الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
اعْلَمْ أَنَّ الْمَوْصُولَ فِي الْوُجُودِ تُوصَلُ كَلِمَاتُهُ فِي الْخَطِّ؛ كَمَا تُوصَلُ حُرُوفُ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَالْمَفْصُولُ مَعْنًى فِي الْوُجُودِ يُفْصَلُ فِي الْخَطِّ، كَمَا تُفْصَلُ كَلِمَةٌ عَنْ كَلِمَةٍ. فَمِنْهُ " إِنَّمَا " بِالْكَسْرِ كُلُّهُ مَوْصُولٌ إِلَّا وَاحِدًا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} (الْأَنْعَامِ: 134)، لِأَنَّ حَرْفَ " مَا " هُنَا وَقَعَ عَلَى مُفَصَّلٍ؛ فَمِنْهُ خَيْرٌ مَوْعُودٌ بِهِ لِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَمِنْهُ شَرٌّ مَوْعُودٌ بِهِ لِأَهْلِ الشَّرِّ؛ فَمَعْنَى " مَا " مَفْصُولٌ فِي الْوُجُودِ وَالْعِلْمِ. وَمِنْهُ " أَنَّمَا " بِالْفَتْحِ، كُلُّهُ مَوْصُولٌ إِلَّا حَرْفَانِ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (الْحَجِّ: 62)، {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (لُقْمَانَ: 30)، وَقَعَ الْفَصْلُ عَنْ حَرْفِ التَّوْكِيدِ؛ إِذْ لَيْسَ لِدَعْوَى غَيْرِ اللَّهِ وَصْلٌ فِي الْوُجُودِ؛ إِنَّمَا وَصْلُهَا فِي الْعَدَمِ وَالنَّفْيِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْمُؤْمِنِ: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} (غَافِرٍ: 43) فَوَصَلَ أَنَّمَا فِي النَّفْيِ، وَفَصَلَ فِي الْإِثْبَاتِ، لِانْفِصَالِهِ عَنْ دَعْوَةِ الْحَقِّ. وَمِنْهُ كُلَّمَا مَوْصُولٌ كُلُّهُ إِلَّا ثَلَاثَةً: فِي النِّسَاءِ: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} (الْآيَةَ: 91) فَمَا رُدُّوا إِلَيْهِ لَيْسَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْوُجُودِ، بَلْ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْوُجُودِ، وَصِفَةُ مَرَدِّهِمْ لَيْسَتْ وَاحِدَةً بَلْ مُتَنَوِّعَةً، فَانْفَصَلَ " مَا " لِأَنَّهُ لِعُمُومِ شَيْءٍ مُفَصَّلٍ فِي الْوُجُودِ. وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} (الْآيَةَ: 34) فَحَرْفُ " مَا " وَاقِعٌ عَلَى أَنْوَاعٍ مُفَصَّلَةٍ فِي الْوُجُودِ. وَفَى قَدْ أَفْلَحَ: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} (الْمُؤْمِنُونَ: 44)، وَالْأُمَمُ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْوُجُودِ، فَحَرْفُ " مَا " وَقَعَ عَلَى تَفَاصِيلَ مَوْجُودَةٍ لِتُفَصَّلَ. وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} (الْمَائِدَةِ: 70) فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 91) وَالْمُخَاطَبُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلُوا الْأَنْبِيَاءَ، إِنَّمَا بَاشَرَهُ آبَاؤُهُمْ، لَكِنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَاحِدٌ، فَحَرْفُ " مَا " إِنَّمَا يَشْمَلُ تَفَاصِيلَ الزَّمَانِ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ لَا مُفَصَّلَ لَهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِالْفَرْضِ وَالتَّوَهُّمِ لَا بِالْحِسِّ، فَوُصِلَتْ " كُلُّ " لِاتِّصَالِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْوُجُودِ، وَتَلَازُمِ أَفْرَادِهَا الْمُتَوَهَّمَةِ. وَكَذَلِكَ {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا} (الْبَقَرَةِ: 25)، هَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّ حَرْفَ " مَا " جَاءَ لِتَعْمِيمِ الْأَزْمِنَةِ، فَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا فِي الْوُجُودِ، وَمَا رُزِقُوا هُوَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} (الْبَقَرَةِ: 25). وَمِنْهُ " أَيْنَمَا " مَوْصُولٌ إِذَا كَانَتْ " مَا " غَيْرَ مُخْتَلِفَةِ الْأَقْسَامِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهَا؛ مِثْلُ: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} (النَّحْلِ: 76)، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} (الْبَقَرَةِ: 115)، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا} (الْأَحْزَابِ: 61)، {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (النِّسَاءِ: 78)؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنِ " الْأَيْنِ " الْمِلْكِيِّ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ حِسًّا وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ الْفِعْلُ الَّذِي مَعَ " مَا ". وَتُفْصَلُ " أَيْنَ " حَيْثُ تَكُونُ " مَا " مُخْتَلِفَةَ الْأَقْسَامِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي بَعْدَهَا، مِثْلُ: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 92)، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (الْحَدِيدِ: 4)، {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} (آلِ عِمْرَانَ: 112). وَمِنْهُ " بِئْسَمَا " مَفْصُولٌ، إِلَّا ثَلَاثَةَ أَحْرُفٍ: اثْنَانِ فِي الْبَقَرَةِ: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 90)، {بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 93) وَفِي الْأَعْرَافِ: {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} (الْأَعْرَافِ: 150). فَحَرْفُ " مَا " لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلٌ، لِأَنَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فِي الْوُجُودِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَاطِلًا مَذْمُومًا، عَلَى خِلَافِ حَالِ " مَا " فِي الْمَائِدَةِ: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الْمَائِدَةِ: 62)، فَحَرْفُ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلُ. وَكَذَلِكَ: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (الْمَائِدَةِ: 80) حَرْفُ " مَا " مَفْصُولٌ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَقْسَامِ. وَمِنْهُ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 13)، {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} (غَافِرٍ: 16)، حَرْفَانِ فُصِلَ الضَّمِيرُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَأُضِيفَ " الْيَوْمُ " إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْهُ. وَ{يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} (الطُّورِ: 45) وَ{يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} (الزُّخْرُفِ: 83) وُصِلَ الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ؛ فَهُوَ جُزْءُ الْكَلِمَةِ الْمُرَكَّبَةِ مِنَ " الْيَوْمِ " الْمُضَافِ وَالضَّمِيرِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَمِنْهُ " فِي مَا " مَفْصُولٌ أَحَدَ عَشَرَ حَرْفًا: فِي الْبَقَرَةِ {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} (الْآيَةَ: 240)، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْوَاعٍ يَنْفَصِلُ بِهَا الْمَعْرُوفُ فِي الْوُجُودِ [وَ] عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الْجَمْعِ؛ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَنْكِيرُهُ " الْمَعْرُوفَ " وَدُخُولُ حِرَفِ التَّبْعِيضِ عَلَيْهِ، فَهُوَ حِسِّيٌّ يُقَسَّمُ، وَحَرْفُ " مَا " وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ أَوِ الْجَمْعِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (الْبَقَرَةِ: 234)، فَهَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّ " مَا " وَاقِعَةٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مُفَصَّلٍ، يَدُلُّكَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِالْمَعْرُوفِ. وَكَذَلِكَ: {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 102)، وَهُوَ مَفْصُولٌ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ مُخْتَلِفَةٌ أَوْ مُفَصَّلَةٌ فِي الْوُجُودِ كَذَلِكَ، فَتَدَبَّرْهُ فِي سَائِرِهَا. وَمِنْهُ: (لِكَيْلَا) مَوْصُولٌ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ؛ وَبَاقِيهَا مُنْفَصِلٌ؛ وَإِنَّمَا يُوصَلُ حَيْثُ يَكُونُ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى مَعْنًى كُلِّيٍّ فَيُوصَلُ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْكُلِّيِّ نَفْيٌ لِجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ، فَعِلَّةُ نَفْيِهِ هِيَ عِلَّةُ نَفْيِ أَجْزَائِهِ، وَلَيْسَ لِلْكُلِّيِّ الْمَنْفِيِّ أَفْرَادٌ فِي الْوُجُودِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيهِ بِالتَّوَهُّمِ، وَيُفْصَلُ حَيْثُ يَكُونُ حَرْفُ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى جُزْئِيٍّ فَإِنَّ نَفْيَ الْجُزْئِيِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْكُلِّيِّ فَلَا تَكُونَ عِلَّتُهُ عِلَّةَ نَفْيِ الْجَمْعِ. {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} فِي الْحَجِّ (الْآيَةَ: 5)، وَفَى الْأَحْزَابِ: {لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} (الْآيَةَ: 50)، وَفَى الْحَدِيدِ: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} (الْآيَةَ: 23). فَهَذِهِ هِيَ الْمَوْصُولَةُ وَهِيَ بِخِلَافِ: {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (الْآيَةَ: 70) فِي النَّحْلِ؛ لِأَنَّ الظَّرْفَ فِي هَذَا خَاصُّ الِاعْتِبَارِ؛ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ عَامُّ الِاعْتِبَارِ؛ لِدُخُولِ " مِنْ " عَلَيْهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (الطُّورِ: 26) اخْتَصَّ الْمَظْرُوفُ بِـ " قَبْلُ " فِي الدُّنْيَا، فَفِيهَا كَانُوا مُشْفِقِينَ خَاصَّةً، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (الطُّورِ: 28)، فَهَذَا الظَّرْفُ عَامٌّ لِدُعَائِهِمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمْ يَخْتَصَّ الْمَظْرُوفُ بِـ " قَبْلُ " بِالدُّنْيَا. وَكَذَلِكَ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} (الْأَحْزَابِ: 37)، فَهَذَا الْمَنْفِيُّ هُوَ حَرَجٌ مُقَيَّدٌ بِظَرْفَيْنِ. وَكَذَلِكَ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (الْحَشْرِ: 7) فَهَذَا النَّفْيُ هُوَ كَوْنُ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (الْحَشْرِ: 7) دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ قُيُودٌ كَثِيرَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ " هُمْ " وَنَحْوُهُ مِنَ الضَّمَائِرِ تَدُلُّ عَلَى جُمْلَةِ الْمُسَمَّى مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَالْإِضْمَارُ حَالٌ لَا صِفَةُ وُجُودٍ، فَلَا يَلْزَمُهَا التَّقْسِيمُ الْوُجُودِيُّ إِلَّا الْوَهْمِيَّ الشِّعْرِيَّ وَالْخَطَأَ بِمَا يُرْسَمُ عَلَى الْعِلْمِ الْحَقِّ. وَمِنْ ذَلِكَ " مَالِ " أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ مَفْصُولَةٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ وَصْلَةٌ إِضَافِيَّةٌ، فَقُطِعَتْ حَيْثُ تُقْطَعُ الْإِضَافَةُ فِي الْوُجُودِ. فَأَوَّلُهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ} (النِّسَاءِ: 78)، هَذِهِ الْإِشَارَةُ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ نَافَقُوا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (النِّسَاءِ: 77)، فَقَطَعُوا وَصْلَ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ فِي الْإِضَافَةِ إِلَى اللَّهِ فَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ، وَاللَّهُ قَدْ وَصَلَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (النِّسَاءِ: 78) فَقَطَعُوا فِي الْوُجُودِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، فَقَطْعُ لَامِ وَصْلِهِمْ فِي الْخَطِّ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَقْطَعُ وَصْلَهُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ وَذَلِكَ فِي [يَوْمِ الْفَصْلِ]: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (الْحَدِيدِ: 13). وَالثَّانِي فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} (الْآيَةَ: 49)، وَهَؤُلَاءِ قَطَعُوا بِزَعْمِهِمْ وَصْلَ جَعْلِ الْمَوْعِدِ لَهُمْ بِوَصْلِ إِحْصَاءِ الْكِتَابِ، وَعَدَمِ مُغَادَرَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فِي إِضَافَتِهَا إِلَى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ يُنْكِرُونَ عَلَى الْكِتَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ خَبَرِهِمْ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنَ الْكَهْفِ. وَالثَّالِثُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} (الْآيَةَ: 7) فَقَطَعُوا وَصْلَ الرِّسَالَةِ لِأَكْلِ الطَّعَامِ فَأَنْكَرُوا، فَقَطَعُوا قَوْلَهُمْ هَذَا لِيَزُولَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ رَسُولٌ، فَقَطْعُ اللَّامِ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ. وَالرَّابِعُ فِي الْمَعَارِجِ: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} (الْآيَةَ: 36) هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ تَفَرَّقُوا جَمَاعَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} (الْمَعَارِجِ: 37) قَطَعُوا وَصْلَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَ اللَّهُ طَمَعَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَلِذَلِكَ قُطِعَتِ اللَّامُ عَلَامَةً عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ: {ابْنَ أُمَّ} فِي الْأَعْرَافِ (الْآيَةَ: 150) فِي الْأَعْرَافِ مَفْصُولٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَفَى طه: {ابْنَؤُمَّ} (الْآيَةَ: 94) مَوْصُولٌ لِسِرٍّ لَطِيفٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ مُوسَى بِرَأْسِ أَخِيهِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَنَادَاهُ مِنْ قُرْبٍ عَلَى الْأَصْلِ الظَّاهِرِ فِي الْوُجُودِ، وَلَمَّا تَمَادَى نَادَاهُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ يُنَبِّهُهُ لِبُعْدِهِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، لَا فِي الْمَكَانِ، مُؤَكِّدًا لِوَصْلَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا بِالرَّبْطِ؛ فَلِذَلِكَ وُصِلَ فِي الْخَطِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَصْبُ الْمِيمِ لِيَجْمَعَهُمَا الِاسْمُ بِالتَّعْمِيمِ. وَمِنْ ذَلِكَ سِتَّةُ أَحْرُفٍ لَا تُوصَلُ بِمَا بَعْدَهَا، وَهَى: الْأَلِفُ، وَالْوَاوُ، وَالدَّالُ، وَالذَّالُ، وَالرَّاءُ، وَالزَّايُ؛ لِأَنَّهَا عَلَامَاتٌ لِانْفِصَالَاتٍ وَنِهَايَاتٍ، وَسَائِرُ الْحُرُوفِ تُوصَلُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ.
فَمِنْهُ: {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} (الْأَعْرَافِ: 166)، فَرْدٌ ظَهَرَ فِيهِ النُّونُ وَقُطِعَ عَنِ الْوَصْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى " مَا " عُمُومٌ كُلِّيٌّ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُفَصَّلَةٌ فِي الْوُجُودِ غَيْرُ مُتَسَاوِيَةٍ فِي حُكْمِ النَّهْيِ عَنْهَا، وَمَعْنَى " عَنِ " الْمُجَاوَزَةُ لِلْكُلِّيِّ، وَالْمُجَاوَزَةُ لِلْكُلِّيِّ مُجَاوَزَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، فَفُصِلَ عَلَامَةً لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ: " مِنْ مَا " ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ مَفْصُولَةٍ لَا غَيْرُ. فِي النِّسَاءِ: {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (الْآيَةَ: 25)، وَفَى الرُّومِ: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (الرُّومِ: 28)، وَفِي الْمُنَافِقِينَ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (الْآيَةَ: 10). وَحَرْفُ مَا فِي هَذِهِ كُلِّهَا مُقَسَّمٌ فِي الْوُجُودِ بِأَقْسَامٍ مُنْفَصِلَةٍ غَيْرِ مُتَسَاوِيَةٍ فِي الْأَحْكَامِ، وَهَى بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} (الْبَقَرَةِ: 79) فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَ تَحْتَهَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ فَهِيَ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ فِي وَصْفِهَا بِكَتْبِ أَيْدِيهِمْ، فَهُوَ نَوْعٌ وَاحِدٌ يُقَالُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ هُوَ فِي إِفْرَادِهِ بِالسَّوِيَّةِ. وَكَذَلِكَ " أَمْ مَنْ " بِالْفَصْلِ، أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ لَا غَيْرُ؛ فِي النِّسَاءِ: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} (الْآيَةَ: 109)، وَفَى التَّوْبَةِ: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} (الْآيَةَ: 109)، وَفِي الصَّافَّاتِ: {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} (الصَّافَّاتِ: 11) وَفَى السَّجْدَةِ أَمْ مَنْ يَأْتِي (فُصِّلَتْ: 40). فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ الْأَحْرُفِ " مَنْ " فِيهَا تُقَسَّمُ فِي الْوُجُودِ بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِثْلِ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي} (الْمُلْكِ: 22) فَهَذَا مَوْصُولٌ لِأَنَّهُ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ حَيْثُ يَمْشِي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَا: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا} (النَّمْلِ: 61) لَا تَفَاصِيلَ تَحْتَهَا فِي الْوُجُودِ. وَكَذَلِكَ: (عَنْ مَنْ) مَفْصُولٌ: حَرْفَانِ فِي النُّورِ: {عَنْ مَنْ يَشَاءُ} (الْآيَةَ: 43)، وَفِي النَّجْمِ: {عَنْ مَنْ تَوَلَّى} (الْآيَةَ: 29): حَرْفُ " مَنْ " فِيهِمَا كُلِّيٌّ، وَحَرْفُ " عَنْ " لِلْمُجَاوَزَةِ، وَالْمُجَاوَزَةُ عَنِ الْكُلِّيِّ مُجَاوَزَةٌ لِجَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهِ دُونَ الْعَكْسِ؛ فَلَا وَصْلَةَ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ فِي الْوُجُودِ فَلَا يُوصَلَانِ فِي الْخَطِّ. وَكَذَلِكَ " مِمَّنْ " مَوْصُولٌ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ " مَنْ " بِفَتْحِ الْمِيمِ جُزْئِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى " مَا "، فَمَعْنَاهُ أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ، وَمَعْنَى " مَا " أَزْيَدُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِ، وَالزَّائِدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ مُنْفَصِلٌ وُجُودًا بِالْحِصَصِ، وَالْحِصَّةُ مِنْهُ لَا تَنْفَصِلُ، وَالزَّائِدُ مِنْ جِهَةِ الْمَفْهُومِ لَا يَنْفَصِلُ وُجُودًا. وَكَذَلِكَ: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} فِي سُورَةِ الرَّعْدِ (الْآيَةَ: 40)، فَرْدَةٌ مَفْصُولَةٌ ظَهَرَ فِيهَا حَرْفُ الشَّرْطِ فِي الْخَطِّ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْجَوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَوْطِنِ الدُّنْيَا، وَهُوَ " الْبَلَاغُ " بِخِلَافِ قَوْلِهِ: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} (غَافِرٍ: 77)، فَإِنَّهُ أَخْفَى فِيهِ حَرْفَ الشَّرْطِ فِي الْخَطِّ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ الْمُرَتَّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ خَفِيٌّ عَنَّا، وَهُوَ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِصَّةَ الْأُولَى مُنْفَصِلَةٌ مِنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ، وَانْقَسَمَ الْجَوَابُ إِلَى جُزْأَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: التَّرْتِيبُ بِالْفَاءِ وَهُوَ الْبَلَاغُ، وَالثَّانِي: الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْحِسَابُ؛ وَأَحَدُهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَالْآخَرُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَالْأَوَّلُ ظَاهِرٌ لَنَا، وَالثَّانِي خَفِيٌّ عَنَّا. وَهَذَا الِانْقِسَامُ صَحِيحٌ فِي الْوُجُودِ فَقَدِ انْقَسَمَتْ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ إِلَى شَرْطَيْنِ، لِانْفِصَالِ جَوَابِهَا إِلَى قِسْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، فَفُصِلَ حَرْفُ الشَّرْطِ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَإِذَا انْفَصَلَتْ لَزِمَ كَتْبُهُ عَلَى الْوَقْفِ، وَالشَّرْطِيَّةُ الْأُخْرَى لَا تَنْفَصِلُ، بَلْ هِيَ وَاحِدَةٌ لِاتِّحَادِ جَوَابِهَا، فَانْفِصَالُ حَرْفِ الشَّرْطِ عَلَامَةٌ لِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} فَرْدٌ فِي الْقَصَصِ (الْآيَةَ: 50) ثَابِتُ النُّونِ، وَفَى هُودٍ: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} فَرْدٌ بِغَيْرِ نُونٍ أُظْهِرَ حَرْفُ الشَّرْطِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ هُوَ: فَاعْلَمْ (الْقَصَصِ: 50) مُتَعَلِّقٌ بِشَيْءٍ مَلَكُوتِيٍّ ظَاهِرٍ سُفْلِيٍّ، وَهُوَ اتِّبَاعُهُمْ أَهْوَاءَهُمْ وَأُخْفِيَ فِي الثَّانِي؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ الْمُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ بِالْفَاءِ هُوَ عِلْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِشَيْءٍ مَلَكُوتِيٍّ خَفِيٍّ عُلْوِيٍّ وَهُوَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ بِالْعِلْمِ وَالتَّوْحِيدِ. وَمِنْ ذَلِكَ: " أَنْ لَنْ " كُلُّهُ مَفْصُولٌ إِلَّا حَرْفَانِ: {أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} فِي الْكَهْفِ (الْآيَةَ: 48)، {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} فِي الْقِيَامَةِ (الْآيَةَ: 3)، سَقَطَتِ النُّونُ مِنْهُمَا فِي الْخَطِّ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا زَعَمُوا وَحَسِبُوا هُوَ بَاطِلٌ فِي الْوُجُودِ وَحُكْمُ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ نَسَبُوهُ إِلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ، فَأُدْغِمَ حَرْفُ تَوْكِيدِهِمُ الْكَاذِبِ فِي حَرْفِ النَّفْيِ السَّالِبِ هُوَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} (التَّغَابُنِ: 7) فَهَؤُلَاءِ لَمْ يَنْسُبُوا ذَلِكَ لِفَاعِلٍ؛ إِذْ رُكِّبَ الْفِعْلُ لِمَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأُقِيمُوا فِيهِ مَقَامَ الْفَاعِلِ، فَعَدَمُ بَعْثِهِمْ تَصَوَّرُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَحَكَمُوا بِهِ عَلَيْهَا تَوَهُّمًا، فَهُوَ كَاذِبٌ مِنْ حَيْثُ حَكَمُوا بِهِ عَلَى مُسْتَقْبَلِ الْآخِرَةِ، وَلِكَوْنِهِ حَقًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا الظَّاهِرَةِ ثَبَتَ التَّوْكِيدُ ظَاهِرًا، وَأُدْغِمَ فِي حَرْفِ النَّفْيِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ الَّذِي هُوَ فِيهِ كَاذِبٌ. وَمِنْ ذَلِكَ كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ " أَنْ لَا " فَهُوَ مَوْصُولٌ إِلَّا عَشَرَةَ مَوَاضِعَ فَهِيَ مَفْصُولَةٌ تُكْتَبُ النُّونُ فِيهَا بِاتِّفَاقٍ، وَذَلِكَ حَيْثُ ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ صِحَّةُ تَوْكِيدِ الْقَضِيَّةِ وَلُزُومُهَا. أَوَّلُهَا فِي الْأَعْرَافِ: {أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الْآيَةَ: 105) وَ{أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (الْآيَةَ: 169) وَ{أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} فِي التَّوْبَةِ (الْآيَةَ: 118). {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (الْآيَةَ: 14) وَ{أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ} (الْآيَةَ: 26) فِي هُودٍ. وَ{أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} فِي الْحَجِّ (الْآيَةَ: 26) وَ{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} فِي يس (الْآيَةَ: 60) وَ{أَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} فِي الدُّخَانِ (الْآيَةَ: 19). وَ{أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} فِي الْمُمْتَحَنَةِ (الْآيَةَ: 12) وَ{أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا} فِي الْقَلَمِ (الْآيَةَ: 24). وَوَاحِدٌ فِيهِ خِلَافٌ: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} فِي الْأَنْبِيَاءِ (الْآيَةَ: 87). فَتَأَمَّلْ كَيْفَ صَحَّ فِي الْوُجُودِ هَذَا التَّوْكِيدُ الْأَخِيرُ، فَلَمْ يَدْخُلْهَا عَلَيْهِمْ مِسْكِينٌ لَكِنْ عَلَى غَيْرِ مَا قَصَدُوا وَتَخَيَّلُوا فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَامُ التَّعْرِيفِ الْمُدْغَمَةُ فِي اللَّفْظِ فِي مِثْلِهَا أَوْ غَيْرِهَا، لَمَّا كَانَتْ لِلتَّعْرِيفِ- وَشَأْنُ الْمُعَرَّفِ أَنْ يَكُونَ أَبْيَنَ وَأَظْهَرَ، لَا أَخْفَى وَأَسْتَرَ- أُظْهِرَتْ فِي الْخَطِّ، وَوُصِلَتْ بِالْكَلِمَةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ جُزْءًا مِنْهَا حَيْثُ هِيَ مُعَرَّفَةٌ بِهَا، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ حُذِفَ حَيْثُ يَخْفَى مَعْنَى الْكَلِمَةِ مِثْلُ " الَّيْلِ " فَإِنَّهُ بِمَعْنَى مُظْلِمٍ لَا يُوَضِّحُ الْأَشْيَاءَ، بَلْ يَسْتُرُهَا وَيُخْفِيهَا، وَكَوْنُهُ وَاحِدًا إِمَّا لِلْجُزْئِيِّ أَوْ لِلْجِنْسِ، فَأُخْفِيَ حَرْفُ تَعْرِيفِهِ فِي مِثْلِهِ، فَإِنْ تَعَيَّنَ لِلْجُزْئِيِّ بِالتَّأْنِيثِ رُجِعَ إِلَى الْأَصْلِ، وَمِثْلُ الَّذِي وَالَّتِي وَتَثْنِيَتِهِمَا وَجَمْعِهِمَا، فَإِنَّهُ مُبْهَمٌ فِي الْمَعْنَى وَالْكَمِّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ حَدِّهِ لِلْجُزْئِيِّ وَلِلْجِنْسِ لِلثَّلَاثِ أَوْ غَيْرِهَا، فَفِيهِ ظُلْمَةُ الْجَهْلِ كَاللَّيْلِ وَمِثْلُ " الَّئِي " فِي الْإِيجَابِ فَإِنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ دَخَلَتْ عَلَى لَا النَّافِيَةِ، وَفِيهَا ظُلْمَةُ الْعَدَمِ كَاللَّيْلِ، فَفِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ يُخْفَى حَرْفُ التَّعْرِيفِ. وَكَذَلِكَ " الْأَيْكَةُ " نُقِلَتْ حَرَكَةُ هَمْزَتِهَا عَلَى لَامِ التَّعْرِيفِ وَسَقَطَتْ هَمْزَةُ الْوَصْلِ لِتَحْرِيكِ اللَّامِ، وَحُذِفَتْ أَلِفُ عَضُدِ الْهَمْزَةِ وَوُصِلَ اللَّامُ، فَاجْتَمَعَتِ الْكَلِمَتَانِ، فَصَارَتْ " لَيْكَةُ " عَلَامَةً عَلَى اخْتِصَارٍ وَتَلْخِيصٍ وَجَمْعٍ فِي الْمَعْنَى؛ وَذَلِكَ فِي حَرْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الشُّعَرَاءِ (الْآيَةَ: 176) جَمَعَ فِيهِ قِصَّتَهُمْ مُخْتَصَرَةً وَمُوجَزَةً فِي غَايَةِ الْبَيَانِ، وَجَعَلَهَا جُمْلَةً؛ فَهِيَ آخِرُ قِصَّةٍ فِي السُّورَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} (الشُّعَرَاءِ: 190) فَأَفْرَدَهَا، وَالثَّانِي فِي ص (الْآيَةَ: 13) جَمَعَ الْأُمَمَ فِيهَا بِأَلْقَابِهِمْ وَجَعَلَهُمْ جِهَةً وَاحِدَةً، هُمْ آخِرُ أُمَّةٍ فِيهَا، وَوَصَفَ الْجُمْلَةَ، قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ}، وَلَيْسَ الْأَحْزَابُ وَصْفًا لِكُلٍّ مِنْهُمْ، بَلْ هُوَ وَصْفُ جَمِيعِهِمْ. وَجَاءَ بِالِانْفِصَالِ عَلَى الْأَصْلِ حَرْفَانِ نَظِيرَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِجْرِ: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} (الْآيَةَ: 78) أَفْرَدَهُمْ بِالذِّكْرِ وَالْوَصْفِ. وَالثَّانِي فِي ق: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} (الْآيَةَ: 14)، جُمِعُوا فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، لَا عَلَى الْجُمْلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} (الْآيَةَ: 14)، فَحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ التَّفْضِيلُ فَصَلَ لَامَ التَّعْرِيفِ، وَحَيْثُ يُعْتَبَرُ فِيهِمُ التَّوْصِيلُ وَصَلَ لِلتَّخْفِيفِ. وَكَذَلِكَ: {لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (الْكَهْفِ: 77)، حُذِفَتِ الْأَلِفُ وَوُصِلَتِ اللَّامُ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ فِي الْجِدَارِ قَدْ حَصَلَ فِي الْوُجُودِ، فَلَزِمَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، وَاتَّصَلَ بِهِ حُكْمًا، بِخِلَافِ: {لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 73) لَيْسَ فِيهِ وَصْلَةُ اللُّزُومِ.
مِثْلُ: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (الْبَقَرَةِ: 247)، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً} (الْأَعْرَافِ: 69)، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} (الرَّعْدِ: 26)، {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ} (الْبَقَرَةِ: 245)، فَبِالسِّينِ السَّعَةُ الْجُزْئِيَّةُ كَذَلِكَ عِلَّةُ التَّقْيِيدِ، وَبِالصَّادِ السَّعَةُ الْكُلِّيَّةُ؛ بِدَلِيلِ عُلُوِّ مَعْنَى الْإِطْلَاقِ،، وَعُلُوِّ الصَّادِ مَعَ الْجَهَارَةِ وَالْإِطْبَاقِ. وَكَذَلِكَ: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 23)، {فِي أَيِّ صُورَةٍ} (الِانْفِطَارِ: 8). {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} (الْحَدِيدِ: 13)، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} (يس: 51) فَبِالسِّينِ مَا يَحْصُرُ الشَّيْءَ خَارِجًا عَنْهُ، وَبِالصَّادِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} (هُودٍ: 5)، {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} (الْوَاقِعَةِ: 46)، فَبِالسِّينِ مِنَ السِّرِّ، وَبِالصَّادِ مِنَ التَّمَادِي. وَكَذَلِكَ: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ} (الْقَمَرِ: 48)، وَ{مِنَّا يُصْحَبُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 43)، فَبِالسِّينِ مِنَ الْجَرِّ، وَبِالصَّادِ مِنَ الصُّحْبَةِ. وَكَذَلِكَ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} (الزُّخْرُفِ: 32)، {وَكَمْ قَصَمْنَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 11) بِالسِّينِ تَفْرِيقُ الْأَرْزَاقِ وَالْإِنْعَامِ، وَبِالصَّادِ تَفْرِيقُ الْإِهْلَاكِ وَالْإِعْدَامِ. وَكَذَلِكَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 22 وَ 23) بِالضَّادِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ، وَبِالظَّاءِ مُنَعَّمَةٌ بِمَا تَلَذُّ الْأَعْيُنُ. وَهَذَا الْبَابُ كَثِيرٌ، يَكْفِي فِيهِ الْيَسِيرُ
كَتَبُوا " الم " (الْبَقَرَةِ، آلِ عِمْرَانَ، الْعَنْكَبُوتِ، الرُّومِ، لُقْمَانَ، السَّجْدَةِ) وَ " المر " (الرَّعْدِ) وَ " الر " (يُونُسَ، هُودٍ، يُوسُفَ، إِبْرَاهِيمَ، الْحِجْرِ) مَوْصُولًا. إِنْ قِيلَ: لِمَ وَصَلُوهُ وَالْهِجَاءُ مُقَطَّعٌ لَا يَنْبَغِي وَصْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَكَ: مَا هِجَاءُ زَيْدٍ؟ قُلْتَ: زَايٌ، يَاءٌ، دَالٌ، وَتَكْتُبُهُ مُقَطَّعًا، لِتُفَرِّقَ بَيْنَ هِجَاءِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَكَيْفِيَّةِ كِتَابَتِهَا وَقِرَاءَتِهِ؟. قِيلَ: إِنَّمَا وَصَلُوهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ هِجَاءً لِاسْمٍ مَعْرُوفٍ؛ وَإِنَّمَا هِيَ حُرُوفٌ اجْتَمَعَتْ، يُرَادُ بِكُلِّ حَرْفِ مَعْنًى. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَطَعُوا " حم عسق " (الشُّورَى) وَلَمْ يَقْطَعُوا " المص " (الْأَعْرَافِ) وَ " كهيعص " (مَرْيَمَ)؟ قِيلَ: " حم " قَدْ جَرَتْ فِي أَوَائِلِ سَبْعِ سُوَرٍ، (غَافِرٍ، فُصِّلَتْ، الشُّورَى، الزُّخْرُفِ، الدُّخَانِ، الْجَاثِيَةِ، الْأَحْقَافِ) فَصَارَتِ اسْمًا لِلسُّورِ، فَقُطِعَتْ مِمَّا قَبْلَهَا. وَجَوَّزُوا فِي: {ق وَالْقُرْآنِ} (ق: 1) وَ{ص وَالْقُرْآنِ} (ص: 1) وَجْهَيْنِ: مَنْ جَزَمَهُمَا فَهُمَا حَرْفَانِ، وَمَنْ كَسَرَ آخِرَهُمَا فَعَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِمَا.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَقَدْ صَحَّ فِيهِ أَحَادِيثُ بِاعْتِبَارِ الْجُمْلَةِ، وَفَى بَعْضِ السُّوَرِ بِالتَّعْيِينِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي فَضِيلَةِ سُوَرِهِ سُورَةٍ سُورَةٍ، فَحَدِيثٌ مَوْضُوعٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَقَدْ أَخْطَأَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ، وَمَنْ ذَكَرَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي إِيدَاعِهِ تَفَاسِيرَهُمْ. قُلْتُ: وَكَذَلِكَ الثَّعْلَبِيُّ، لَكِنَّهُمْ ذَكَرُوهُ بِإِسْنَادٍ، فَاللَّوْمُ عَلَيْهِمْ يَقِلُّ بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَهُ بِلَا إِسْنَادٍ وَجَزَمَ بِهِ كَالزَّمَخْشَرِيِّ؛ فَإِنَّ خَطَأَهُ أَشَدُّ. وَعَنْ نُوحِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ: عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ سُورَةٍ سُورَةٍ؟ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ، وَاشْتَغَلُوا بِفِقْهِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَغَازِي مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، فَوَضَعْتُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ حِسْبَةً. ثُمَّ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْمُفَسِّرِينَ مِمَّنْ ذَكَرَ الْفَضَائِلَ أَنْ يَذْكُرَهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى حِفْظِهَا إِلَّا الزَّمَخْشَرِيَّ فَإِنَّهُ يَذْكُرُهَا فِي أَوَاخِرِهَا. قَالَ مَجْدُ الْأَئِمَّةِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ عُمَرَ الْكِرْمَانِيُّ: سَأَلْتُ الزَّمَخْشَرِيَّ عَنِ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَاتٌ لَهَا، وَالصِّفَةُ تَسْتَدْعِي تَقْدِيمَ الْمَوْصُوفِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ فِي حَدِيثٍ إِلَهِيٍّ: مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ. قَالَ أَبُو النَّضْرِ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ. وَقَدَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ فِي الْقَبْرِ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.
وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ التَّمِيمِيُّ، وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهَذِهِ الْحُرُوفُ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الْحِجْرِ: 9). وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْتُبُهَا عَلَى مَا يُرِيدُ حِفْظَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْمَتَاعِ فَيُحْفَظُ. وَأَخْبَرَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ قَالَ: كَانَ إِلْكِيَا الْهَرَّاسِيُّ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا رَكِبَ فِي رِحْلَةٍ يَقُولُ هَذِهِ الْحُرُوفَ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ أَوْ كُتِبَ فِي شَيْءٍ إِلَّا حُفِظَ تَالِيهَا وَمَالُهُ، وَأَمِنَ فِي نَفْسِهِ مِنَ التَّلَفِ وَالْغَرَقِ. وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ شَكَا إِلَيْهِ رَجُلٌ رَمَدًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فِي رُقْعَةٍ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 22)، {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فُصِّلَتْ: 44)، فَعَلَّقَ الرَّجُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَبَرَأَ. وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَكْتُبُ لِلْمُطَلَّقَةِ رُقْعَةً تُعَلَّقُ عَلَيْهَا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ} (الِانْشِقَاقِ: 1- 4)، {فَاخْرُجْ مِنْهَا} (الْحِجْرِ: 34)، {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ} (الْقَصَصِ: 79) {فَخَرَجَ مِنْهَا} (الْقَصَصِ: 21). وَرَوَى ابْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ يُحِبُّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ وَتَثْقُلُ عَلَيْهِ، فَشَكَا ذَلِكَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} (الْكَهْفِ: 109) إِلَى قَوْلِهِ: {مَدَدًا} (الْكَهْفِ: 109)، ثُمَّ أَضْمِرْ، فِي أَيِّ وَقْتٍ أَضْمَرْتَ فَإِنَّكَ تَقُومُ فِيهِ، قَالَ: فَفَعَلْتُ فَقُمْتُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَكَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي أَصْبَهَانَ أَصَابَهُ عُسْرُ الْبَوْلِ، فَكَتَبَ فِي صَحِيفَةٍ: الْبَسْمَلَةَ {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (الْوَاقِعَةِ: 5 وَ 6)، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (الْحَاقَّةِ: 14)، {دَكًّا دَكًّا} (الْفَجْرِ: 21)، وَأَلْقَى عَلَيْهِ الْمَاءَ وَشَرِبَهُ فَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْبَوْلَ، وَأَلْقَى الْحَصَى. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 67) يُكْتَبُ عَلَى كَاغِدٍ، وَيُوضَعُ عَلَى شِقِّ الضِّرْسِ الْوَجِعِ، يَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَيُحْكَى أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَالِي أَرَاكَ مَحْزُونًا؟ فَقَالَ: وَلَدِي قَدْ مَرِضَ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ؛ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ أَنْتَ عَنْ آيَاتِ الشِّفَاءِ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (التَّوْبَةِ: 14)، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يُونُسَ: 57)، {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النَّحْلِ: 69)، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الْإِسْرَاءِ: 82)، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 80)، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فُصِّلَتْ: 44)! فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ. وَحَكَى ابْنُ الْجَوْزِيِّ عَنِ ابْنِ نَاصِرٍ عَنْ شُيُوخِهِ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ شَاقُولَةَ الْبَغْدَادِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: آذَانَا جَارٌ لَنَا، فَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ، وَقَرَأْتُ مِنْ فَاتِحَةِ كُلِّ سُورَةٍ آيَةً حَتَّى خَتَمْتُ الْقُرْآنَ، وَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اكْفِنَا أَمْرَهُ، ثُمَّ نِمْتُ وَفَتَحْتُ عَيْنِي؛ وَإِذَا بِهِ قَدْ نَزَلَ وَقْتَ السَّحَرِ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ، فَسَقَطَ وَمَاتَ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِهَا أَنَّهُ كَانَ فِي دَارِهَا حَائِطٌ لَهُ خَرِبٌ، فَقَالَتْ: هَاتِ رُقْعَةً وَدَوَاةً، فَنَاوَلْتُهَا، فَكَتَبَتْ فِي الرُّقْعَةِ شَيْئًا، وَقَالَتْ: دَعْهُ فِي ثَقْبٍ مِنْهُ، فَفَعَلْتُ فَبَقِيَ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً، فَلَمَّا مَاتَتْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْقِرْطَاسَ، فَقُمْتُ فَأَخَذْتُهُ فَوَقَعَ الْحَائِطُ، فَإِذَا فِي الرُّقْعَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (فَاطِرٍ: 41) يَا مُمْسِكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَمْسِكْهُ.
تنبيه: هَذَا النَّوْعُ وَالَّذِي قَبْلَهُ لَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ إِلَّا مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ قَلْبَهُ وَنِيَّتَهُ، وَتَدَبَّرَ الْكِتَابَ فِي عَقْلِهِ وَسَمْعِهِ، وَعَمَّرَ بِهِ قَلْبَهُ، وَأَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحَهُ، وَجَعَلَهُ سَمِيرَهُ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ وَتَدَبَّرَهُ. هُنَالِكَ تَأْتِيهِ الْحَقَائِقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ فِعْلُهُ مُكَذِّبًا لِقَوْلِهِ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ عَارِفًا وَقَعَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ، فَقَالَ لَهُ صَدِيقٌ لَهُ: نَسْتَعِينُ بِفُلَانٍ، فَقَالَ: أَخْشَى أَنْ تَبْطُلَ صَلَاتِي الَّتِي تَقَدَّمَتْ هَذَا الْأَمْرَ، وَقَدْ صَلَّيْتُهَا. قَالَ صَدِيقُهُ: وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنِّي قُلْتُ فِي الصَّلَاةِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الْفَاتِحَةِ: 5) فَإِنِ اسْتَعَنْتُ بِغَيْرِهِ كَذَبْتُ، وَالْكَذِبُ فِي الصَّلَاةِ يُبْطِلُهَا، وَكَذَلِكَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ تَحَقُّقِ الْعَدَاوَةِ، فَإِذَا قَبِلَ إِشَارَةَ الشَّيْطَانِ وَاسْتَنْصَحَهُ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فَبَطُلَ ذِكْرُهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِبَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاؤُهُ تَعَالَى لَا تَفَاضُلَ بَيْنَهُمَا. وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ؛ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: تَفْضِيلُ بَعْضِ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ خَطَأٌ، وَكَذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ تُعَادَ سُورَةٌ أَوْ تُرَدَّدُ دُونَ غَيْرِهَا، احْتَجُّوا بِأَنَّ الْأَفْضَلَ يُشْعِرُ بِنَقْصِ الْمَفْضُولِ، وَكَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نَقْصَ فِيهِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعْطِي لِقَارِئِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلَ مَا يُعْطِي لِقَارِئِ أُمِّ الْقُرْآنِ إِذِ اللَّهُ بِفَضْلِهِ فَضَّلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى غَيْرَهَا مِنَ الْفَضْلِ عَلَى قِرَاءَةِ كَلَامِهِ- قَالَ- وَقَوْلُهُ أَعْظَمُ سُورَةٍ أَرَادَ بِهِ فِي الْأَجْرِ لَا أَنَّ بَعْضَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَقَالَ قَوْمٌ بِالتَّفْضِيلِ لِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَضْلُ رَاجِعٌ إِلَى عِظَمِ الْأَجْرِ وَمُضَاعَفَةِ الثَّوَابِ، بِحَسْبِ انْفِعَالَاتِ النَّفْسِ وَخَشْيَتِهَا وَتَدَبُّرِهَا وَتَفَكُّرِهَا عِنْدَ وُرُودِ أَوْصَافِ الْعُلَا، وَقِيلَ بَلْ يَرْجِعُ لِذَاتِ اللَّفْظِ، وَأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (الْبَقَرَةِ: 163)، وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَآخِرُ سُورَةِ الْحَشْرِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ مِنَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ، لَيْسَ مَوْجُودًا مَثَلًا فِي: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (اللَّهَبِ: 1) وَمَا كَانَ مِثْلَهَا؛ فَالتَّفْضِيلُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَعَانِي الْعَجِيبَةِ وَكَثْرَتِهَا؛ لَا مِنْ حَيْثُ الصِّفَةُ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. وَمِمَّنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ، فَقَالَ: كَلَامُ اللَّهِ فِي اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فِي غَيْرِهِ، فَـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) أَفْضَلُ مِنْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (اللَّهَبِ: 1)، وَعَلَى ذَلِكَ بَنَى الْغَزَالِيُّ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى بِجَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِنِّي لَأُعَلِّمُكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الْفَاتِحَةِ: 2). وَلِحَدِيثِ أُبَّيِ بْنِ كَعْبٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: يَا أُبَيُّ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (الْبَقَرَةِ: 255) قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: سَيِّدَةُ آيِ الْقُرْآنِ آيَةُ الْكُرْسِيِّ. وَفِي التِّرْمِذِيِّ غَرِيبًا عَنْهُ مَرْفُوعًا: لِكُلِّ شَيْءٍ سَنَامٌ، وَإِنَّ سَنَامَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ. وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: فِيهَا آيَةُ الْكُرْسِيِّ، وَهَى سَنَامُ آيِ الْقُرْآنِ، وَلَا تُقْرَأُ فِي دَارٍ فِيهَا شَيْطَانٌ إِلَّا خَرَجَ مِنْهَا. وَهَذَا لَا يُعَارِضُ مَا قَبْلَهُ بِأَفْضَلِيَّةِ الْفَاتِحَةِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ بِاعْتِبَارِ السُّوَرِ، وَهَذِهِ بِاعْتِبَارِ الْآيَاتِ. وَقَالَ الْقَاضِي شَمْسُ الدِّينِ الْخُوَيِّيُّ: كَلَامُ اللَّهِ كُلُّهُ أَبْلَغُ مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَعْضُ كَلَامِ اللَّهِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ: بَعْضُ كَلَامِهِ أَبْلَغُ مِنْ بَعْضٍ؟ جَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا الْكَلَامُ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ، أَنَّ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ، وَذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ لَهُ حُسْنٌ وَلُطْفٌ، وَهَذَا الْحَسَنُ فِي مَوْضِعِهِ أَكْمَلُ مِنْ ذَاكَ فِي مَوْضِعِهِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) أَبْلَغُ مِنْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (اللَّهَبِ: 1) يَجْعَلُ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ ذِكْرِ اللَّهِ وَذِكْرِ أَبِي لَهَبٍ، وَبَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالدُّعَاءِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دُعَاءٌ عَلَيْهِ بِالْخُسْرَانِ، فَهَلْ تُوجَدُ عِبَارَةٌ لِلدُّعَاءِ بِالْخُسْرَانِ أَحْسَنُ مِنْ هَذِهِ؟! وَكَذَلِكَ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لَا تُوجَدُ عِبَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ أَبْلَغُ مِنْهَا، فَالْعَالِمُ إِذَا نَظَرَ إِلَى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَالْخُسْرَانِ وَنَظَرَ إِلَى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي بَابِ التَّوْحِيدِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ: أَحَدُهُمَا أَبْلَغُ مِنَ الْآخَرِ وَهَذَا الْقَيْدُ يَغْفُلُ عَنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْبَيَانِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَلْفِتُ عَنِ الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ: إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَوْ لَا؛ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَا يَتَنَوَّعُ فِي ذَاتِهِ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) فَجَعَلَهُ شَيْئَيْنِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ بِعَدَمِهِ، وَأَنَّهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ. قُلْنَا: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ، ثُمَّ قَوْلُنَا: " شَيْءٍ مِنْهُ " يُوهِمُ التَّبْعِيضَ، وَلَيْسَ لِكَلَامِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ بَعْضٌ، وَلَكِنْ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَفَهْمِ السَّامِعِينَ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُخَاطَبَاتِ، وَلَوْلَا تَنَزُّلُهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لَمَا وَصَلْنَا إِلَى فَهْمِ شَيْءٍ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَخْبَارًا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (الْبَقَرَةِ: 106) وَمَعْنَى ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ آيَتَا عَمَلٍ ثَابِتَتَانِ فِي التِّلَاوَةِ، إِلَّا أَنَّ إِحْدَاهُمَا مَنْسُوخَةٌ وَالْأُخْرَى نَاسِخَةٌ، فَنَقُولُ: إِنَّ النَّاسِخَ خَيْرٌ، أَيْ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا أَوْلَى بِالنَّاسِ وَأَعْوَدُ عَلَيْهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَيُقَالُ: آيَاتُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ آيَاتِ الْقَصَصِ؛ لِأَنَّ الْقَصَصَ إِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا تَأْكِيدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّبْشِيرِ وَلَا غِنَى بِالنَّاسِ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَقَدْ يَسْتَغْنُونَ عَنِ الْقَصَصِ، فَكُلُّ مَا هُوَ أَعْوَدُ عَلَيْهِمْ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الْأُصُولِ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَحْصُلُ تَبَعًا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ. وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْآيَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى تَعْدِيدِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانِ صِفَاتِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عَظْمَتِهِ وَقُدْسِيَّتِهِ أَفْضَلُ أَوْ خَيْرٌ، بِمَعْنَى أَنَّ مُخْبَرَاتِهَا أَسْنَى وَأَجَلُّ قَدْرًا. وَالثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ: سُورَةٌ خَيْرٌ مِنْ سُورَةٍ أَوْ آيَةٌ خَيْرٌ مِنْ آيَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّ الْقَارِئَ يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا فَائِدَةً سِوَى الثَّوَابِ الْآجِلِ، وَيَتَأَدَّى مِنْهُ بِتِلَاوَتِهَا عِبَادَةٌ، كَقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ؛ فَإِنَّ قَارِئَهَا يَتَعَجَّلُ بِقِرَاءَتِهَا الِاحْتِرَازَ مِمَّا يَخْشَى، وَالِاعْتِصَامَ بِاللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَيَتَأَدَّى بِتِلَاوَتِهَا مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادَةً، لِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَدُّهُ بِالصِّفَاتِ الْعُلَا عَلَى سَبِيلِ الِاعْتِقَادِ لَهَا، وَسُكُونِ النَّفْسِ إِلَى فَضْلِ الذِّكْرِ وَبَرَكَتِهِ؛ فَأَمَّا آيَاتُ الْحِكَمِ فَلَا يَقَعُ بِنَفْسِ تِلَاوَتِهَا إِقَامَةُ حُكْمٍ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِهَا عِلْمٌ وَإِذْكَارٌ فَقَطْ، فَكَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلَهَا أَحَقَّ بِاسْمِ الْخَيْرِ وَالْأَفْضَلِ. قَالَ: ثُمَّ لَوْ قِيلَ فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ خَيْرٌ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ، بِمَعْنَى أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالتِّلَاوَةِ وَالْعَمَلِ وَاقِعٌ بِهِ دُونَهَا، وَالثَّوَابَ يُحْسَبُ بِقِرَاءَتِهِ لَا بِقِرَاءَتِهَا، أَوْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْإِعْجَازُ حُجَّةُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثِ، وَتِلْكَ الْكُتُبُ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً، وَلَا كَانَتْ حُجَجَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ كَانَتْ دَعْوَتُهُمْ وَالْحُجَجُ غَيْرَهَا؛ وَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَظِيرَ مَا مَضَى. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ سُورَةً أَفْضَلُ مِنْ سُورَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اعْتَدَّ قِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ أَضْعَافِهَا مِمَّا سِوَاهَا، وَأَوْجَبَ بِهَا مِنَ الثَّوَابِ مَا لَمْ يُوجِبْ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ بَلَغَ بِهَا هَذَا الْمِقْدَارَ لَا يَظْهَرُ لَنَا، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ يَوْمًا أَفْضَلُ مِنْ يَوْمٍ، وَشَهْرًا أَفْضَلُ مِنْ شَهْرٍ؛ بِمَعْنَى أَنَّ الْعِبَادَةَ فِيهِ تَفْضُلُ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي غَيْرِهِ، وَالذَّنَبَ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنَ الذَّنْبِ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ. وَكَمَا يُقَالُ: إِنَّ الْحَرَمَ أَفْضَلُ مِنَ الْحِلِّ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى فِيهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ مَا لَا يَتَأَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ تَكُونُ كَصَلَاةٍ مُضَاعَفَةٍ مِمَّا تُقَامُ فِي غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّمَا صَارَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ لِمَ صَارَتْ أَعْظَمَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَعْظَمَ لِعِظَمِ مُقْتَضَاهَا، فَإِنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا يَشْرُفُ بِشَرَفِ ذَاتِهِ وَمُقْتَضَاهُ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ، وَهَى فِي آيِ الْقُرْآنِ كَـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فِي سُوَرِهِ، إِلَّا أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ تَفْضُلُهَا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُورَةٌ وَهَذِهِ آيَةٌ، فَالسُّورَةُ أَعْظَمُ مِنَ الْآيَةِ، لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّحَدِّي بِهَا، فَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَمْ يُتَحَدَّ بِهَا. وَالثَّانِي أَنَّ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ حَرْفًا وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ اقْتَضَتِ التَّوْحِيدَ فِي خَمْسِينَ حَرْفًا فَظَهَرَتِ الْقُدْرَةُ فِي الْإِعْجَازِ بِوَضْعِ مَعْنًى مُعَبَّرٍ عَنْهُ مَكْتُوبٍ، مَدَدُهُ السَّبْعَةُ الْأَبْحُرِ، لَا يَنْفَدُ، عَدَدُ حُرُوفِهِ خَمْسُونَ كَلِمَةً، ثُمَّ يُعَبَّرُ عَنْ مَعْنَى الْخَمْسِينَ كَلِمَةً خَمْسَةَ عَشَرَ كَلِمَةً؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِعِظَمِ الْقُدْرَةِ وَالِانْفِرَادِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ الْمُنَيِّرِ الْمَالِكِيُّ: كَانَ جَدِّي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: اشْتَمَلَتْ آيَةُ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا فِي بَعْضِهَا، وَمُسْتَكِنًّا فِي بَعْضٍ، وَيَظْهَرُ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْعَادِّينَ فِيهَا سِتَّةَ عَشَرَ إِلَّا عَلَى [بَصِيرٍ] حَادِّ الْبَصِيرَةِ لِدِقَّةِ اسْتِخْرَاجِهِ: 1- (اللَّهُ)، 2- (هُوَ)، 3- (الْحَيُّ)، 4- (الْقَيُّومُ)، 5- ضَمِيرُ (لَا تَأْخُذُهُ)، 6- ضَمِيرُ (لَهُ)، 7- ضَمِيرُ (عِنْدَهُ)، 8- ضَمِيرُ (إِلَّا بِإِذْنِهِ)، 9- ضَمِيرُ (يَعْلَمُ)، 10- ضَمِيرُ (عِلْمِهِ)، 11- ضَمِيرُ (شَاءَ)، 12- ضَمِيرُ (كُرْسِيُّهُ)، 13- ضَمِيرُ (يَؤُودُهُ)، 14- (وَهُوَ)، 15- (الْعَلِيُّ)، 16- (الْعَظِيمُ) فَهَذِهِ عِدَّةُ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْخَفِيُّ فِي الضَّمِيرِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ فِي قَوْلِهِ: (حِفْظُهُمَا) فَإِنَّهُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ الضَّمِيرُ الْبَارِزُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ، وَهُوَ (اللَّهُ) وَيَظْهَرُ عِنْدَ فَكِّ الْمَصْدَرِ؛ فَتَقُولُ، " وَلَا يَؤُودُهُ أَنْ يَحْفَظَهُمَا هُوَ ". قَالَ: وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْمُرْسِيُّ قَدْ رَامَ الزِّيَادَةَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ لَمَّا أَخْبَرْتُهُ عَنِ الْجَدِّ، فَقَالَ: يُمْكِنُ أَنْ تُعَدَّ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا بِاثْنَيْنِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْمِلُ ضَمِيرًا ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا، وَذَلِكَ الضَّمِيرُ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِهَا اسْمٌ، وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى آخَرَ مُضْمَرٍ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ الْعَدَدِ عَلَى هَذَا أَحَدًا وَعِشْرِينَ اسْمًا، فَأَجْرَيْتُ مَعَهُ وَجْهًا لَطِيفًا، وَهُوَ أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ لَا يَحْتَمِلُ الضَّمِيرَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بِالتَّسْمِيَةِ عَلَمًا عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ وَلَوْ فَرَضْنَاهَا مُحْتَمِلَةً لِلضَّمَائِرِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّلِ، فَالْمُشْتَقُّ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى مَوْصُوفِهِ بِاعْتِبَارِ تَحَمُّلِهِ ضَمِيرَهُ، أَلَا تَرَاكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ كَرِيمٌ، وَجَدْتُ كَرِيمًا، إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى زَيْدٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَمِيرَهُ؛ حَتَّى لَوْ جَرَّدْتَ النَّظَرَ إِلَيْهِ لَمْ تَجِدْهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ، بَلْ لَكَ أَنْ تُوقِعَهُ عَلَى كُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكَرَمِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا تَجِدُهُ مُخْتَصًّا بِزَيْدٍ إِلَّا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ، فَلَيْسَ الْمُشْتَقُّ إِذًا مُسْتَقِلًّا بِوُقُوعِهِ عَلَى مَوْصُوفِهِ إِلَّا بِضَمِيمَةِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحِلَّ لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ عَنِ الضَّمِيرِ مَعَ الْحُكْمِ بِرُجُوعِهِ إِلَى مُعَيَّنٍ أَلْبَتَّةَ. قَالَ: فَرَضِيَ عَنْ هَذَا الْبَحْثِ وَصَوَّبَهُ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وَقَلْبُ الْقُرْآنِ يس إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ صِحَّتُهُ بِالِاعْتِرَافِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، وَهُوَ مُقَرَّرٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ، فَجُعِلَتْ قَلْبَ الْقُرْآنِ لِذَلِكَ، وَاسْتَحْسَنَهُ فَخْرُ الدِّينِ الرَّازِيُّ. قَالَ الْجُوَيْنِيُّ: سَمِعْتُهُ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ هَذَا الْكَلَامِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِكُلِّ شَيْءٍ لُبَابٌ وَلُبَابُ الْقُرْآنِ آلُ حم- أَوْ قَالَ: الْحَوَامِيمُ. وَقَالَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ: كَانَ يُقَالُ لَهُنَّ الْعَرَائِسُ. رَوَى ذَلِكَ كُلَّهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ رَجُلٍ انْطَلَقَ يَرْتَادُ لِأَهْلِهِ مَنْزِلًا فَمَرَّ بِأَثَرِ غَيْثٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَسِيرُ فِيهِ وَيَتَعَجَّبُ مِنْهُ إِذْ هَبَطَ عَلَى رَوْضَاتٍ دَمِثَاتٍ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِنَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ فَهَذَا أَعْجَبُ وَأَعْجَبُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مَثَلَ الْغَيْثِ الْأَوَّلِ مَثَلُ عُظْمِ الْقُرْآنِ، وَإِنَّ مَثَلَ هَذِهِ الرَّوْضَاتِ الدَّمِثَاتِ، مَثَلُ آلِ حم فِي الْقُرْآنِ. أَوْرَدَهُ الْبَغَوِيُّ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ- مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ- كَرَاهَةَ أَنْ يُقَالَ: الْحَوَامِيمُ وَإِنَّمَا يُقَالُ: آلُ حم. وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ؟ قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. خَصَّ هَذِهِ السُّوَرَ بِالشَّيْبِ لِأَنَّهُنَّ أَجْمَعُ لِكَيْفِيَّةِ الْقِيَامَةِ وَأَهْوَالِهَا مِنْ غَيْرِهِنَّ، وَلِهَذَا قَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرَى الْقِيَامَةَ رَأَيَ الْعَيْنِ، فَلْيَقْرَأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التَّكْوِيرِ: 1). وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: إِذَا زُلْزِلَتْ تَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآنِ، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تَعْدِلُ رُبُعَهُ. وَقَالَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا غَرِيبٌ. وَقَدْ تَكَلَّمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى حَدِيثِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (الْإِخْلَاصِ: 1) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَحَكَى خِلَافَ النَّاسِ فِيهِ؛ فَقِيلَ: لِأَنَّهُ سَمِعَ شَخْصًا يُكَرِّرُهَا تَكْرَارَ مَنْ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا. وَفِيهِ بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ. قِيلَ: لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ وَشَرَائِعَ وَصِفَاتٍ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كُلُّهَا صِفَاتٌ، فَكَانَتْ ثُلُثًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَاعْتَرَضَ عَلَى ذَلِكَ بِاسْتِلْزَامِ كَوْنِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَآخِرِ الْحَشْرِ ثُلُثَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ. وَقِيلَ تَعْدِلُ فِي الثَّوَابِ، وَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. قُلْتُ: ضَعَّفَ ابْنُ عَقِيلٍ هَذَا وَقَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَلَهُ أَجْرُ ثُلُثِ الْقُرْآنِ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَلَى أَنِّي أَقُولُ: السُّكُوتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْكَلَامِ فِيهَا وَأَسْلَمُ. ثُمَّ أَسْنَدَ إِلَى إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، مَا وَجْهُهُ؟ فَلَمْ يَقُمْ لِي فِيهَا عَلَى أَمْرٍ. وَقَالَ لِي إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا فَضَّلَ كَلَامَهُ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ جَعَلَ لِبَعْضِهِ أَيْضًا فَضْلًا فِي الثَّوَابِ لِمَنْ قَرَأَهُ تَحْرِيضًا عَلَى تَعَلُّمِهِ لَا أَنَّ مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَ كَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ جَمِيعَهُ، هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ وَلَوْ قَرَأَهَا مِائَتَيْ مَرَّةٍ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهَذَانِ إِمَامَانِ بِالسُّنَّةِ مَا قَامَا وَلَا قَعَدَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قُلْتُ: وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ إِنَّ الْقُرْآنَ قِسْمَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ، وَالْخَبَرُ قِسْمَانِ: خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ، وَخَبَرٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ أَخْلَصَتِ الْخَبَرَ عَنِ الْخَالِقِ، فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثُلُثُ الْقُرْآنِ.
اخْتُلِفَ فِي أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى بِضْعَةَ عَشَرَ قَوْلًا: الْأَوَّلُ: آيَةُ " الدَّيْنِ " وَمَأْخَذُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى مَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ حَتَّى انْتَهَتِ الْعِنَايَةُ بِمَصَالِحِهِمْ إِلَى أَنْ أَمَرَهُمْ بِكِتَابَةِ الدَّيْنِ الْكَبِيرِ وَالْحَقِيرِ، فَبِمُقْتَضَى ذَلِكَ يُرْجَى عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ، لِظُهُورِ أَمْرِ الْعِنَايَةِ الْعَظِيمَةِ بِهِمْ، حَتَّى فِي مَصْلَحَتِهِمُ الْحَقِيرَةِ. الثَّانِي: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} (النُّورِ: 22) إِلَى قَوْلِهِ: {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} (الْآيَةَ: 22) وَهَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ إِثْرَ حَدِيثِ الْإِفْكِ، عَنِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ. الثَّالِثُ: قَالَ الشِّبْلِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الْأَنْفَالِ: 38) فَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَذِنَ لِلْكَافِرِينَ بِدُخُولِ الْبَابِ إِذَا أَتَوْا بِالتَّوْحِيدِ وَالشَّهَادَةِ، أَتَرَاهُ يُخْرِجُ الدَّاخِلَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ عَلَيْهَا!. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (سَبَأٍ: 17). الْخَامِسُ: قَوْلُهُ {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (طه: 48). السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشُّورَى: 30). السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} (الْإِسْرَاءِ: 84). الثَّامِنُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضُّحَى: 5). حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْخَمْسَةَ الْأَخِيرَةَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي " رُءُوسِ الْمَسَائِلِ ". التَّاسِعُ: رَأَيْتُ فِي مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ لِلْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ صَاحِبِ الْحَاكِمِ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَأَلَتُ الشَّافِعِيَّ: أَيُّ آيَةٍ أَرْجَى؟ قَالَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (الْبَلَدِ: 15 وَ 16) قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَرْجَى حَدِيثٍ لِلْمُؤْمِنِ؟ قَالَ: حَدِيثُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُدْفَعُ إِلَى كُلٍّ مُسْلِمٍ رَجُلٌ مِنَ الْكُفَّارِ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ. الْعَاشِرُ وَالْحَادِي عَشَرَ: رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: الْتَقَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيُّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَرْجَى عِنْدَكَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الزُّمَرِ: 53)، قَالَ: لَكِنْ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (الْبَقَرَةِ: 260) هَذَا لِمَا فِي الصُّدُورِ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، فَرَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِبْرَاهِيمَ بِقَوْلِهِ: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَقَالَ النَّحَّاسُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} (الْآيَةَ: 35)، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} (الرَّعْدِ: 6). وَأَمَّا أَخْوَفُ آيَةٍ فَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 131) وَلَوْ قِيلَ لَكُمْ إِنَّهَا: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} (الرَّحْمَنِ: 31) لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ خَفِيرِ الْحَارَةِ لَمْ أَنَمْ.
اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَمْحُ مَوْقِعِ النِّعَمِ عَلَى مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ أَوْ بَعْضَهُ، بِكَوْنِهِ أَعْظَمَ الْمُعْجِزَاتِ، لِبَقَائِهِ بِبَقَاءِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، وَلِكَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَالْحُجَّةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمَةٌ عَلَى كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْرَفُ كُتُبِهِ جَلَّ وَعَلَا، فَلْيَرَ مَنْ عِنْدَهُ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعْمَةً عَظِيمَةً، وَلْيَسْتَحْضِرْ مِنْ أَفْعَالِهِ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ حُجَّةً لَهُ لَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى طَلَبِ أُمُورٍ، وَالْكَفِّ عَنْ أُمُورٍ، وَذِكْرِ أَخْبَارِ قَوْمٍ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فَصَارُوا عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ حِينَ زَاغُوا فَأَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَأُهْلِكُوا لَمَّا عَصَوْا، وَلْيَحْذَرْ مَنْ عَلِمَ حَالَهُمْ أَنْ يَعْصِيَ، فَيَصِيرَ مَآلُهُ مَآلَهُمْ؛ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ عُلُوَّ شَأْنِهِ بِكَوْنِهِ ظَرْفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَصَدْرِهِ مُصْحَفًا لَهُ انْكَفَتَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ عَنِ الرَّذَائِلِ، وَأَقْبَلَتْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ الْهَائِلِ. وَأَكْبَرُ مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ حُسْنُ تَرْتِيلِهِ وَتِلَاوَتِهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 4) وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 106) فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يُرَتِّلَهُ، وَكَمَالُ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَرْتِيلِهِ تَفْخِيمُ أَلْفَاظِهِ وَالْإِبَانَةُ عَنْ حُرُوفِهِ، وَالْإِفْصَاحُ لِجَمِيعِهِ بِالتَّمْدِيدِ لَهُ حَتَّى يَصِلَ بِكُلِّ مَا بَعْدَهُ، وَأَنْ يَسْكُتَ بَيْنَ النَّفَسِ وَالنَّفَسِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ نَفَسُهُ، وَأَلَّا يُدْغِمَ حَرْفًا فِي حَرْفٍ، لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْقُطَ مِنْ حَسَنَاتِهِ بَعْضُهَا، وَيَنْبَغِي لِلنَّاسِ أَنْ يَرْغَبُوا فِي تَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِمْ؛ فَهَذَا الَّذِي وَصَفْتُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنَ التَّرْتِيلِ. لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَقِيلَ: أَقَلُّ التَّرْتِيلِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يُبَيِّنُ مَا يَقْرَأُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْجِلًا فِي قِرَاءَتِهِ، وَأَكْمَلُهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ فِيهَا مَا لَمْ يُخْرِجْهُ إِلَى التَّمْدِيدِ وَالتَّمْطِيطِ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ بِكَمَالِ التَّرْتِيلِ، فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى مَنَازِلِهِ، فَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ تَهْدِيدًا لَفَظَ بِهِ لَفْظَ الْمُتَهَدِّدِ، وَإِنْ كَانَ يَقْرَأُ لَفْظَ تَعْظِيمٍ لَفَظَ بِهِ عَلَى التَّعْظِيمِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ قَلْبُهُ فِي التَّفَكُّرِ فِي مَعْنَى مَا يَلْفِظُ بِلِسَانِهِ، فَيَعْرِفَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ مَعْنَاهَا، وَلَا يُجَاوِزَهَا إِلَى غَيْرِهَا حَتَّى يَعْرِفَ مَعْنَاهَا، فَإِذَا مَرَّ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَفَرِحَ بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، وَاسْتَبْشَرَ إِلَى ذَلِكَ، وَسَأَلَ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ الْجَنَّةَ، وَإِنْ قَرَأَ آيَةَ عَذَابٍ وَقَفَ عِنْدَهَا وَتَأَمَّلَ مَعْنَاهَا، فَإِنْ كَانَتْ فِي الْكَافِرِينَ اعْتَرَفَ بِالْإِيمَانِ، فَقَالَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَعَرَفَ مَوْضِعَ التَّخْوِيفِ، ثُمَّ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ النَّارِ. وَإِنْ هُوَ مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا نِدَاءٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وَقَفَ عِنْدَهَا، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَبَّيْكَ رَبِّي وَسَعْدَيْكَ، وَيَتَأَمَّلُ مَا بَعْدَهَا مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ؛ فَيَعْتَقِدُ قَبُولَ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي قَدْ قَصَّرَ عَنْهُ فِيمَا مَضَى اعْتَذَرَ عَنْ فِعْلِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ فِي تَقْصِيرِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التَّحْرِيمِ: 6). وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ أَهْلِهِ فِي صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَأَدَاءِ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي طَهَارَاتِهِمْ وَجَنَابَاتِهِمْ، وَحَيْضِ النِّسَاءِ وَنِفَاسِهِنَّ. وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَفَقَّدَ ذَلِكَ فِي أَهْلِهِ، وَيُرَاعِيَهُمْ بِمَسْأَلَتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ ذَلِكَ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ تَذْكِيرًا لَهُ وَتَأْكِيدًا لِمَا فِي قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ كَانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لَهُ، ثُمَّ هَكَذَا يُرَاعِي صِغَارَ وَلَدِهِ وَيُعَلِّمُهُمْ إِذَا بَلَغُوا سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيَ سِنِينَ، وَيَضْرِبُهُمْ إِذَا بَلَغُوا الْعَشْرَ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ قَدْ قَصَّرَ فِيمَا مَضَى اعْتَقَدَ قَبُولَهُ، وَالْأَخْذَ بِهِ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَقَدْ عَرَفَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرَّ بِهِ تَأَمَّلَهُ وَتَفَهَّمَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (التَّحْرِيمِ: 8)، فَإِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ تَذَكَّرَ أَفْعَالَهُ فِي نَفْسِهِ وَذُنُوبَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الظُّلَامَاتِ وَالْغِيبَةِ وَغَيْرِهَا، وَرَدَّ ظُلَامَتَهُ، وَاسْتَغْفَرَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ قَصَّرَ فِي عَمَلِهِ، وَنَوَى أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِلَّ كُلَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الظُّلَامَاتِ وَغَيْرِهَا، مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَاضِرًا، وَأَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَنْ كَانَ غَائِبًا، وَأَنْ يَرُدَّ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ، فَيَعْتَقِدُ هَذَا فِي وَقْتِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَتَّى يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَ وَأَطَاعَ؛ فَإِذَا فَعَلَ الْإِنْسَانُ هَذَا كَانَ قَدْ قَامَ بِكَمَالِ تَرْتِيلِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى آيَةٍ لَمْ يَعْرِفْ مَعْنَاهَا، يَحْفَظُهَا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَاهَا؛ لِيَكُونَ مُتَعَلِّمًا لِذَلِكَ طَالِبًا لِلْعَمَلِ بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْآيَةُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، اعْتَقَدَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَقَلَّ مَا يَكُونُ، وَإِنِ احْتَاطَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَوْكَدَ مَا فِي ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَأَحْوَطَ لِأَمْرِ دِينِهِ. وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ فِيمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ خَبَرِ مَنْ مَضَى مِنَ الْأُمَمِ، فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ، وَإِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْهُ، فَيُجَدِّدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ شُكْرًا. وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ، أَضْمَرَ قَبُولَ الْأَمْرِ وَالِائْتِمَارِ، وَالِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنْهِيِّ وَالِاجْتِنَابِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِيدًا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلْيَنْظُرْ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنْ جَنَحَ إِلَى الرَّجَاءِ فَزَّعَهُ بِالْخَوْفِ، وَإِنْ جَنَحَ إِلَى الْخَوْفِ فَسَحَ لَهُ فِي الرَّجَاءِ، حَتَّى يَكُونَ خَوْفُهُ وَرَجَاؤُهُ مُعْتَدِلَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَالُ الْإِيمَانِ. وَإِنْ كَانَ مَا يَقْرَؤُهُ مِنَ الْآيِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ اللَّهُ بِتَأْوِيلِهِ، فَلْيَعْتَقِدِ الْإِيمَانَ بِهِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) يَعْنِي عَاقِبَةَ الْأَمْرِ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 7). وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً اتَّعَظَ بِهَا، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ هَذَا فَقَدْ نَالَ كَمَالَ التَّرْتِيلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: النَّاسُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ مَقَامَاتٍ النَّاسُ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ: الْأَوَّلُ: مَنْ يَشْهَدُ أَوْصَافَ الْمُتَكَلِّمِ فِي كَلَامِهِ وَمَعْرِفَةِ مَعَانِي خِطَابِهِ، مَقَامَاتُ النَّاسِ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ، وَتَكَلُّمِهِ بِخِطَابِهِ، وَتَمَلِّيهِ بِمُنَاجَاتِهِ، وَتَعَرُّفِهِ مِنْ صِفَاتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ تُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى اسْمٍ أَوْ وَصْفٍ أَوْ حُكْمٍ أَوْ إِرَادَةٍ أَوْ فِعْلٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُنْبِئُ عَنْ مَعَانِي الْأَوْصَافِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْمَوْصُوفِ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَارِفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْظُرُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَلَا إِلَى تَعَلُّقِ الْإِنْعَامِ بِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مَقْصُورُ الْفَهْمِ عَنِ الْمُتَكَلِّمِ، مَوْقُوفُ الْفِكْرِ عَلَيْهِ، مُسْتَغْرِقٌ بِمُشَاهَدَةِ الْمُتَكَلِّمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَقَدْ تَجَلَّى اللَّهُ لِخَلْقِهِ بِكَلَامِهِ وَلَكِنْ لَا يُبْصِرُونَ. وَمِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ: لَوْ طَهُرَتِ الْقُلُوبُ لَمْ تَشْبَعْ مِنَ التِّلَاوَةِ لِلْقُرْآنِ. الثَّانِي: مَنْ يَشْهَدُ بِقَلْبِهِ كَأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ بِأَلْطَافِهِ، وَيَتَمَلَّقُهُ بِإِنْعَامِهِ وَإِحْسَانِهِ، مَقَامَاتُ النَّاسِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَمَقَامُ هَذَا الْحَيَاءُ وَالتَّعْظِيمُ، وَحَالُهُ الْإِصْغَاءُ وَالْفَهْمُ، وَهَذَا لِعُمُومِ الْمُقَرَّبِينَ. الثَّالِثُ: مَنْ يَرَى أَنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ سُبْحَانَهُ، مَقَامَاتُ النَّاسِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فَمَقَامُ هَذَا السُّؤَالُ وَالتَّمَكُّنُ، وَحَالُهُ الطَّلَبُ؛ وَهَذَا الْمَقَامُ لِخُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ؛ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ يَلْقَى السَّمْعَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْ سَمِيعِهِ مُصْغِيًا إِلَى سِرِّ كَلَامِهِ، شَهِيدَ الْقَلْبِ لِمَعَانِي صِفَاتِهِ، نَاظِرًا إِلَى قُدْرَتِهِ، تَارِكًا لِمَعْقُولِهِ وَمَعْهُودِ عِلْمِهِ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، مُعَظِّمًا لِلْمُتَكَلِّمِ، مُتَفَرِّغًا إِلَى الْفَهْمِ، بِحَالٍ مُسْتَقِيمٍ، وَقَلْبٍ سَلِيمٍ، وَصَفَاءِ يَقِينٍ، وَقُوَّةِ عِلْمٍ وَتَمْكِينٍ، سَمِعَ فَصْلَ الْخِطَابِ وَشَهِدَ غَيْبَ الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيلَ فِي الْقُرْآنِ، وَالتَّدَبُّرَ لِمَعَانِي الْكَلَامِ، وَحُسْنَ الِاقْتِصَادِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ فِي الْإِفْهَامِ، وَالْإِيقَافَ عَلَى الْمُرَادِ، وَصِدْقَ الرَّغْبَةِ فِي الطَّلَبِ سَبَبٌ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُطَّلَعِ مِنَ السِّرِّ الْمَكْنُونِ الْمُسْتَوْدَعِ. وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ الْخِطَابِ تَتَوَجَّهُ عَشْرَ جِهَاتٍ، لِلْعَارِفِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ مَقَامٌ وَمُشَاهَدَاتٌ: أَوَّلُهَا الْإِيمَانُ بِهَا، وَالتَّسْلِيمُ لَهَا، وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهَا، وَالصَّبْرُ عَلَيْهَا، وَالرِّضَا بِهَا، وَالْخَوْفُ مِنْهَا، وَالرَّجَاءُ إِلَيْهَا، وَالشُّكْرُ عَلَيْهَا، وَالْمَحَبَّةُ لَهَا، وَالتَّوَكُّلُ فِيهَا. فَهَذِهِ الْمَقَامَاتُ الْعَشْرُ هِيَ مَقَامَاتُ الْمُتَّقِينَ، وَهَى مُنْطَوِيَةٌ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَشْهَدُهَا أَهْلُ التَّمْكِينِ وَالْمُنَاجَاةِ، وَيَعْرِفُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ، لِأَنَّ كَلَامَ الْمَحْبُوبِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ، لَا يُنْذَرُ بِهِ إِلَّا حَيٌّ، وَلَا يَحْيَا بِهِ إِلَّا مُسْتَجِيبٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (يس: 70) وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الْأَنْفَالِ: 24). وَلَا يَشْهَدُ هَذِهِ الْعَشْرَ مُشَاهَدَاتٍ إِلَّا مَنْ يَتَنَقَّلُ فِي الْعَشْرِ الْمَقَامَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ (الْآيَةَ: 35)، أَوَّلُهَا مَقَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُهَا مَقَامُ الذَّاكِرِينَ، وَبَعْدَ مَقَامِ الذِّكْرِ هَذِهِ الْمُشَاهَدَاتُ الْعَشْرِ، فَعِنْدَهَا لَا تُمَلُّ الْمُنَاجَاةُ، لِوُجُودِ الْمُصَافَاةِ، وَعَلِمَ كَيْفَ تُجَلَّى لَهُ تِلْكَ الصِّفَاتُ الْإِلَهِيَّةُ فِي طَيِّ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ، وَلَوْلَا اسْتِتَارُ كُنْهِ جَمَالِ كَلَامِهِ بِكِسْوَةِ الْحُرُوفِ، لَمَا ثَبَتَ لِسَمَاعِ الْكَلَامِ عَرْشٌ وَلَا ثَرًى، وَلَا تَمَكَّنَ لِفَهْمِ عَظِيمِ الْكَلَامِ إِلَّا عَلَى حَدِّ فَهْمِ الْخَلْقِ، فَكُلُّ أَحَدٍ يَفْهَمُ عَنْهُ بِفَهْمِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ حِكْمَةً مِنْهُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: فِي الْقُرْآنِ مَيَادِينُ وَبَسَاتِينُ مَقَاصِيرُ، وَعَرَائِسُ، وَدَيَابِيجُ، وَرِيَاضٌ؛ فَالْمِيمَاتُ مَيَادِينُ الْقُرْآنِ، وَالرَّاءَاتُ بَسَاتِينُ الْقُرْآنِ، وَالْحَاءَاتُ مَقَاصِيرُ الْقُرْآنِ، وَالْمُسَبِّحَاتُ عَرَائِسُ الْقُرْآنِ، وَالْحَوَامِيمُ دَيَابِيجُ الْقُرْآنِ، وَالْمُفَصَّلُ رِيَاضُهُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ. فَإِذَا دَخَلَ الْمُرِيدُ فِي الْمَيَادِينِ، وَقَطَفَ مِنَ الْبَسَاتِينِ، وَدَخَلَ الْمَقَاصِيرَ، وَشَهِدَ الْعَرَائِسَ، وَلَبِسَ الدَّيَابِيجَ، وَتَنَزَّهَ فِي الرِّيَاضِ، وَسَكَنَ غُرُفَاتِ الْمَقَامَاتِ اقْتَطَعَهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَأَوْقَفَهُ مَا يَرَاهُ، وَشَغَلَهُ الْمُشَاهَدَةُ لَهُ عَمَّا عَدَاهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ وَالْتَمِسُوا غَرَائِبَهُ، وَغَرَائِبُهُ فُرُوضُهُ وَحُدُودُهُ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةٍ: حَلَالٍ، وَحَرَامٍ، وَمُحْكَمٍ، وَأَمْثَالٍ، وَمُتَشَابِهٍ، فَخُذُوا الْحَلَالَ، وَدَعُوا الْحَرَامَ، وَاعْمَلُوا بِالْمُحْكَمِ، وَآمِنُوا بِالْمُتَشَابِهِ، وَاعْتَبِرُوا بِالْأَمْثَالِ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ سَبْعٍ فِي كِتَابِ " شِفَاءِ الصَّدْرِ ": هَذَا الَّذِي قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ- لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِهِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهِ أَكْثَرُ، وَقَالَ آخَرُونَ: الْقُرْآنُ يَحْتَوِي عَلَى سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ، إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ، ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعًا، إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَفَى الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ.
تُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِلَا تَدَبُّرٍ، وَعَلَيْهِ مَحَلُّ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: لَا يَفْقَهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ ، وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ لِمَنْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَقُومُ بِالْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ: أَهَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ!. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الْخَوَارِجِ: يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَا حَنَاجِرَهُمْ، ذَمَّهُمْ بِإِحْكَامِ أَلْفَاظِهِ، وَتَرْكِ التَّفَهُّمِ لِمَعَانِيهِ.
ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ: خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ " أَفْضَلُكُمْ "، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَرْفَعُهُ: إِنَّ الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَتَعَلَّمُوا مِنْ مَأْدُبَةِ اللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، قَالَ: تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ خَمْسَ آيَاتٍ، خَمْسَ آيَاتٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُهُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَمْسًا خَمْسًا. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنْ تَعَلَّمَهُ خَمْسًا خَمْسًا لَمْ يَنْسَهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَكَذَلِكَ حِفْظُهُ وَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ، صَرَّحَ بِهِ الْجُرْجَانِيُّ فِي " الشَّافِي " وَالْعَبَّادِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَالْمَعْنَى فِيهِ كَمَا قَالَهُ الْجُوَيْنِيُّ أَلَّا يَنْقَطِعَ عَدَدُ التَّوَاتُرِ فِيهِ، وَلَا يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ؛ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ قَوْمٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ آثِمٌ. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ أَوِ الْقَرْيَةِ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ أَثِمُوا بِأَسْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ لِلتَّعْلِيمِ وَطُلِبَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَامْتَنَعَ لَمْ يَأْثَمْ فِي الْأَصَحِّ؛ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي التِّبْيَانِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا صَحَّحَهُ فِي " كِتَابِ السِّيَرِ " أَنَّ الْمُفْتِيَ وَالْمُدَرِّسَ لَا يَأْثَمَانِ بِالِامْتِنَاعِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَصْلُحُ غَيْرُهُ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ؛ فَإِنْ كَانَتْ تَفُوتُ لَمْ يَجُزِ الِامْتِنَاعُ، كَالْمُصَلِّي يُرِيدُ تَعَلُّمَ الْفَاتِحَةِ، وَلَوْ رَدَّهُ لَخَرَجَ الْوَقْتُ بِسَبَبِ ذَهَابِهِ إِلَى الْآخَرِ، وَلِضِيقِ الْوَقْتِ عَنِ التَّعْلِيمِ. وَيَنْبَغِي تَعْلِيمُهُ عَلَى التَّأْلِيفِ الْمَعْهُودِ؛ فَإِنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ؛ وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سُئِلَ عَنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْكُوسًا قَالَ: ذَاكَ مَنْكُوسُ الْقَلْبِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَجْهُهُ عِنْدِي أَنْ يَبْتَدِئَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ مِنْ آخِرِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، ثُمَّ يَرْتَفِعَ إِلَى الْبَقَرَةِ؛ كَنَحْوِ مَا تَفْعَلُ الصِّبْيَانُ فِي الْكُتَّابِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ خِلَافُ هَذَا، وَإِنَّمَا وَرَدَتِ الرُّخْصَةُ فِي تَعْلِيمِ الصَّبِيِّ وَالْعَجَمِيِّ مِنَ الْمُفَصَّلِ لِصُعُوبَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ عَلَيْهِمَا.
وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ، الْقُرْآنُ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ ، وَقِيلَ: إِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ، وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيُّ، وَقَالَ: اسْتَنْصَرَ النَّاسُ الْمُعَلِّمِينَ لِقَصْرِهِمْ زَمَانَهُمْ عَلَى مُعَاشَرَةِ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ النِّسَاءِ، حَتَّى أَثَّرَ ذَلِكَ فِي عُقُولِهِمْ، ثُمَّ لِابْتِغَائِهِمْ عَلَيْهِ الْأَجْعَالَ، وَطَمَعِهِمْ فِي أَطْعِمَةِ الصِّبْيَانِ، فَأَمَّا نَفْسُ التَّعْلِيمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ التَّشْرِيفَ وَالتَّفْصِيلَ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ " الْبُسْتَانِ ": التَّعْلِيمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لِلْحِسْبَةِ وَلَا يَأْخُذْ بِهِ عِوَضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلِّمَ بِالْأُجْرَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعَلِّمَ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَإِذَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ قَبِلَ. فَالْأَوَّلُ: مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَمَلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِيهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ: لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَجُوزُ؛ مِثْلُ عِصَامِ بْنِ يُوسُفَ، وَنَصْرِ بْنِ يَحْيَى، وَأَبِي نَصْرِ بْنِ سَلَّامٍ. وَغَيْرِهِمْ قَالُوا: وَالْأَفْضَلُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُشَارِطَ الْأُجْرَةَ لِلْحِفْظِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ شَارَطَ لِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَوَارَثُوا ذَلِكَ وَاحْتَاجُوا إِلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُعَلِّمًا لِلْخَلْقِ وَكَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ. وَلِحَدِيثِ اللَّدِيغِ لَمَّا رَقَوْهُ بِالْفَاتِحَةِ، وَجَعَلُوا لَهُ جُعْلًا، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ فِيهَا بِسَهْمٍ.
وَلْيُدْمِنْ عَلَى تِلَاوَتِهِ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُثْنِيًا عَلَى مَنْ كَانَ دَأْبُهُ تِلَاوَةَ آيَاتِ اللَّهِ وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} (آلِ عِمْرَانَ: 113) وَسَمَّاهُ ذِكْرًا، وَتَوَعَّدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ وَمَنْ تَعَلَّمَهُ ثُمَّ نَسِيَهُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ فِي عِقَالِهَا. وَقَالَ: بِئْسَمَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ فِي عُقُلِهَا.
يُسْتَحَبُّ الِاسْتِيَاكُ وَتَطْهِيرُ فَمِهِ، وَالطِّهَارَةُ لِلْقِرَاءَةِ بِاسْتِيَاكِهِ، وَتَطْهِيرِ بَدَنِهِ بِالطِّيبِ الْمُسْتَحَبِّ تَكْرِيمًا لِحَالِ التِّلَاوَةِ، وَآدَابِهَا لَابِسًا مِنَ الثِّيَابِ مَا يَتَجَمَّلُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ؛ لِكَوْنِهِ بِالتِّلَاوَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ بِهَذَا الْإِينَاسِ، فَإِنَّ التَّالِيَ لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَالِمِ لِذِي الْكَلَامِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّشْرِيفِ مِنْ فَضْلِ الْكَرِيمِ الْعَلَّامِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ جَالِسًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ؛ سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ حَدِيثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ؛ فَاسْتَوَى جَالِسًا وَقَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُتَّكِئٌ. وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا، وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ، قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: لَا يُقَالُ إِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْحَدَثِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ سِوَى الْجَنَابَةِ. وَفَى مَعْنَاهَا الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ فِي الْحَائِضِ؛ تَقْرَأُ خَوْفَ النِّسْيَانِ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَقَلَّ مِنْ آيَةٍ وَاحِدَةٍ، قَالَ: وَإِذَا أَرَادَتِ الْحَائِضُ التَّعَلُّمَ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُلَقَّنَ نِصْفَ آيَةٍ، ثُمَّ تَسْكُتَ وَلَا تَقْرَأَ آيَةً وَاحِدَةً بِدُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ حَالَ خُرُوجِ الرِّيحِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النَّوَاقِضِ كَاللَّمْسِ وَالْمَسِّ وَنَحْوِهِ فَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقْذَرٍ عَادَةً، وَلِأَنَّهُ فِي حَالِ خُرُوجِ الرِّيحِ يَبْعُدُ بِخِلَافِ هَذِهِ.
يُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ قَطْعَهَا قَطْعَ تَرْكٍ وَأَرَادَ الْعَوْدَ جَدَّدَ، وَإِنْ قَطَعَهَا لَعُذْرٍ عَازِمًا عَلَى الْعَوْدِ كَفَاهُ التَّعَوُّذُ الْأَوَّلُ مَا لَمْ يَطُلِ الْفَصْلُ. وَلَا بُدَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ تَحَرُّزًا مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَإِلَّا كَانَ قَارِئًا بَعْضَ السُّوَرِ لَا جَمِيعَهَا، فَإِنْ قَرَأَ مِنْ أَثْنَائِهَا اسْتُحِبَّ لَهُ الْبَسْمَلَةُ أَيْضًا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا نَقَلَهُ الْعَبَّادِيُّ. وَقَالَ الْفَاسِيُّ فِي شَرْحِ الْقَصِيدَةِ: كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَأْخُذُ عَلَيْنَا فِي الْأَجْزَاءِ الْقُرْآنِيَّةِ بِتَرْكِ الْبَسْمَلَةِ وَيَأْمُرُنَا بِهَا فِي حِزْبِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (الْبَقَرَةِ: 255) وَفَى حِزْبِ {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} (فُصِّلَتْ: 47) لِمَا فِيهِمَا بَعْدَ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ قُبْحِ اللَّفْظِ. وَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ، إِذَا ابْتَدَأَ مِثْلَ ذَلِكَ نَحْوَ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (الرُّومِ: 54)، {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} (الْأَنْعَامِ: 141) لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ. وَقَدْ كَانَ مَكِّيٌّ يَخْتَارُ إِعَادَةَ الْآيَةِ قَبْلَ كُلِّ حِزْبٍ مِنَ الْحِزْبَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَلْتَكُنْ تِلَاوَتُهُ بَعْدَ أَخْذِهِ الْقُرْآنَ مِنْ أَهْلِ الْإِتْقَانِ لِهَذَا الشَّأْنِ، الْجَامِعِينَ بَيْنَ الدِّرَايَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ بِهِ جِبْرِيلُ فِي رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ.
وَهَلِ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ، أَمْ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ، أَمْ يَخْتَلِفُ الْحَالُ؟ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ عِبَادَةٌ، فَتَجْتَمِعُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ، وَهَذَا قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ وَالْغَزَالِيُّ، قَالَ: وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى.... وَتَأَمُّلِ الْمُصْحَفِ وَجُمَلِهِ، وَيَزِيدُ فِي الْأَجْرِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: الْخَتْمَةُ فِي الْمُصْحَفِ بِسَبْعٍ؛ وَذُكِرَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْرَءُونَ فِي الْمُصْحَفِ، وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَخْرُجَ يَوْمٌ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي الْمُصْحَفِ. وَدَخَلَ بَعْضُ فُقَهَاءِ مِصْرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَسْجِدَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ، فَقَالَ: شَغَلَكُمُ الْفِقْهُ عَنِ الْقُرْآنِ، إِنِّي لَأُصَلِّي الْعَتَمَةَ، وَأَضَعُ الْمُصْحَفَ فِي يَدِي فَمَا أُطْبِقُهُ حَتَّى الصُّبْحِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: كَانَ أَبِي يَقْرَأُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سُبْعًا مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَتْرُكُهُ نَظَرًا. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ عَوْذٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قِرَاءَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ أَلْفُ دَرَجَةٍ، وَقِرَاءَتُهُ فِي الْمُصْحَفِ تُضَاعَفُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَلْفَيْ دَرَجَةٍ ، وَأَبُو سَعِيدٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: لَا بَأْسَ بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقَيْنِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَانَتْ لَهُ أَلْفُ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَرَأَهُ فِي غَيْرِ الْمُصْحَفِ فَأَظُنُّهُ قَالَ كَأَلْفَيْ حَسَنَةٍ. وَفَى الطَّرِيقِ الْأُخْرَى: قَالَ دَرَجَةٍ، وَجَزَمَ بِأَلْفٍ إِذَا لَمْ يَقْرَأْ فِي الْمُصْحَفِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَرْفُوعًا: مَنْ قَرَأَ مِائَتَيْ آيَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نَظَرًا شُفِّعَ فِي سَبْعَةِ قُبُورٍ حَوْلَ قَبْرِهِ، وَخُفِّفَ الْعَذَابُ عَنْ وَالِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ بِسَنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَضْلُ الْقُرْآنِ نَظَرًا عَلَى مَنْ قَرَأَ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْفَرِيضَةِ عَلَى النَّافِلَةِ. وَبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ نَشَرَ الْمُصْحَفَ يَقْرَأُ فِيهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: النَّظَرُ إِلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي وَجْهِ الْوَالِدَيْنِ عِبَادَةٌ، وَالنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ. وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ: كَانَ يُعْجِبُهُمُ النَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ هُنَيْهَةً. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مُصْحَفٌ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ آيَاتٍ يَسِيرَةً وَلَا يَتْرُكَهُ مَهْجُورًا. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ظَهْرِ الْقَلْبِ أَفْضَلُ، وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَقَالَ فِي " أَمَالِيهِ " قِيلَ الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ فِعْلَ الْجَارِحَتَيْنِ، وَهُمَا اللِّسَانُ وَالْعَيْنُ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ الْمَشَقَّةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِرَاءَةِ التَّدَبُّرُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29)؛ وَالْعَادَةُ تَشْهَدُ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ يُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ، فَكَانَ مَرْجُوحًا. وَالثَّالِثُ: وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ فِي " الْأَذْكَارِ " إِنْ كَانَ الْقَارِئُ مِنْ حِفْظِهِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَجَمْعِ الْقَلْبِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمُصْحَفِ فَالْقِرَاءَةُ مِنَ الْحِفْظِ أَفْضَلُ، وَإِنِ اسْتَوَيَا فَمِنَ الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ، قَالَ: وَهُوَ مُرَادُ السَّلَفِ.
|