الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)
.مسألة: في جواز النسخ بالكتاب: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بما ينزل}، وَلِذَلِكَ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْكِتَابِ كَالْقِصَّةِ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ.وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ حُذَّاقُ الْأُمَّةِ عَلَى الْجَوَازِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ».وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي إِسْقَاطِ الْجَلْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي رجم فَإِنَّهُ لَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قُلْنَا: أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَاسِخَهَا الْقُرْآنُ وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ لَفْظٍ ذَكَرَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ الْوَجْهَيْنِ وَإِبَانَةُ تَعَاضُدِهِمَا وَتَوَافُقِهِمَا وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ.وَأَمَّا النَّسْخُ بِالْآيَةِ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ بَلْ تَخْصِيصٍ ثُمَّ إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَهُوَ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فارجموهما)..فصل: فيما يقع فيه النسخ: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْأَخْبَارَ وَأَطْلَقَ وَقَيَّدَهَا آخَرُونَ بِالَّتِي يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ..تنبيهات: .التنبيه الأول: في تقسيم سور القرآن بحسب ما دخله من النسخ وما لم يدخله.اعْلَمْ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْقَسِمُ بِحَسْبِ مَا دَخَلَهُ النَّسْخُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْسَامٍ:أَحَدُهَا: مَا لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سُورَةً وَهِيَ: الْفَاتِحَةُ ثُمَّ يُوسُفُ ثُمَّ يس ثُمَّ الْحُجُرَاتُ ثُمَّ الرَّحْمَنُ ثُمَّ الْحَدِيدُ ثُمَّ الصَّفُّ ثُمَّ الْجُمُعَةُ ثُمَّ التَّحْرِيمُ ثُمَّ الْمُلْكُ ثُمَّ الْحَاقَّةُ ثُمَّ نُوحٌ ثُمَّ الْجِنُّ ثُمَّ الْمُرْسَلَاتُ ثُمَّ النَّبَأُ ثُمَّ النَّازِعَاتُ ثُمَّ الِانْفِطَارُ ثُمَّ الْمُطَفِّفِينَ ثُمَّ الِانْشِقَاقُ ثُمَّ الْبُرُوجُ ثُمَّ الْفَجْرُ ثُمَّ الْبَلَدُ ثُمَّ الشَّمْسُ ثُمَّ اللَّيْلُ ثُمَّ الضُّحَى ثُمَّ الانشراح ثُمَّ الْقَلَمُ ثُمَّ الْقَدْرُ ثُمَّ الِانْفِكَاكُ ثُمَّ الزَّلْزَلَةُ ثُمَّ الْعَادِيَّاتُ ثُمَّ الْقَارِعَةُ ثُمَّ أَلْهَاكُمْ ثُمَّ الْهُمَزَةُ ثُمَّ الْفِيلُ ثُمَّ قُرَيْشٌ ثُمَّ الدِّينُ ثُمَّ الْكَوْثَرُ ثُمَّ النَّصْرُ ثُمَّ تَبَّتْ ثُمَّ الْإِخْلَاصُ ثُمَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ.وَهَذِهِ السُّوَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَإِلَى مَا فِيهِ نَهْيٌ لَا أَمْرٌ.وَالثَّانِي: مَا فِيهِ نَاسِخٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْسُوخٌ وَهِيَ سِتُّ سُوَرٍ: الْفَتْحُ وَالْحَشْرُ وَالْمُنَافِقُونَ وَالتَّغَابُنُ وَالطَّلَاقُ وَالْأَعْلَى.الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَهُوَ أَرْبَعُونَ: الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ وَهُودٌ وَالرَّعْدُ وَالْحِجْرُ وَالنَّحْلُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفُ وَطه وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَالْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ وَالْمَضَاجِعُ وَالْمَلَائِكَةُ وَالصَّافَّاتُ وَص وَالزُّمَرُ وَالْمَصَابِيحُ وَالزُّخْرُفُ وَالدُّخَانُ وَالْجَاثِيَةُ وَالْأَحْقَافُ وَسُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْبَاسِقَاتُ وَالنَّجْمُ وَالْقَمَرُ وَالرَّحْمَنُ وَالْمَعَارِجُ وَالْمُدَّثِّرُ وَالْقِيَامَةُ وَالْإِنْسَانُ وَعَبَسَ وَالطَّارِقُ وَالْغَاشِيَةُ وَالتِّينُ وَالْكَافِرُونَ.الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سُورَةً: الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ وَالْمَائِدَةُ وَالْأَعْرَافُ وَالْأَنْفَالُ وَالتَّوْبَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالنَّحْلُ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ وَمَرْيَمُ وَطه وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنُّورُ وَالْفُرْقَانُ وَالشُّعَرَاءُ وَالْأَحْزَابُ وَسَبَأٌ وَالْمُؤْمِنُ وَالشُّورَى وَالْقِتَالُ وَالذَّارِيَاتُ وَالطُّورُ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُمْتَحَنَةُ وَالْمُزَّمِّلُ وَالْمُدَّثِّرُ وَالتَّكْوِيرُ وَالْعَصْرُ.وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا النَّوْعِ آيَةٌ أَوَّلُهَا مَنْسُوخٌ وَآخِرُهَا نَاسِخٌ قيل ولانظير لها في القرآن وهي قوله تعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضل إذا اهتديتم} يَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ في أحكامه..التنبيه الثاني: في ضروب النسخ في القرآن:النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:الْأَوَّلُ: ما نسخ في تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ فَيُعْمَلُ بِهِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ فِي سُورَةِ النُّورِ (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِكَتَبْتُهَا بِيَدِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُعَلَّقًا.وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَتْ سورة الأحزاب توازي سورة النور فَكَانَ فِيهَا (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا).وَفِي هَذَا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ؟ وَهَلَّا قَالَ الْمُحْصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ؟وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي أَمَالِيهِ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْبَدِيعِ فِي الْمُبَالَغَةِ وَهُوَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ فِي بَابِ الذَّمِّ بِالْأَنْقَصِ فَالْأَنْقَصِ وَفِي بَابِ الْمَدْحِ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَعْلَى فَيُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمُرَادُ: يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا إِلَى أعلى ما يسرق وقد يبالغ فيذكر مالا تُقْطَعُ بِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «لَعَنَ الله السارق يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ فِي الْبَيْضَةِ وَتَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَهُ بِبَيْضَةِ الْحَرْبِ تَأْبَاهُ الْفَصَاحَةُ.الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: «لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ إِلَخْ» أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ وَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالِ النَّاسِ لِأَنَّ مَقَالَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا.وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ مُشْكَلَةٌ وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِهِ وَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ وَمِنْ هُنَا أَنْكَرَ ابْنُ ظَفَرَ فِي (الْيَنْبُوعِ) عَدَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ قَالَ: لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْمُنْسَأِ لَا النَّسْخِ، وهما مما يَلْتَبِسَانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُنْسَأَ لَفْظُهُ قَدْ يعلم حكمه ويثبت أيضا وكذا قاله في غيره الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ كَإِيجَابِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا لَكِنْ فِي الْعَمَلِ بِهَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ.وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنَ الْقُرْآنِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَتِلَاوَتُهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ.وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي أَحْفَظُ مِنْهَا (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ) وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فأنسيتها غير أني حفظت منها (يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ).وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُنَادِي فِي كِتَابِهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِمَّا رُفِعَ رَسْمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُرْفَعْ مِنَ الْقُلُوبِ حِفْظُهُ سُورَتَا الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَاضِينَ وَالْغَابِرِينَ أَنَّهُمَا مَكْتُوبَتَانِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْرَأَهُ إِيَّاهُمَا وَتُسَمَّى سُورَتَيِ الْخَلْعِ وَالْحَفْدِ.هُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابُ تِلَاوَتِهَا؟ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْفُنُونِ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ وَالْمَنَامُ أَدْنَى طُرُقِ الْوَحْيِ.الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ تِلَاوَتُهُ وَهُوَ فِي ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ منكم ويذرون أزواجا} الْآيَةَ فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا لَزِمَتِ التَّرَبُّصَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَوْلًا كَامِلًا وَنَفَقَتُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الْآيَةَ فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} وَهَذَا النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ فِي النَّظْمِ عَلَى الْمَنْسُوخِ.قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ تَقَدَّمَ عَلَى الْمَنْسُوخِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: هذا أحدهما والثاني قوله: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك} الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ من أزواج}.قُلْتُ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَوْضِعًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها} هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ وَلَكِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}.وَقِيلَ: فِي تَقْدِيمِ النَّاسِخَةِ فَائِدَةٌ وَهِيَ أَنْ تَعْتَقِدَ حُكْمَ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهَا.وَيَجِيءُ مَوْضِعٌ رَابِعٌ وَهُوَ آيَةُ الْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَةَ فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غنمتم من شيء فأن لله خمسه}.وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْرُمُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين} ثُمَّ نَسْخِ الْوُجُوبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا إن الله لا يحب المعتدين} قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عليه}.وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِيَامَةِ وَالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ.وَهُنَا سُؤَالٌ وَهُوَ أَنْ يُسْأَلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ؟ وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُثَابُ عَلَيْهِ فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ.وَثَانِيهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ وَأَمَّا حِكْمَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ كَالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى فَيُثَابُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَلَى نِيَّةِ طَاعَةِ الْأَمْرِ.الثَّالِثُ: نَسْخُهُمَا جَمِيعًا فَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ كَآيَةِ التَّحْرِيمِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا وَهِيَ «مِمَّا يُقْرَأُ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبَ الْوَفَاةَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا.وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ.وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كُنَّا نَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ وَفِيهِ نَظَرٌ.وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي الِانْتِصَارِ عَنْ قَوْمٍ إِنْكَارَ هَذَا الْقِسْمِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِيهِ أَخْبَارُ آحَادٍ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى إِنْزَالِ قُرْآنٍ وَنَسْخِهِ بِأَخْبَارِ آحَادٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا.وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسَ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولى صحف إبراهيم وموسى} وَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْءٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا فِي الْقُرْآنِ أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ فِي الرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَذْهَانِهِمْ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
|