الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
يَأْتِي عَلَى نَحْوٍ مَنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْمُجَادَلَةِ: 7). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (يُونُسَ: 44). وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الْكَهْفِ: 49). وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (الرُّومِ: 40). {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (غَافِرٍ: 67)، {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} (الْمُؤْمِنِ: 64) وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الِانْفِطَارِ: 6).
وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ: مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 106)، {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} (التَّوْبَةِ: 35)، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدُّخَانِ: 49)، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَةِ: 67)، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ} (الْأَحْزَابِ: 37) وَغَيْرُ ذَلِكَ.
مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطَّلَاقِ: 1) فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الْأَحْزَابِ: 50). وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: كَانَ ابْتِدَاءُ الْخِطَابِ لَهُ، فَلَمَّا قَالَ فِي الْمَوْهُوبَةِ: {خَالِصَةً لَكَ} (الْأَحْزَابِ: 50) عُلِمَ أَنَّ مَا قَبْلَهَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (النِّسَاءِ: 102) وَجَرَى أَبُو يُوسُفَ عَلَى الظَّاهِرِ، فَقَالَ: إِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ: بِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ (فِيهِمْ) عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ بَلْ عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ حَالٍ، وَالْأَصْلُ فِي الْخِطَابِ أَنْ يَكُونَ لِمُعَيَّنٍ. وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيُفِيدَ الْعُمُومَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} (الْبَقَرَةِ: 25) وَفَائِدَتُهُ الْإِيذَانُ بِأَنَّهُ خَلِيقٌ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ الْجَمِيلُ. وَكَقَوْلِهِ: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} (سَبَأٍ: 51) أُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْخِطَابِ لَمَّا أُرِيدَ الْعُمُومُ لِلْقَصْدِ إِلَى تَفْظِيعِ حَالِهِمْ، وَأَنَّهَا تَنَاهَتْ فِي الظُّهُورِ حَتَّى امْتَنَعَ خَفَاؤُهَا، فَلَا نَخُصُّ بِهَا رُؤْيَةَ رَاءٍ، بَلْ كُلَّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ الرُّؤْيَةُ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (الْإِنْسَانِ: 20) لَمْ يُرَدْ بِهِ مُخَاطَبٌ مُعَيَّنٌ، بَلْ عُبِّرَ بِالْخِطَابِ لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِيهِ مَدْخَلٌ؛ مُبَالَغَةً فِيمَا قَصَدَ اللَّهُ مِنْ وَصْفِ مَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ، وَلِبِنَاءِ الْكَلَامِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الْعُمُومِ لَمْ يَجْعَلْ لِـ (تَرَى) وَلَا لِـ (رَأَيْتَ) مَفْعُولًا ظَاهِرًا وَلَا مُقَدَّرًا لِيَشِيعَ وَيَعُمَّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (السَّجْدَةِ: 12) فَقِيلَ: إِنَّهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَمَنَعَهُ قَوْمٌ، وَقَالَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَوْ لِلتَّمَنِّي لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَالتَّرَجِّي فِي: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 31) لِأَنَّهُ تَجَرَّعَ مِنْ عَدَاوَتِهِمُ الْغُصَصَ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ كَأَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ يَرَاهُمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْفَظِيعَةِ، مَنْ نَكْسِ الرُّءُوسِ صُمًّا عُمْيًا لِيَشْمَتَ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (لَوْ) امْتِنَاعِيَّةً، وَجَوَابَهَا مَحْذُوفٌ؛ أَيْ لَرَأَيْتَ أَسْوَأَ حَالٍ يُرَى.
مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ: وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 14) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ وَاقِعٌ. كَقَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 173) وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا؛ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ نُعَيْمُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّقَفِيُّ، وَالثَّانِي أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وَاحِدٌ- قَوْلُهُ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 175) فَوَقَعَتِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (ذَلِكُمْ) إِلَى وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِهِ جَمْعًا لَكَانَ " إِنَّمَا الشَّيَاطِينُ الشَّيَاطِينُ " فَهَذِهِ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي اللَّفْظِ، وَقِيلَ بَلْ وُضِعَ فِيهِ (الَّذِينَ) مَوْضِعَ الَّذِي. وَقَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (الْبَقَرَةِ: 13) يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} (الْحُجُرَاتِ: 4) قَالَ الضَّحَّاكُ: وَهُوَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (النِّسَاءِ: 1) لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ. ثُمَّ التَّخْصِيصُ يَجِيءُ تَارَةً فِي آخِرِ الْآيَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (النِّسَاءِ: 4) فَهَذَا عَامٌّ فِي الْبَالِغَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَاقِلَةً أَوْ مَجْنُونَةً ثُمَّ خُصَّ فِي آخِرِهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} الْآيَةَ (النِّسَاءِ: 4)، فَخَصَّهَا بِالْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهَا عِبَارَتُهَا مُلْغَاةٌ فِي الْعَفْوِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} (الْبَقَرَةِ: 228) فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الْبَائِنَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ ثُمَّ خَصَّهَا بِالرَّجْعِيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (الْبَقَرَةِ: 228) لِأَنَّ الْبَائِنَةَ لَا تُرَاجَعُ. وَتَارَةً فِي أَوَّلِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} (الْبَقَرَةِ: 229) فَإِنَّ هَذَا خَاصٌّ فِي الَّذِي أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 229) فَهَذَا عَامٌّ فِيمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ إِذَا كَانَ مِلْكًا لَهَا. وَقَدْ يُأْخَذُ التَّخْصِيصُ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ: 16)، فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُقَاتِلِ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ: 65). وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (الْمَائِدَةِ: 3) وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمَيْتَاتِ، ثُمَّ خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 4) فَأَبَاحَ الصَّيْدَ الَّذِي يَمُوتُ فِي فَمِ الْجَارِحِ الْمُعَلَّمِ. وَخُصِّصَ أَيْضًا عُمُومُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى قَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (الْمَائِدَةِ: 96) تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَخُصَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عُمُومُ تِلْكَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} (النُّورِ: 29). وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالدَّمَ} (الْبَقَرَةِ: 173)، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} (الْأَنْعَامِ: 145) يَعْنِي إِلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ؛ فَهُوَ حَلَالٌ. ثُمَّ هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَالْآيَةُ الْعَامَّةُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (الْآيَةَ: 3)، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي النُّزُولِ آيَةَ الْوُضُوءِ؛ عَلَى أَنَّهُ التَّيَمُّمُ، وَهَذَا مَاشٍ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْخَاصِّ؛ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَمْ تَأَخَّرَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} الْآيَةَ (النِّسَاءِ: 20) وَهَذَا عَامٌّ سَوَاءٌ رَضِيَتِ الْمَرْأَةُ أَمْ لَا، ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} (النِّسَاءِ: 4)، وَخَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (الْبَقَرَةِ: 229). وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 228)، فَهَذَا عَامٌّ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ خَصَّهَا فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الْآيَةَ (الْأَحْزَابِ: 49)، فَخَصَّ الْآيِسَةَ وَالصَّغِيرَةَ وَالْحَامِلَ؛ فَالْآيِسَةُ وَالصَّغِيرَةُ بِالْأَشْهُرِ، وَالْحَامِلُ بِالْوَضْعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الْآيَةَ (الْبَقَرَةِ: 234)، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَامِلِ وَالْحَائِلِ، ثُمَّ خُصَّ بِقَوْلِهِ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (الطَّلَاقِ: 4). وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ (النِّسَاءِ: 3)، وَهَذَا عَامٌّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ، ثُمَّ خُصَّ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الْآيَةَ (النِّسَاءِ: 23)، وَقَوْلُهُ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} (النُّورِ: 2) عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، ثُمَّ خَصَّهُ بِقَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (النِّسَاءِ: 25). وَقَوْلُهُ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 254) فَإِنَّ الْخُلَّةَ عَامَّةٌ، ثُمَّ خَصَّهَا بِقَوْلِهِ: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (الزُّخْرُفِ: 67). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَا شَفَاعَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 254) بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُؤْمِنِينَ. فَائِدَةٌ قَدْ يَكُونُ الْكَلَامَانِ مُتَّصِلَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا خَاصًّا وَالْآخَرُ عَامًّا؛ وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِمْ لِمَنْ أَعْطَى زَيْدًا دِرْهَمًا: أَعْطِ عَمْرًا، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا أَعْطَيْتَ؛ يُرِيدُ إِنْ لَمْ تُعْطِ عَمْرًا، فَأَنْتَ لَمْ تُعْطِ زَيْدًا أَيْضًا، وَذَاكَ غَيْرُ مَحْسُوبٍ لَكَ. ذَكَرَهُ ابْنُ فَارِسٍ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَةِ: 67) قَالَ: فَهَذَا خَاصٌّ بِهِ يُرِيدُ هَذَا الْأَمْرَ الْمُحَدَّدَ بَلِّغْهُ، {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} (الْمَائِدَةِ: 67) وَلَمْ تُبَلِّغْ {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 67) يُرِيدُ جَمِيعَ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ. قُلْتُ: وَهُوَ وَجْهٌ حَسَنٌ؛ وَفِي الْآيَةِ وُجُوهٌ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّكَ إِنْ تَرَكَتْ مِنْهَا شَيْئًا كُنْتَ كَمَنْ لَا يُبَلِّغُ شَيْئًا مِنْهَا، فَيَكُونُ تَرْكُ الْبَعْضِ مُحْبِطًا لِلْبَاقِي. قَالَ الرَّاغِبُ: وَكَذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي تَكْلِيفَاتِهِمْ أَشَدُّ، وَلَيْسَ حُكْمُهُمْ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ الَّذِينَ يُتَجَاوَزُ عَنْهُمْ إِذَا خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا؛ وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ: أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي مَعْنَاهُ: أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْمَتَانَةِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَدِّ شَيْءٍ قِيلَ فِي نَظْمٍ: إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ فَيُفِيدُ تَكْرِيرَ الْمُبَالَغَةِ التَّامَّةِ فِي الْمَدْحِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَكَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ هَاهُنَا؛ يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ بَعْضِ الْمُبَلَّغَ تَهْدِيدًا أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَضُعِّفَ الْوَجْهُ الَّذِي قَبْلَهُ بِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ، لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ كَانَ كَذِبًا، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْخَلَلَ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ، كَالْخَلَلِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مُحَالٌ. وَفِي هَذَا التَّضْعِيفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَتَى أُتِيَ بِهِ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ فَوُجُودُهُ كَالْعَدَمِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: سُئِلْتَ فَلَمْ تَمْنَعْ وَلَمْ تُعْطِ نَائِلًا *** فَسِيَّانِ لَا ذَمٌّ عَلَيْكَ وَلَا حَمْدُ أَيْ وَلَمْ تُعْطِ مَا يُعَدُّ نَائِلًا، وَإِلَّا يَتَكَاذَبُ الْبَيْتُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ كِتْمَانِ الْبَعْضِ جَعَلَهُ كَكِتْمَانِ الْكُلِّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (الْمَائِدَةِ: 32). الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَضَعَ السَّبَبَ مَوْضِعَ الْمُسَبِّبِ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، فَلَكَ مَا يُوجِبُهُ كِتْمَانُ الْوَحْيِ كُلِّهِ مِنَ الْعَذَابِ. ذَكَرَ هَذَا وَالَّذِي قَبْلَهُ صَاحِبُ " الْكَشَّافِ ".
تنبيه: قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بَلَّغَهُ الْكَافَّةَ، وَإِنَّمَا وُرُودُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ؛ نَحْوُ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْفَرْجِ وَمِنْ مَسِّ الْمَرْأَةِ، وَمِمَّا مَسَّتِ النَّارُ وَنَحْوِهَا، لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ مَا كَانَ فِيهَا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَارِدًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ، عَلِمْنَا أَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ. انْتَهَى. وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ مَمْنُوعَةٌ؛ لِأَنَّ التَّبْلِيغَ مُطْلَقٌ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِصُورَةِ التَّوَاتُرِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَلَا تَثْبُتُ زِيَادَةُ ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ- لَمْ يُكَلِّفْ رَسُولَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِشَاعَةَ شَيْءٍ إِلَى جَمْعٍ يَتَحَصَّلُ بِهِمُ الْقَطْعُ غَيْرَ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ الْأَكْبَرُ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْقَطْعُ، فَأَمَّا بَاقِي الْأَحْكَامِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُرْسِلُ بِهَا إِلَى الْآحَادِ وَالْقَبَائِلِ، وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى قَطْعًا.
نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْبَقَرَةِ: 21) فَإِنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّاسِ لَا كُلَّ فَرْدٍ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ غَيْرَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ، وَهَذَا يَغْلِبُ فِي خِطَابِ أَهْلِ مَكَّةَ كَمَا سَبَقَ، وَرَجَّحَ الْأُصُولِيُّونَ دُخُولَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْخِطَابِ بِـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}. وَفِي الْقُرْآنِ سُورَتَانِ أَوَّلُهُمَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إِحْدَاهُمَا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ وَهِيَ السُّورَةُ الرَّابِعَةُ مِنْهُ، وَهِيَ سُورَةُ النِّسَاءِ، وَالثَّانِيَةُ فِي النِّصْفِ الثَّانِي مِنْهُ، وَهِيَ سُورَةُ الْحَجِّ، وَالْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَبْدَأِ، وَالثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الْمَعَادِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّرْتِيبَ مَا أَوْقَعَهُ فِي الْبَلَاغَةِ! قَالَ الرَّاغِبُ: وَ (النَّاسُ) قَدْ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْفُضَلَاءُ دُونَ مَنْ يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ (النَّاسِ) تَجَوُّزًا، وَذَلِكَ إِذَا اعْتُبِرَ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ وُجُودُ الْفَضْلِ وَالذِّكْرِ وَسَائِرِ الْقُوَى الْمُخْتَصَّةِ بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ عُدِمَ فِعْلُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ لَا يَكَادُ يَسْتَحِقُّ اسْمَهُ، كَالْيَدِ فَإِنَّهَا إِذَا عَدِمَتْ فِعْلَهَا الْخَاصَّ بِهَا، فَإِطْلَاقُ الْيَدِ عَلَيْهَا كَإِطْلَاقِهِ عَلَى يَدِ السَّرِيرِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} (الْبَقَرَةِ: 13) أَيْ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالْإِنْسَانِ عَيْنًا وَاحِدًا، بَلْ قَصَدَ الْمَعْنَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} (النِّسَاءِ: 54) أَيْ مَنْ وُجِدَ فِيهِمْ مَعْنَى الْإِنْسَانِيَّةِ، أَيَّ إِنْسَانٍ كَانَ. قَالَ: وَرُبَّمَا قُصِدَ بِهِ النَّوْعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (الْبَقَرَةِ: 251).
نَحْوُ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْبَقَرَةِ: 42) وَالْمُرَادُ بَنُو يَعْقُوبَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِلَطِيفَةٍ سَبَقَتْ فِي النَّوْعِ السَّادِسِ، وَهُوَ عِلْمُ الْمُبْهَمَاتِ.
نَحْوُ: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْبَقَرَةِ: 35). {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} (هُودٍ: 48). {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (الصَّافَّاتِ: 104 وَ 105). {يَا مُوسَى} (الْأَعْرَافِ: 144). {يَا عِيسَى} (آلِ عِمْرَانَ: 55). وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ النِّدَاءُ بِـ " يَا مُحَمَّدُ " بَلْ بِـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (الْأَنْفَالِ: 64)، وَ{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (الْمَائِدَةِ: 41) تَعْظِيمًا لَهُ وَتَبْجِيلًا، وَتَخْصِيصًا بِذَلِكَ عَنْ سِوَاهُ.
نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْبَقَرَةِ: 104) وَهَذَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا، تَمْيِيزًا لَهُمْ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ كَلَّ آيَةٍ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (الْبَقَرَةِ: 21) لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الْأَمْرُ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ، وَيَأْتِي بَعْدَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الْأَمْرُ بِتَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ جَاءَ بَعْدَهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَمْرِ بِالِاسْتِصْحَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} (النُّورِ: 31) قِيلَ يَرِدُ الْخِطَابُ بِذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ؛ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَظَاهَرُونَ بِالْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ- سُبْحَانَهُ-: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} (الْمَائِدَةِ: 41). وَقَدْ جَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} (الْآيَةِ: 12) أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الْخِطَابُ بِـ{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (الْأَنْفَالِ: 64)، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} (الْمَائِدَةِ: 41) وَلِهَذَا تَجِدُ الْخِطَابَ بِالنَّبِيِّ فِي مَحَلٍّ لَا يَلِيقُ بِهِ الرَّسُولُ، وَكَذَا عَكْسَهُ، كَقَوْلِهِ فِي مَقَامِ الْأَمْرِ بِالتَّشْرِيعِ الْعَامِّ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (الْمَائِدَةِ: 67) وَفِي مَقَامِ الْخَاصِّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (التَّحْرِيمِ: 1) وَمِثْلُهُ: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (الْأَحْزَابِ: 50). وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْحُجُرَاتِ: 1) فِي مَقَامِ الْإِقْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ قَالَ: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (الْحُجُرَاتِ: 2) فَكَأَنَّهُ جَمَعَ لَهُ الْمَقَامَيْنِ: مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، تَعْدِيدًا لِلنِّعَمِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي الْمُضَافِ إِلَى الْخَاصِّ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} (الْأَحْزَابِ: 32) وَلَمْ يَقُلْ يَا نِسَاءَ الرَّسُولِ لَمَّا قَصَدَ اخْتِصَاصَهُنَّ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالنَّبِيِّ فِي مَقَامِ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، لَكِنَّ مَعَ قَرِينَةِ إِرَادَةِ التَّعْمِيمِ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطَّلَاقِ: 1) وَلَمْ يَقِلْ " طَلَّقْتَ ".
نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (التَّحْرِيمِ: 7)، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1). وَلِتَضَمُّنِهِ الْإِهَانَةَ لَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ. وَكَثُرَ الْخِطَابُ بِـ{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (الْبَقَرَةِ: 104) عَلَى الْمُوَاجَهَةِ، وَفِي جَانِبِ الْكُفَّارِ عَلَى الْغَيْبَةِ، إِعْرَاضًا عَنْهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} (الْأَنْفَالِ: 38) ثُمَّ قَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (الْأَنْفَالِ: 39) فَوَاجَهَ بِالْخِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْرَضَ بِالْخِطَابِ عَنِ الْكَافِرِينَ، وَلِهَذَا كَانَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَتَبَ عَلَى قَوْمٍ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَفْعَلُونَ كَذَا! فَكَنَّى عَنْهُ تَكَرُّمًا، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ إِعْرَاضًا.
نَحْوُ: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْأَعْرَافِ: 19) وَقَوْلُهُ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (الْحِجْرِ: 46).
نَحْوُ قَوْلِهِ لِإِبْلِيسَ: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْحِجْرِ: 34 وَ 35). وَقَوْلِهِ: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 108). وَقَوْلِهِ: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} (الْإِسْرَاءِ: 64). قَالُوا: لَيْسَ هَذَا إِبَاحَةً لِإِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْكَ لَا يَضُرُّ عِبَادَهُ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الْإِسْرَاءِ: 65).
وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُخَاطَبِ، مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ مَأْخُوذٌ مِنْ " تَهَكَّمَ الْبِئْرُ " إِذَا تَهَدَّمَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} (الدُّخَانِ: 49) وَهُوَ خِطَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا- يَعْنِي مَكَّةَ- أَعَزُّ وَلَا أَكْرَمُ مِنِّي. وَقَالَ: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التَّوْبَةِ: 34) جَعَلَ الْعَذَابَ مُبَشَّرًا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} (الْوَاقِعَةِ: 56). وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} (الْوَاقِعَةِ: 92- 94) وَالنُّزُلُ لُغَةً: هُوَ الَّذِي يُقَدَّمُ لِلنَّازِلِ تَكْرِمَةً لَهُ قَبْلَ حُضُورِ الضِّيَافَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرَّعْدِ: 10 وَ 11). عَلَى تَفْسِيرِ الْمُعَقِّبَاتِ بِالْحَرَسِ حَوْلَ السُّلْطَانِ، يَحْفَظُونَهُ- عَلَى زَعْمِهِ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهُوَ تَهَكُّمٌ، فَإِنَّهُ لَا يَحْفَظُهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِذَا جَاءَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (الْأَحْزَابِ: 18) وَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُمْ وَ{يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هُودٍ: 5) لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} (الْوَاقِعَةِ: 43 وَ 44) وَذَلِكَ لِأَنَّ الظِّلَّ مِنْ شَأْنِهِ الِاسْتِرْوَاحُ وَاللَّطَافَةُ، فَنُفِيَ هُنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَأْهِلُونَ الظِّلَّ الْكَرِيمَ.
كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الِانْشِقَاقِ: 6). {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (الِانْفِطَارِ: 6). وَالْمُرَادُ الْجَمِيعُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (الْعَصْرِ: 2 وَ 3). وَكَانَ الْحَجَّاجُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: " يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَكُلُّكُمْ ذَلِكَ الْإِنْسَانُ ". وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي} (الْحِجْرِ: 68) وَلَمْ يَقُلْ ضُيُوفِي لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ. وَقَوْلِهِ: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} (الْمُنَافِقُونَ: 4) وَلَمْ يَقِلِ الْأَعْدَاءُ. وَقَوْلِهِ: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (النِّسَاءِ: 69) أَيْ رُفَقَاءَ. وَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 285)، {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الْحَاقَّةِ: 47). وَفِي الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (الْمَائِدَةِ: 6)، وَقَوْلِهِ: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التَّحْرِيمِ: 4). وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} (يُوسُفَ: 80) وَجَمْعُهُ أَنْجِيَةٌ، مِنَ الْمُنَاجَاةِ. وَقَوْلِهِ: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} (النُّورِ: 31) فَأَوْقَعَ الطِّفْلَ جِنْسًا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَهَذَا بَابٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَا الصِّفَةُ، نَحْوُ: الشَّاةُ وَالْبَعِيرُ وَالْإِنْسَانُ وَالْمَلَكُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} (الْحَاقَّةِ: 17)، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (الْفَجْرِ: 22)، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (الْعَصْرِ: 2) وَمِنْ مَجِيئِهِ فِي الصِّفَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} (الْفُرْقَانِ: 27)، وَقَوْلُهُ: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} (الرَّعْدِ: 42). قَالَ: وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَا تَقَعُ هَذَا الْمَوْقِعَ، إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَجْرِيَ مَجْرَى الِاسْمِ الصَّرِيحِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (الْمُؤْمِنُونَ: 51) إِلَى قَوْلِهِ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 54) فَهَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ، إِذْ لَا نَبِيَّ مَعَهُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (النَّحْلِ: 126) خَاطَبَ بِهِ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (النَّحْلِ: 127) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} (النُّورِ: 22) الْآيَةَ؛ خَاطَبَ بِذَلِكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ لَمَّا حَرَمَ مِسْطَحًا رِفْدَهُ حِينَ تَكَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} (هُودٍ: 14) وَالْمُخَاطَبُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْضًا، لِقَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا} (هُودٍ: 13). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} (الشُّعَرَاءِ: 21). وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (الْمُؤْمِنُونَ: 99)؛ أَيِ ارْجِعْنِي؛ وَإِنَّمَا خَاطَبَ الْوَاحِدَ الْمُعَظَّمَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَقُولُ: نَحْنُ فَعَلْنَا، فَعَلَى هَذَا الِابْتِدَاءِ خُوطِبُوا بِمَا فِي الْجَوَابِ. وَقِيلَ: (رَبِّ) اسْتِغَاثَةٌ وَ (ارْجِعُونَ) خِطَابُ الْمَلَائِكَةِ، فَيَكُونُ الْتِفَاتًا أَوْ جَمْعًا لِتَكْرَارِ الْقَوْلِ؛ كَمَا قَالَ: " قِفَا نَبْكِ ". وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: هُوَ قَوْلُ مَنْ حَضَرْتُهُ الشَّيَاطِينُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ، فَاخْتَلَطَ وَلَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنَ الشَّطَطِ، وَقَدِ اعْتَادَ أَمْرًا يَقُولُهُ فِي الْحَيَاةِ، مِنْ رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الزُّخْرُفِ: 32) الْآيَةَ، وَهَذَا مِمَّا لَا تَشْرِيكَ فِيهِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى حُكْمِ الِاسْتِلْزَامِ؛ مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّ ذَلِكَ كِبْرٌ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ- سُبْحَانَهُ. وَمِنْ هَذَا مَا حَكَاهُ الْحَرِيرِيُّ فِي شَرْحِ " الْمِلْحَةِ " عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظَةِ " نَحْنُ " عَلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ غَرِيبٌ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ خِلَافًا فِي نُونِ الْجَمْعِ الْوَارِدَةِ فِي كَلَامِهِ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَقِيلَ: جَاءَتْ لِلْعَظَمَةِ يُوصَفُ بِهَا- سُبْحَانَهُ، وَلَيْسَ لِمَخْلُوقٍ أَنْ يُنَازِعَهُ فِيهَا؛ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُكْرَهُ لِلْمُلُوكِ اسْتِعْمَالُهَا فِي قَوْلِهِمْ: نَحْنُ نَفْعَلُ كَذَا، وَقِيلَ فِي عِلَّتِهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَصَارِيفُ أَقْضِيَتِهِ تَجْرِي عَلَى أَيْدِي خَلْقِهِ تَنْزِلُ أَفْعَالُهُمْ مَنْزِلَةَ فِعْلِهِ، فَلِذَلِكَ وَرَدَ الْكَلَامُ مَوْرِدَ الْجَمْعِ، فَعَلَى هَذَا تَجُوزُ مُبَاشَرَةُ النُّونِ لِكُلِّ مَنْ لَا يُبَاشِرُ بِنَفْسِهِ. فَأَمَّا قَوْلُ الْعَالِمِ: نَحْنُ نُبَيِّنُ، وَنَحْنُ نَشْرَحُ، فَمَسْمُوحٌ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِنُونِ الْجَمْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِ مَقَالَتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} (الْأَنْعَامِ: 130) وَالْمُرَادُ الْإِنْسُ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بَنِي آدَمَ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ، لَكِنْ عَنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ مِنَ الْجِنِّ رَسُولًا اسْمُهُ يُوسُفَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} (فَاطِرٍ: 24) وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} (الْأَنْعَامِ: 9) لِيَحْصُلَ الِاسْتِئْنَاسُ، وَذَلِكَ مَفْقُودٌ فِي الْجِنِّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} (آلِ عِمْرَانَ: 33) الْآيَةَ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاصْطِفَاءِ النُّبُوَّةُ. وَأُجِيبَ عَنْ تَمَسُّكِ الضَّحَّاكِ بِالْآيَةِ بِأَنَّ الْبَعْضِيَّةَ صَادِقَةٌ بِكَوْنِ الرُّسُلِ مَنْ بَنِي آدَمَ، وَلَا يَلْزَمُ إِثْبَاتُ رُسُلٍ مِنَ الْجِنِّ بِطَرِيقِ إِثْبَاتِ نَفَرٍ مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مِنْ رُسُلِ الْإِنْسِ، وَيُبَلِّغُونَهُ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَيُنْذِرُونَهُمْ، وَيَصْدُقُ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ رُسُلُ الرُّسُلِ. وَقَدْ سَمَّى اللَّهَ رُسُلَ عِيسَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} (يس: 14). وَفِي " تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ " لِقَوَّامِ السُّنَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْجَوْزِيِّ قَالَ قَوْمٌ: مِنَ الْجِنِّ رُسُلٌ، لِلْآيَةِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ، وَيَجِئْ مِنَ الْجِنِّ، كَقَوْلِهِ فِي قِصَّةِ بِلْقِيسَ: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} (النَّمْلِ: 35) وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} (النَّمْلِ: 37) وَفِيهِ نَظَرٌ، مِنْ جِهَةٍ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِرَئِيسِهِمْ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ لَا سِيَّمَا مِنَ الْمُلُوكِ أَلَّا يُرْسِلُوا وَاحِدًا، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (ارْجِعُوا إِلَيْهِمْ) أَرَادَ الرَّسُولَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} (النُّورِ: 26) يَعْنِي عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 105) وَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِينَ: نُوحٌ، كَقَوْلِكَ: فُلَانٌ يَرْكَبُ الدَّوَابَّ وَيَلْبَسُ الْبُرُودَ، وَمَا لَهُ إِلَّا دَابَّةٌ وَبُرْدٌ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} (التَّوْبَةِ: 66) قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا رَجُلٌ كَانَ لَا يُمَالِئُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَسَمَّاهُ اللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- طَائِفَةً. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَيُسَمَّى الرَّجُلُ طَائِفَةً. وَقَوْلِهِ: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (إِبْرَاهِيمَ: 31) وَالْمُرَادُ " خُلَّةٌ "؛ بِدَلِيلِ الْآيَةِ الْأُخْرَى (الْبَقَرَةِ: 254) وَالْمُوجِبُ لِلْجَمْعِ مُنَاسَبَةُ رُءُوسِ الْآيِ. فَائِدَةٌ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الْفُرْقَانِ: 74) فَجَوَّزَ الْفَارِسِيُّ فِيهِ تَقْدِيرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ " إِمَامًا " هُنَا جَمْعٌ، لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِجَعَلَ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَمْعٌ، وَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا، وَوَاحِدَهُ " آمٌّ " لِأَنَّهُ قَدْ سُمِعَ هَذَا فِي وَاحِدِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (الْمَائِدَةِ: 2) فَهَذَا جَمْعُ " آمٍّ " مُسَلَّمًا وَقِيَاسُهُ عَلَى حَدِّ قِيَامٍ وَقَائِمٍ، فَأَمَّا أَئِمَّةٌ فَجَمْعُ إِمَامٍ الَّذِي هُوَ مُقَدَّرٌ عَلَى حَدِّ عِنَانٍ وَأَعَنَّةٍ، وَسِنَانٍ وَأَسِنَّةٍ، وَالْأَصْلُ أَيِّمَةٌ، فَقُلِبَتِ الْيَاءُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعٌ لِإِمَامٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَئِمَّةٌ، فَيَكُونُ إِمَامٌ عَلَى هَذَا وَاحِدًا، وَجَمْعُهُ أَئِمَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ: قَيَّدَتْ عَنْ شَيْخِنَا الشَّلَوْبِينِ فِيهِ احْتِمَالَيْنِ غَيْرَ هَذَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالْإِمَامِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنَ الصِّفَاتِ الْمُجْرَاةِ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي تَرْكِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ كَحَسِبَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِمْ: دَخَلْنَا عَلَى الْأَمِيرِ وَكَسَانَا حُلَّةً، وَالْمُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ حُلَّةً، وَكَذَلِكَ هُوَ وَ " اجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا إِمَامًا ".
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (ق: 24) وَالْمُرَادُ مَالِكٌ، خَازِنُ النَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْخِطَابُ لِخَزَنَةِ النَّارِ وَالزَّبَانِيَةِ؛ وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ الرُّفْقَةَ أَدْنَى مَا تَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ، فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ، مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (ق: 21). وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ: لَمَّا ثَنَّى الضَّمِيرَ اسْتَغْنَى عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَلْقِ أَلْقِ، يُشِيرُ إِلَى إِرَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَجَعَلَ الْمَهْدَوِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (يُونُسَ: 89) قَالَ: الْخِطَابُ لِمُوسَى وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ الدَّاعِي، وَقِيلَ لَهُمَا، وَكَانَ هَارُونُ قَدْ أَمَّنَ عَلَى دُعَائِهِ، وَالْمُؤَمِّنُ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ (طه: 49) أَيْ وَيَا هَارُونَ. وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَفْرَدَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنِّدَاءِ بِمَعْنَى التَّخْصِيصِ وَالتَّوَقُّفِ؛ إِذْ كَانَ هُوَ صَاحِبَ عَظِيمِ الرِّسَالَةِ وَكَرِيمِ الْآيَاتِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَالثَّانِي: لَمَّا كَانَ هَارُونُ أَفْصَحَ لِسَانًا مِنْهُ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ثَبَتَ عَنْ جَوَابِ الْخَصْمِ الْأَلَدِّ، ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ. وَانْظُرْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَوَابِينَ. وَمِثْلُهُ: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه: 117) قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِالشَّقَاءِ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَالْمَقْصُودُ فِي الْكَلَامِ. وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الشَّقَاءَ فِي مَعِيشَةِ الدُّنْيَا فِي حَيِّزِ الرِّجَالِ، وَيُحْتَمَلُ الْإِغْضَاءُ عَنْ ذِكْرِ الْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا قِيلَ مِنَ الْكَرَمِ سَتْرُ الْحُرَمِ. وَقَوْلِهِ: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 16). وَنَحْوُهُ فِي وَصْفِ الِاثْنَيْنِ بِالْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التَّحْرِيمِ: 4). وَقَالَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} (الْحَجِّ: 19) وَلَمْ يَقُلْ: اخْتَصَمَا. وَقَالَ: {فَتَابَ عَلَيْهِ} (الْبَقَرَةِ: 37)، وَلَمْ يَقُلْ: " عَلَيْهِمَا " اكْتِفَاءً بِالْخَبَرِ عَنْ أَحَدِهِمَا بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا} الْآيَةَ (يُونُسَ: 61) فَجُمِعَ ثَالِثُهَا، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: إِنَّمَا جُمِعَ فِي الْفِعْلِ الثَّالِثِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ دَاخِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا جُمِعَ تَفْخِيمًا لَهُ وَتَعْظِيمًا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 75). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (يُونُسَ: 87) فَثَنَّى فِي الْأَوَّلِ، ثُمَّ جَمَعَ ثُمَّ أَفْرَدَ؛ لِأَنَّهُ خُوطِبَ أَوَّلًا مُوسَى وَهَارُونُ؛ لِأَنَّهُمَا الْمَتْبُوعَانِ، ثُمَّ سِيقَ الْخِطَابُ عَامًّا لَهُمَا وَلِقَوْمِهِمَا بِاتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالصَّلَاةِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ خُصَّ مُوسَى بِالْبِشَارَةِ تَعْظِيمًا لَهُ.
كَقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} (الْأَحْزَابِ: 1) الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ الْمُؤْمِنُونَ: لِأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ تَقِيًّا، وَحَاشَاهُ مِنْ طَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (الْأَحْزَابِ: 2). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (يُونُسَ: 94) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} (يُونُسَ: 104). وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَوَّلَهُ، قَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّاهِدُ فِي الْيَاقُوتَةِ: سَمِعْتُ الْإِمَامَيْنِ ثَعْلَبَ وَالْمُبَرِّدَ يَقُولَانِ: مَعْنَى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكَافِرِ: إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنَ الْقُرْآنِ فَاسْأَلْ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْيَهُودِ؛ إِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ كِتَابٍ. وَقَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 43) قَالَ ابْنُ فَوْرِكٍ: مَعْنَاهُ وَسَّعَ اللَّهُ عَنْكَ عَلَى وَجْهِ الدُّعَاءِ، وَ{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 43) تَغْلِيظٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ عِتَابٌ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ؛ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} (يُونُسَ: 94). وَقَوْلِهِ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (عَبَسَ: 1) قِيلَ إِنَّهُ أُمَيَّةُ، وَهُوَ الَّذِي تَوَلَّى دُونَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقِلْ: عَبَسْتَ! وَقَوْلِهِ: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزُّمَرِ: 65). وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (الْبَقَرَةِ: 145). وَبِهَذَا يَزُولُ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ فِي أَنَّهُ: كَيْفَ يَصِحُّ خِطَابُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ ثُبُوتِ عِصْمَتِهِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ وَيُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالْمُحَالُ يَصِحُّ فَرْضُهُ لِغَرَضٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا وَنَحْوَهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْعَامِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ شَخْصٍ مُعِينٍ؛ وَالْمَعْنَى اتِّفَاقُ جَمِيعِ الشَّرَائِعِ عَلَى ذَلِكَ. وَيُسْتَرَاحُ حِينَئِذٍ مِنْ إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ مِنْ أَصْلِهِ. وَعَكْسُ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَامًّا، وَالْمُرَادُ الرَّسُولُ، قَوْلُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} الْآيَةَ (الْأَنْبِيَاءِ: 10) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي سِيَاقِهَا: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يُونُسَ: 99). وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الْآيَةِ: 35) فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فِي أَلَا تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لِجَمْعَهَمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَهْتَمَّ بِوُجُودِ كُفْرِهِمُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ. ثُمَّ قَالَ: وَيَظْهَرُ تَبَايُنُ مَا بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وَبَيْنَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (هُودٍ: 46) وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ مَكِّيٌّ وَالْمَهْدَوِيُّ: الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (الْأَنْعَامِ: 35) لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ وَلَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ. وَقَالَ قَوْمٌ: وُقِّرَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسِنِّهِ وَشَيْبِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: جَاءَ الْحَمْلُ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقُرْبِهِ مِنَ اللَّهِ وَمَكَانَتِهِ، كَمَا يَحْمِلُ الْعَاتِبُ عَلَى قَرِيبِهِ أَكْثَرَ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَجَانِبِ. قَالَ: وَالْوَجْهُ الْقَوِيُّ عِنْدِي فِي الْآيَةِ هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَجِئْ بِحَسَبِ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّمَا جَاءَ بِحَسَبِ الْأَمْرِ مِنَ اللَّهِ، وَوَقْعِ النَّبِيِّ عَنْهُمَا وَالْعِقَابِ فِيهِمَا.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ صَالِحٍ لَمَّا هَلَكَ قَوْمُهُ: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الْأَعْرَافِ: 79) خَاطَبَهُمْ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ؛ إِمَّا لِأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَهْلِ بَدْرٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَإِمَّا لِلِاعْتِبَارِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا} (الْعَنْكَبُوتِ: 20). وَقَوْلِهِ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (الْأَنْعَامِ: 99).
كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} (هُودٍ: 14) الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَالَ لِلْكُفَّارِ: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (هُودٍ: 14) بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (هُودٍ: 14). وَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (النِّسَاءِ: 3). قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ فِي كِتَابِ الْمُبْتَدَأِ كَذَا بِخَطِّ الْمُصَنِّفِ.
وَسَمَّاهُ الثَّعْلَبِيُّ الْمُتَلَوِّنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (الطَّلَاقِ: 1)، {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} (طه: 49) وَتُسَمِّيهِ أَهِلُ الْمَعَانِي الِالْتِفَاتَ؛ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- بِأَقْسَامِهِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فُصِّلَتْ: 11) تَقْدِيرُهُ: طَائِعَةٌ. وَقِيلَ: لَمَّا كَانَتْ مِمَّنْ يَقُولُ، وَهِيَ حَالَةُ عَقْلٍ، جَرَى الضَّمِيرُ فِي (طَائِعِينَ) عَلَيْهِ كَقَوْلِهِمْ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يُوسُفَ: 4). وَقَدِ اخْتُلِفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ حَقِيقَةٌ، بِأَنْ جَعَلَ لَهَا حَيَاةً وَإِدْرَاكًا يَقْتَضِي نُطْقَهَا، أَوْ مَجَازًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا مِنَ اخْتِيَارِ الطَّاعَةِ وَالْخُضُوعِ بِمَنْزِلَةِ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ، لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ يَدْفَعُهُ، وَالْعِبْرَةُ فِيهِ أَتَمُّ، وَالْقُدْرَةُ فِيهِ أَظْهَرُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} (سَبَأٍ: 10) فَأَمَرَهَا كَمَا تُؤْمَرُ الْوَاحِدَةُ الْمُخَاطَبَةُ الْمُؤَنَّثَةُ لِأَنَّ جَمِيعَ مَا لَا يَعْقِلُ كَذَلِكَ يُؤْمَرُ.
كَقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْمَائِدَةِ: 23)، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَوَكَّلْ يَنْتَفِي عَنْهُمُ الْإِيمَانُ، بَلْ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّوَكُّلِ. وَقَوْلِهِ: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (التَّوْبَةِ: 13). وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 278) فَإِنَّهُ- سُبْحَانَهُ- وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فَقَصَدَ حَثَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الرِّبَا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ حَقَّهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ. وَقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الْأَنْفَالِ: 1). وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (يُونُسَ: 84). وَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (الْأَنْفَالِ: 41). وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: " إِنْ " هَاهُنَا بِمَعْنَى إِذْ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الْمُمْتَحَنَةِ: 9). وَقَوْلِهِ: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (الْكَهْفِ: 50). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 89).
وَهُوَ الْحَثُّ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ، مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصَّفِّ: 4) وَكَفَى بِحَثِّ اللَّهِ- سُبْحَانَهُ- تَشْجِيعًا عَلَى مُنَازَلَةِ الْأَقْرَانِ، وَمُبَاشَرَةِ الطِّعَانِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 125). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} (الْأَنْفَالِ: 16) وَكَيْفَ لَا يَكُونُ لِلْقَوْمِ صَبْرٌ وَالْمَلِكُ الْحَقُّ- جَلَّ جَلَالُهُ- قَدْ وَعَدَهُمْ بِالْمَدَدِ الْكَرِيمِ فَقَالَ: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 126) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (النِّسَاءِ: 104). وَقَدْ جَاءَ فِي مُقَابَلَةِ هَذَا الْقَسْمِ مَا يُرَادُ مِنْهُ الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ، وَالتَّأَنِّي بِالْحَرْبِ، وَالِاسْتِظْهَارُ عَلَيْهَا بِالْعُدَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (الْبَقَرَةِ: 195) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الْأَنْفَالِ: 60). وَنَحْوُ ذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ مَا جَاءَ فِي قَصَصِ الْأَشْقِيَاءِ تَحْذِيرًا لِمَا نَزَلَ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِخْبَارًا لِلسُّعَدَاءِ فِيمَا صَارُوا إِلَيْهِ مِنَ الثَّوَابِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الْحُجُرَاتِ: 12) فَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْصَافًا وَتَصْوِيرًا لِمَا يَنَالُهُ الْمُغْتَابُ مِنْ عِرْضِ مَنْ يَغْتَابُهُ عَلَى أَفْظَعِ وَجْهٍ؛ وَفِي ذَلِكَ مَحَاسِنُ كَالِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ، وَجَعْلِ مَا هُوَ الْغَايَةُ فِي الْكَرَاهَةِ مَوْصُولًا بِالْمَحَبَّةِ، وَإِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى (أَحَدِكُمْ)، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ ذَلِكَ. وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى تَمْثِيلِ الِاعْتِبَارِ بِأَكْلِ لَحْمِ الْإِنْسَانِ حَتَّى جَعَلَهُ " أَخًا " وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَحْمِ الْأَخِ حَتَّى جَعَلَهُ " مَيْتًا " وَهَذِهِ مُبَالَغَاتٌ عَظِيمَةٌ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُغْتَابَ غَائِبٌ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الدَّفْعِ لِمَا قِيلَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمَيِّتِ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزُّمَرِ: 53).
نَحْوُ: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} (مَرْيَمَ: 42). {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} (لُقْمَانَ: 16). {يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} (طه: 94). وَمِنْهُ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ.
نَحْوُ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (الْبَقَرَةِ: 23)، {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} (الطُّورِ: 34). {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} (هُودٍ: 13). {فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} (آلِ عِمْرَانَ: 168). وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} (الْإِسْرَاءِ: 50) وَرَدَّ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّ التَّعْجِيزَ يَكُونُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمْرِ فِعْلُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْآيَةِ: كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرِ كَذَا.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 119).
نَحْوُ قَوْلِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 93). {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} (الْأَنْعَامِ: 150).
وَهُوَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ مُخَاطِبُهُ بِقُلْ، مِنْ وُجُوهِ الْخِطَابِ فِي الْقُرْآنِ كَالْقَلَاقِلِ، وَكَقَوْلِهِ: {قُلْ آمَنَّا} (آلِ عِمْرَانَ: 84) وَهُوَ تَشْرِيفٌ مِنْهُ- سُبْحَانَهُ- لِهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ بِأَنْ يُخَاطِبَهَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ لِتَفُوزَ بِشَرَفِ الْمُخَاطَبَةِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنَ الْفَصِيحِ أَنْ يَقُولَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إِلَيْهِ قَالَ لِي الْمُرْسِلُ: قُلْ كَذَا وَكَذَا؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِسْقَاطُهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَقَاؤُهَا، وَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ فَائِدَةٍ، فَتَكُونُ أَمْرًا مِنَ الْمُتَكَلِّمِ لِلْمُتَكَلَّمِ بِمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ أَمْرَهُ شِفَاهًا بِلَا وَاسِطَةٍ؛ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تُخَاطِبُهُ: افْعَلْ كَذَا.
وَيَصِحُّ ذَلِكَ تَبَعًا لِمَوْجُودٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ} (الْأَعْرَافِ: 26) فَإِنَّهُ خِطَابٌ لِأَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَلِكُلِّ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ عَلَى نَحْوِ مَا يَجْرِي مِنَ الْوَصَايَا فِي خِطَابِ الْإِنْسَانِ لِوَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ مَا تَنَاسَلُوا، بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِتْيَانِ طَاعَتِهِ. قَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَإِنَّمَا جَازَ خِطَابُ الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَكُونُ بِالْإِرَادَةِ لِلْمُخَاطِبِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْ فَيَكُونُ} (النَّحْلِ: 40) فَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ أَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ حَصَلَ بِخِطَابِ " كُنْ ". وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: التَّكْوِينُ أَزَلِيٌّ قَائِمٌ بِذَاتِ الْبَارِئِ- سُبْحَانَهُ، وَهُوَ تَكْوِينٌ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَالَمِ عِنْدَ وُجُودِهِ، لَا أَنَّهُ يُوجَدُ عِنْدَ " كَافٍ وَنُونٍ ". وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ خِطَابَ " كُنْ " مَوْجُودٌ عِنْدَ إِيجَادِ كُلِّ شَيْءٍ، فَالْحَاصِلُ عِنْدَهُمْ فِي إِيجَادِ الشَّيْءِ شَيْئَانِ: الْإِيجَادُ وَخِطَابُ " كُنْ ". وَاحْتَجَّ الْأَشَاعِرَةُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النَّحْلِ: 40) وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس: 82) وَقَوْلِهِ: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (الْبَقَرَةِ: 117). وَلَوْ حَصَلَ وُجُودُ الْعِلْمِ بِالتَّكْوِينِ لَمْ يَكُنْ فِي خِطَابِ " كُنْ " فَائِدَةٌ عِنْدَ الْإِيجَادِ. وَأَجَابَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّا نَقُولُ لِمُوجِبِهَا وَلَا تَسْتَقِلُّ بِالْفَائِدَةِ؛ كَالْمُتَشَابِهِ، فَيَقُولُ بِوُجُودِ خِطَابِ كُنْ عِنْدَ الْإِيجَادِ فِي غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ.
|