أن يأخذ إلا قدر حصته من الشقص).
دليلنا: أن الشفيع الأول أسقط حقه من الشقص بالرد بالعيب، فكان للقادم بعده أخذ جميع الشقص، كما لو عفا الأول عن الشفعة.. فإن للثاني أن يأخذ جميع الشقص.

.[مسألة: للشريك الثالث الشفعة إذا باع أحد شريكيه نصيبه من الآخر]

وإن كانت دار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه.. ثبت للشريك الثالث الشفعة، وهل له أن يأخذ جميع الشقص، أو يقسم بينه وبين الشريك المشتري؟
روى المزني: (أنه يقسم بينه وبين الشريك المشتري). وبه قال عامة أصحابنا، وبه قال مالك، وأبو حنيفة.
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن له أخذ جميع الشقص. وهو قول عثمان البتي، والحسن البصري. وقيل: لا يصح هذا عن أبي العباس.
ووجه هذا: أنا لو قلنا: يقتسمان الشقص.. لكان للإنسان أن يأخذ الشفعة من نفسه، وهذا لا يجوز.
والأول أصح؛ لأن المشتري شريك في الشقص، فلم يأخذ الآخر جميع الشقص، كما لو باع الشريك من أجنبي، وما قاله أبو العباس: إنه لا يأخذ الشفعة من نفسه.. غير صحيح؛ لأنه لا يأخذ بالشفعة من نفسه، وإنما لا يقدم الآخر عليه؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
فإذا قلنا بقول أبي العباس.. كان الشفيع بالخيار: بين أن يأخذ جميع الشقص، أو يترك، فإن قال: آخذ بعض الشقص دون بعض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه ليس هاهنا شفيع غيره.
وإن قلنا بقول عامة أصحابنا.. فإن اتفق الشفيع والمشتري على أن يقتسما الشقص بينهما.. جاز، وإن لم يختر الشفيع أن يأخذ.. لم يجبر على الأخذ، ولزم ذلك المشتري، فإن رضي المشتري أن يأخذ الشفيع جميع الشقص.. لم يلزم الشفيع ذلك؛ لأن الشفعة إنما وجبت له في نصف الشقص، فلا يلزمه أكثر من ذلك.
فإن قيل: المشتري والشريك شفيعان في الشقص، فإذا رضي المشتري بترك حقه.. لم يجز للآخر أن يأخذ البعض، كما لو كان المشتري أجنبيا.
فالجواب: أن الشفيعين إذا كان المشتري أجنبيا.. لم يملكا شيئا، وإنما ملكا أن يملكا بالاختيار، فإن أسقط أحدهما حقه.. صار كأنه لا شفيع إلا الثاني، وهاهنا قد حصل الملك للمشتري، فإذا ترك ذلك بعد حصول الملك له.. لم يلزم الآخر الأخذ، كما لو اختار الشفيعان الأخذ، ثم ترك أحدهما حقه.. فلا يلزم الآخر أخذه.

.[مسألة: تثبت الشفعة لابن الابن مع أخيه بعد موت الأب ووجود العم]

وإن مات رجل، وخلف دارا وابنين، فمات أحد الابنين، وخلف ابنين، فباع أحد ولدي الابن نصيبه في الدار.. ثبت لأخيه الشفعة، قولا واحدا، وهل تثبت للعم مع ابن أخيه؟ فيه قولان:
أحدهما: الشفعة للأخ دون العم، وبه قال مالك؛ لأن الأخ أخص بشركة البائع لاشتراكهما في سبب الملك، بدليل: أن البينة لو قامت: أن أباهما غصب نصف الدار.. لأخذ نصيبيهما.
ولو قسمت الدار نصفين.. لكان نصيب الأخوين جزءا، ونصيب العم جزءا.
والثاني: أن الأخ والعم يشتركان بالشفعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، والمزني، وهو الصحيح؛ لأنهما شريكان في الدار حال ثبوت الشفعة
فكانت الشفعة بينهما، كما لو ملك الثلاثة بسبب واحد، وما ذكره الأول من أن ملك الأخ أخص.. فلا اعتبار به، وإنما الاعتبار بوجود الملك حال الشفعة، وما ذكره من القسمة.. فغير صحيح؛ لأن ذلك إنما يقسم - كما ذكر - إذا رضي الأخوان، ولو طلب أحد الأخوين أن يفرد نصيبه مع عمه. لكان له ذلك، وإن طلب كل واحد منهما أن يفرد نصيبه.. قسمت الدار أربعة أجزاء: للعم جزءان، ولكل أخ جزء.
فإن قلنا: إن الشفعة للأخ، فإن اختار أخذ الشقص.. فلا كلام، وإن عفا عن الشفعة.. فهل يستحقها العم؟ فيه وجهان، خرجهما أبو العباس:
أحدهما: لا يستحقها؛ لأن من لم يستحق الشفعة حال البيع.. لم يستحقها عند عفو الشفيع، كالجار المقاسم.
والثاني: يستحقها؛ لأنه شريك حال البيع، وإنما قدم عليه الأخ بقرب نسبه، فإذا أسقط الأخ حقه استحقها العم كما لو قتل رجل رجلين عمدا أحدهما بعد الآخر فإن القصاص عليه للأول، فإذا عفا ولي الأول عن القصاص.. ثبت القصاص للثاني.
وإن قلنا: إن الشفعة بين الأخ والعم.. فهل يقتسمان الشقص المبيع نصفين، أو على قدر الملكين؟ على قولين، مضى ذكرهما.
وفرع أبو العباس على هذا ثلاث مسائل:
الأولى: إذا كانت الدار بين ثلاثة رجال، فباع أحدهم نصيبه من رجلين، فعفا شريكاه عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه من الدار.. فهل تكون الشفعة لشريكه الذي اشترى معه وحده، أو يشاركه فيها الشريكان الأولان؟ على القولين.
المسألة الثانية: إذا مات رجل، وخلف ابنتين، وأختين لأب، وخلف دارا، فورثت الابنتان ثلثيه، وورثت الأختان ثلثه، فباعت إحدى الابنتين نصيبها في الدار.. قال أبو العباس: فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين، كالتي قلبها؛ لاختلاف سبب الملك.
والثاني: أن الشفعة بين الابنة والأختين، قولا واحدا؛ لأن السبب واحد، وهو الإرث.
المسألة الثالثة: إذا مات رجل، وخلف ثلاثة أولاد وخلف دارا، فمات أحد الأولاد، وخلف ابنين، فباع أحد العمين نصيبه في الدار.. فهل يكون أخو البائع أحق بالشفعة، أو يشاركه فيها ابنا أخيه؟ فيه طريقان:
أحدهما: أنها على قولين.
والثاني: أنهم يشتركون فيها، قولا واحدا؛ لأن ابني الميت الثاني يقومان مقام أبيهما، ولو كان أبوهما باقيا.. لشارك أخاه بالشفعة، بخلاف ما لو باع أحد ولدي الابن؛ لأن العمين لا يقومان مقام أخيهما، وإنما يقومان مقام أبيهما.