الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
مَعَ أَنَّ الْمَوْزُونَ فِي الْكَلَامِ رُتْبَتُهُ فَوْقَ رُتْبَةِ الْمَنْظُومِ غَيْرِ الْمَوْزُونِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مَوْزُونٍ مَنْظُومٌ، وَلَا عَكْسَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (يس: 69) فَأَعْلَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ نَزَّهَ الْقُرْآنَ عَنْ نَظْمِ الشِّعْرِ وَالْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ مَجْمَعُ الْحَقِّ، وَمَنْبَعُ الصِّدْقِ، وَقُصَارَى أَمْرِ الشَّاعِرِ التَّحْصِيلُ بِتَصْوِيرِ الْبَاطِلِ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَالْإِفْرَاطُ فِي الْإِطْرَاءِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي الذَّمِّ وَالْإِيذَاءِ دُونَ إِظْهَارِ الْحَقِّ، وَإِثْبَاتُ الصِّدْقِ مِنْهُ كَانَ بِالْعَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} (الْحَاقَّةِ: 41) أَيْ كَاذِبٍ وَلَمْ يَعْنِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ فَإِنَّ وَزْنَ الشِّعْرِ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَشْتَبِهَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُنْفَى عَنْهُ، وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ الشِّعْرِ بِالْكَذِبِ سَمَّى الْمَنْطِقِيُّونَ الْقِيَاسَاتِ الْمُؤَدِّيَةَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ إِلَى الْبُطْلَانِ وَالْكَذِبِ شِعْرِيَّةً. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وُجِدَ فِي الْقُرْآنِ مَا وَافَقَ شِعْرًا مَوْزُونًا، إِمَّا بَيْتٌ تَامٌّ، أَوْ أَبِيَّاتٌ، أَوْ مِصْرَاعٌ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: وَقُلْتُ لَمَّا حَاوَلُوا سَلْوَتِي *** هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ وَقَوْلِهِ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} (سَبَأٍ: 13) قَالُوا: هَذَا مِنَ الرَّمَلِ. وَكَقَوْلِهِ: {مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} (فَاطِرٍ: 18) قَالُوا: هُوَ مِنَ الْخَفِيفِ. وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْمُتَقَارِبِ، أَيْ بِإِسْقَاطِ (مَخْرَجًا). وَقَوْلِهِ: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}. وَيُشْبِعُونَ حَرَكَةَ الْمِيمِ فَيَبْقَى مِنَ الرَّجَزِ، وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا نُوَاسٍ ضَمَّنَهُ فَقَالَ: وَفِتْيَةٍ فِي مَجْلِسٍ وُجُوهُهُمْ *** رَيْحَانُهُمْ قَدْ عَدِمُوا التَّثْقِيلَا (دَانِيَةً عَلَيْهِمُو ظِلَالُهَا *** وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْوَافِرِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قَالُوا: هُوَ مِنَ الْخَفِيفِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} (الْعَادِيَّاتِ: 1 وَ 2) وَنَحْوِ قَوْلِهِ: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} (الذَّارِيَاتِ: 1- 3) وَهُوَ عِنْدَهُمْ شِعْرٌ مِنْ بَحْرِ الْبَسِيطِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (ق: 40). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 92). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} (الْكَهْفِ: 22). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (هُودٍ: 43). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (الْمَسَدِ: 1). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (الصَّفِّ: 13) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (الْأَنْفَالِ: 38) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} (الْقَصَصِ: 76). وَيُحْكَى أَنَّهُ سَمِعَ أَعْرَابِيٌّ قَارِئًا يَقْرَأُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الْحَجِّ: 1) قَالَ: كَسَرْتَ؛ إِنَّمَا قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ *** زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الْقُرْآنُ وَلَيْسَ بِشِعْرٍ. فَالْجَوَابُ؛ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ الْفُصَحَاءَ مِنْهُمْ لَمَّا أُورِدَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَوِ اعْتَقَدُوهُ شِعْرًا لَبَادَرُوا إِلَى مُعَارَضَتِهِ؛ لِأَنَّ الشِّعْرَ مُنْقَادٌ إِلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَعْمِدُوا إِلَى ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ ذَلِكَ، فَمَنِ اسْتَدْرَكَ فِيهِ شِعْرًا زَعَمَ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ، وَهُمْ مُلُوكُ الْكَلَامِ مَعَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْغَضِّ مِنْهُ وَالتَّوَصُّلِ إِلَى تَكْذِيبِهِ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَلَنْ يَجُوزَ أَنْ يَخْفَى عَلَى أُولَئِكَ وَأَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَعْرِفَهُ مَنْ جَاءَ الْآنَ، فَهُوَ بِالْجَهْلِ حَقِيقٌ. وَحِينَئِذٍ فَالَّذِي أَجَابَ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْبَيْتَ الْوَاحِدَ وَمَا كَانَ عَلَى وَزْنِهِ لَا يَكُونُ شِعْرًا، وَأَقَلُّ الشِّعْرِ بَيْتَانِ فَصَاعِدًا، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ صِنَاعَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ بَيْتَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ وَزْنُهُمَا وَقَافِيَتُهُمَا فَلَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الرَّجَزَ لَيْسَ بِشِعْرٍ أَصْلًا، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَشْطُورًا أَوْ مَنْهُوكًا. وَكَذَا مَا يُقَارِبُهُ فِي قِلَّةِ الْأَجْزَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ. ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الشِّعْرَ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ مَتَى قُصِدَ إِلَيْهِ عَلَى الطَّرِيقِ الَّتِي تُعْمَدُ وَتُسْلَكُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَتَّفِقَ مِثْلُهُ إِلَّا مِنَ الشُّعَرَاءِ دُونَ مَا يَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِّيُّ وَالْجَاهِلُ، وَمَا يَتَّفِقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، فَلَيْسَ بِشِعْرٍ؛ فَلَا يُسَمَّى صَاحِبُهُ شَاعِرًا، وَإِلَّا لَكَانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ شُعَرَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ مُتَكَلِّمٍ لَا يَنْفَكُّ أَنْ يَعْرِضَ فِي جُمْلَةِ كَلَامِهِ مَا يَتَّزِنُ بِوَزْنِ الشِّعْرِ وَيَنْتَظِمُ بِانْتِظَامِهِ. وَقِيلَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ مِنَ الرَّجَزِ شِعْرًا أَرْبَعَةُ أَبْيَاتٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ بِحَالٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الَّتِي سَلَكُوهَا فِي الْجَوَابِ مُعْتَمَدَةٌ، أَوْ أَكْثَرُهَا. وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ شِعْرًا لَكَانَتِ النُّفُوسُ تَتَشَوَّقُ إِلَى مُعَارَضَتِهِ، لِأَنَّ طَرِيقَ الشِّعْرِ غَيْرُ مُسْتَصْعَبٍ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ.
مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْإِعْجَازِ اخْتِلَافَاتُ الْمَقَامَاتِ وَذِكْرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يُلَائِمُهُ، وَوَضْعُ الْأَلْفَاظِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَرَادِفَةً، حَتَّى لَوْ أُبْدِلَ وَاحِدٌ مِنْهَا بِالْآخَرِ، ذَهَبَتْ تِلْكَ الطُّلَاوَةُ، وَفَاتَتْ تِلْكَ الْحَلَاوَةُ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الْأَرْضِ لَمْ تَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا مُفْرَدَةً، وَإِذَا ذُكِرَتْ وَالسَّمَاءُ مَجْمُوعَةٌ لَمْ يُؤْتَ بِهَا مَعَهَا إِلَّا مُفْرَدَةً، وَلَمَّا أُرِيدَ الْإِتْيَانُ بِهَا مَجْمُوعَةً قَالَ: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطَّلَاقِ: 12)، تَفَادِيًا مِنْ جَمْعِهَا. وَلَفْظَ الْبُقْعَةِ لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِيهِ إِلَّا مُفْرَدَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} (الْقَصَصِ: 30) فَإِنْ جُمِعَتْ حَسَّنَ ذَلِكَ وُرُودُهَا مُضَافَةً، كَقَوْلِهِمْ: بِقَاعُ الْأَرْضِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ اللُّبِّ مُرَادًا بِهِ الْعَقْلُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا مَجْمُوعًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (ص: 43)، {لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (الزُّمَرِ: 21) فَإِنَّهُ يَعْذُبُ دُونَ الْإِفْرَادِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الْأَحْزَابِ: 4) وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (آلِ عِمْرَانَ: 35) اسْتُعْمِلَ الْجَوْفُ فِي الْأَوَّلِ وَالْبَطْنُ فِي الثَّانِي مَعَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ أَحَدُهُمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ الذَّوْقِ مَا لِاسْتِعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَقَامَاتِ؛ فَانْظُرْ إِلَى مَقَامِ التَّرْغِيبِ، فِي الْقُرْآنِ وَإِلَى مَقَامِ التَّرْهِيبِ، فَمَقَامُ التَّرْغِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزُّمَرِ: 53) نَجِدُهُ تَأْلِيفًا لِقُلُوبِ الْعِبَادِ، وَتَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ. قِيلَ: وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّهُ أَسْلَمَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَنَفَرٌ مَعَهُمَا، ثُمَّ فُتِنُوا وَعُذِّبُوا فَافْتَتَنُوا قَالَ: وَكُنَّا نَقُولُ: قَوْمٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا أَبَدًا. فَنَزَلَتْ فَكَتَبَ بِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَيْهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ فَهِمَ قَصْدَ التَّرْغِيبِ، فَآمَنُوا وَأَسْلَمُوا وَهَاجَرُوا. وَلَا يَلْزَمُ دَلَالَتُهَا عَلَى مَغْفِرَةِ الْكُفْرِ، لِكَوْنِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى فَضْلِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَأْلِيفِ الْقُلُوبِ لَهُ لِوُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} عَامٌّ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (النِّسَاءِ: 48) فَيَبْقَى مُعْتَبَرًا فِيمَا عَدَاهُ. وَمِنْهَا أَنَّ لَفْظَ الْعِبَادِ مُضَافًا إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ؛ قَالَ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الدَّهْرِ: 6). فَإِنْ قُلْتَ: فَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ حَالَ التَّرْغِيبِ! قُلْتُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَهُ؛ بِدَلِيلِ سَبَبِ نُزُولِهَا، وَعُومِلُوا هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ مِنَ الْإِضَافَةِ مُبَالَغَةً فِي التَّرْغِيبِ. وَأَمَّا مَقَامُ التَّرْهِيبِ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ مُضَادٌّ لَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (النِّسَاءِ: 14) وَيَدُلُّ عَلَى قَصْدِ مُجَرَّدِ التَّرْهِيبِ بُطْلَانُ النُّصُوصِيَّةِ مِنْ ظَاهِرِهَا عَلَى عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْمَعَاصِي؛ لِأَنَّ " مَنْ " لِلْعُمُومِ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَيَعُمُّ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي، فَقَدْ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ، وَهُوَ يُنَافِي الْمَغْفِرَةَ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَقَامٍ يُضَادُّ الْآخَرَ، وَيُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: الْمَعَانِي الْإِفْرَادِيَّةُ؛ بِأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا أَقْوَى دَلَالَةً وَأَفْخَمَ مُسَمًّى، وَأَسْلَسَ لَفْظًا وَنَحْوَهُ. الثَّانِي: الْمَعَانِي الْإِعْرَابِيَّةُ بِأَنْ يَكُونَ مُسَمَّاهَا أَبْلَغَ مَعْنًى؛ كَالتَّمْيِيزِ مَعَ الْبَدَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (مَرْيَمَ: 4) مَعَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبَةً؛ وَهَذَا أَبْلَغُ مِنِ: (اشْتَعَلَ شَيْبُ الرَّأْسِ). الثَّالِثُ: مَوَاقِعُ التَّرْكِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} (النَّحْلِ: 51) فَإِنَّ الْأَوْلَى جَعْلُ اثْنَيْنِ مَفْعُولَ " تَتَّخِذُوا " وَ " إِلَهَيْنِ " صِفَةً لَهُ تَقَدَّمَتْ، فَانْتَصَبَتْ عَلَى الْحَالِ، وَالتَّقْدِيرُ: اتَّخَذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ، لِأَنَّ اثْنَيْنِ أَعَمُّ مِنْ إِلَهَيْنِ.
وَهُوَ أَنْ يَقَعَ التَّرْكِيبُ بِحَيْثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُوجَدَ مَا هُوَ أَشَدُّ تَنَاسُبًا وَلَا اعْتِدَالًا فِي إِفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ: هَلْ تَتَفَاوَتُ فِيهِ مَرَاتِبُ الْفَصَاحَةِ؟ وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ (الْإِعْجَازِ) الْمَنْعَ، وَأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ مَوْصُوفَةٌ بِالذِّرْوَةِ الْعُلْيَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ أَحْسَنَ إِحْسَاسًا لَهُ مِنْ بَعْضٍ؛ وَهَذَا كَمَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْطِنُ لِلْوَزْنِ بِخِلَافِ بَعْضٍ. وَاخْتَارَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ التَّفَاوُتَ، فَقَالَ: وَقَدْ رُدَّ عَلَى الزَّجَّاجِ، وَغَيْرِهِ تَضْعِيفُهُمْ قِرَاءَةَ (وَالْأَرْحَامِ) بِالْجَرِّ: هَذَا مِنَ الْكَلَامِ مَرْدُودٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَاتِ السَّبْعَ مُتَوَاتِرَةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا ثَبَتَ فَمَنْ رَدَّ ذَلِكَ، فَكَأَنَّمَا رَدَّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَهَذَا مَقَامٌ مَحْذُورٌ، لَا يُقَلَّدُ فِيهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ صَحِيحٌ فَصِيحٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَفْصَحَ مِنْهُ، قَالَ: فَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْفَصَاحَةِ. وَإِلَى هَذَا نَحَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي كِتَابِ الْمَجَازِ وَأَوْرَدَ سُؤَالًا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ لَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ جَمِيعُهُ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ؟ وَقَالَ: فِيهِ إِشْكَالٌ يَسَّرَ اللَّهُ حَلَّهُ. قَالَ الْقَاضِي صَدْرُ الدِّينِ مَوْهُوبٌ الْجَزَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ وَقَعَ لِي حَلُّ هَذَا الْإِشْكَالِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَقُولُ: الْبَارِئُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ لَهُ أَسَالِيبُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى مَجَارِي تَصْرِيفِ أَقْدَارِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى إِلْجَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِقْرَارِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ تَعَالَى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشُّعَرَاءِ: 4) وَلَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرْسَلَ رَسُولَهُ عَلَى أَسَالِيبِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَجَارِي الْعَوَائِدِ الْوَاقِعَةِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ؛ وَلِذَلِكَ تَكُونُ حُرُوبُ الْأَنْبِيَاءِ سِجَالًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ، وَيَبْتَدِئُ أَمْرُ الْأَنْبِيَاءِ بِأَسْبَابٍ خَفِيفَةٍ، وَلَا تَزَالُ تُنَمَّى وَتَشْتَدُّ، كُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَسَالِيبَهُمْ فِي الْإِرْسَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ وَالْمُعْتَادُ مِنْ أَحْوَالِ غَيْرِهِمْ. إِذَا عُرِفَ ذَلِكَ كَانَ مَجِيءُ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِغَيْرِ الْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ جَمِيعِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَدَّاهُمْ بِمُعَارَضَتِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ فَلَوْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ، لَكَانَ ذَلِكَ نَمَطًا غَيْرَ النَّمَطِ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِعْجَازِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى نَهْجِ إِنْشَائِهِمُ الْخُطَبَ، وَالْأَشْعَارَ وَغَيْرَهَا، لِيَحْصُلَ لَهُمُ التَّمَكُّنُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ ثُمَّ يَعْجِزُوا عَنْهَا، فَيَظْهَرَ الْفَلْجُ بِالْحُجَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنُوا لَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: قَدْ أَتَيْتَ بِمَا لَا قُدْرَةَ لَنَا عَلَيْهِ؛ فَكَمَا لَا يَصِحُّ مِنْ أَعْمًى مُعَارَضَةُ الْمُبْصِرِ فِي النَّظَرِ لَا يَحْسُنُ مِنَ الْبَصِيرِ أَنْ يَقُولَ: غَلَبْتُكَ أَيُّهَا الْأَعْمَى بِنَظَرِي؛ فَإِنَّ لِلْأَعْمَى أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا تَتِمُّ لَكَ الْغَلَبَةُ لَوْ كُنْتُ أَنْظُرُ وَكَانَ نَظَرُكَ أَقْوَى مِنْ نَظَرِي؛ فَأَمَّا إِذَا فُقِدَ أَصْلُ النَّظَرِ فَكَيْفَ تَصِحُّ مَعْنَى الْمُعَارَضَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ شَيْئًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَأَمْثَالِهِ، فَكَيْفَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ؟. قُلْتُ: هَذَا السُّؤَالُ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّ أَسَالِيبَ الْأَنْبِيَاءِ تَقَعُ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِ غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَجْزَ الْعَرَبِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ إِنَّمَا كَانَتْ لِصَرْفِ دَعَاوِيهِمْ، مَعَ أَنَّ الْمُعَارَضَةَ كَانَتْ مَقْدُورَةً لَهُمْ. قُلْتُ: قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا أَرَاهُ حَقًّا، وَيَنْدَفِعُ السُّؤَالُ الْمَذْكُورُ. وَإِنْ كَانَ الْإِعْجَازُ فِي الْقُرْآنِ بِأُسْلُوبِهِ الْخَاصِّ بِهِ؛ إِلَّا أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: بِأَنَّ الْمُعْجِزَ فِيهِ هُوَ الصَّرْفَةُ مَذْهَبُهُمْ أَنَّ جَمِيعَ أَسَالِيبِهِ جَمِيعًا لَيْسَ عَلَى نَهْجِ أَسَالِيبِهِمْ؛ وَلَكِنْ شَارَكَتْ أَسَالِيبَهُمْ فِي أَشْيَاءَ: مِنْهَا: أَنَّهُ بِلُغَتِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ آحَادَ الْكَلِمَاتِ قَدْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهُ فِي خَطِّهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ، وَلَكِنْ تَمْتَازُ بِأُمُورٍ أُخَرَ؛ مِنْهَا غَرَابَةُ نَظْمِهِ الْخَاصِّ الَّذِي لَيْسَ مُشَابِهًا لِأَجْزَاءِ الشِّعْرِ وَأَوْزَانِهِ وَهَزَجِهِ وَرَجَزِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِهِ؛ فَأَمَّا تَوَالِي نَظْمِهِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، بِأَنْ يَأْتِيَ بِالْأَفْصَحِ وَالْأَمْلَحِ؛ فَهَذَا مِمَّا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ لِكَلَامِهِمْ؛ فَبِذَلِكَ امْتَازَ هَذَا الْمَذْهَبُ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ كَانَ جَمِيعُهُ مَقْدُورًا لَهُمْ، وَإِنَّمَا صُرِفَتْ دَوَاعِيهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ. انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَسَالِيبِهِمْ أَلْبَتَّةَ فَيَبْقَى السُّؤَالُ بِحَالِهِ.
ذَكَرَ ابْنُ أَبِي الْحَدِيدِ: اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْفَصِيحِ وَالْأَفْصَحِ، وَالرَّشِيقِ وَالْأَرْشَقِ، وَالْجَلِيِّ وَالْأَجْلَى، وَالْعَلِيِّ وَالْأَعْلَى مِنَ الْكَلَامِ أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالذَّوْقِ، وَلَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الدَّلَالَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ جَارِيَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا بَيْضَاءُ مُشْرَبَةٌ حُمْرَةً، دَقِيقَةُ الشَّفَتَيْنِ، نَقِيَّةُ الشَّعْرِ، كَحْلَاءُ الْعَيْنِ، أَسِيلَةُ الْخَدِّ، دَقِيقَةُ الْأَنْفِ، مُعْتَدِلَةُ الْقَامَةِ، وَالْأُخْرَى دُونَهَا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ وَالْمَحَاسِنِ؛ لَكِنَّهَا أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَالْقُلُوبِ مِنْهَا، وَأَلْيَقُ وَأَمْلَحُ، وَلَا يُدْرَى لِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ بِالذَّوْقِ وَالْمُشَاهَدَةِ يُعْرَفُ، وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ. وَهَكَذَا الْكَلَامُ؛ نَعَمْ يَبْقَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ أَنَّ حُسْنَ الْوُجُوهِ وَمَلَاحَتَهَا، وَتَفْضِيلَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ يُدْرِكُهُ كُلُّ مَنْ لَهُ عَيْنٌ صَحِيحَةٌ؛ وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلَا يَعْرِفُهُ إِلَّا بِالذَّوْقِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ اشْتَغَلَ بِالنَّحْوِ أَوْ بِاللُّغَةِ أَوْ بِالْفِقْهِ كَانَ مَنْ أَهْلِ الذَّوْقِ، وَمِمَّنْ يَصْلُحُ لِانْتِقَادِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أَهْلُ الذَّوْقِ هُمُ الَّذِينَ اشْتَغَلُوا بِعِلْمِ الْبَيَانِ وَرَاضُوا أَنْفُسَهُمْ بِالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ وَالْكِتَابَةِ وَالشِّعْرِ، وَصَارَتْ لَهُمْ بِذَلِكَ دُرْبَةٌ وَمَلَكَةٌ تَامَّةٌ؛ فَإِلَى أُولَئِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ فِي مَعْرِفَةِ الْكَلَامِ، وَفَضْلِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ.
لَا خِلَافَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي أَصْلِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَأَمَّا فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، فَعِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ، أَيْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ حَاصِلٌ أَنَّ الْعَادَةَ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، وَأَنَّهُ الْهَادِي لِلْخَلْقِ إِلَى الْحَقِّ، الْمُعْجِزُ الْبَاقِي عَلَى صَفَحَاتِ الدَّهْرِ، الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمِ، فَمُسْتَحِيلٌ أَلَّا يَكُونَ مُتَوَاتِرًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. إِذِ الدَّوَاعِي تَتَوَافَرُ عَلَى نَقْلِهِ عَلَى وَجْهِ التَّوَاتُرِ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الْحِجْرِ: 9) وَالْحِفْظُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالتَّوَاتُرِ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (الْمَائِدَةِ: 67)، وَالْبَلَاغُ الْعَامُّ إِنَّمَا هُوَ بِالتَّوَاتُرِ فَمَا لَمْ يَتَوَاتَرْ مِمَّا نُقِلَ آحَادًا نَقْطَعُ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ التَّوَاتُرَ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ بِحَسْبِ أَصْلِهِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مَحَلِّهِ وَوَضْعِهِ وَتَرْتِيبِهِ، بَلْ يَكْثُرُ فِيهَا نَقْلُ الْآحَادِ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ صُنْعُ الشَّافِعِيِّ فِي إِثْبَاتِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. وَرَدَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّابِقَ يَقْتَضِي التَّوَاتُرَ فِي الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ لَجَازَ سُقُوطُ كَثِيرٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُكَرَّرِ؛ وَثُبُوتُ كَثِيرٍ مِمَّا لَيْسَ بِقُرْآنٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نَشْتَرِطِ التَّوَاتُرَ فِي الْمَحَلِّ جَازَ أَلَّا يَتَوَاتَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَرِّرَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُرْآنِ، مِثْلُ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (الرَّحْمَنِ: 13)، وَ{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} (الْمُرْسَلَاتِ: 15). وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَتَوَاتَرْ بَعْضُ الْقُرْآنِ بِحَسْبِ الْمَحَلِّ جَازَ إِثْبَاتُ ذَلِكَ الْبَعْضِ فِي الْمَوْضِعِ بِنَقْلِ الْآحَادِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ ": ذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى إِثْبَاتِ قُرْآنٍ حُكْمًا لَا عِلْمًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، وَكَرِهَ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ، وَامْتَنَعُوا مِنْهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّهُ يَسُوغُ إِعْمَالُ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ قِرَاءَةٍ، وَأَوْجُهٍ وَأَحْرُفٍ، إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْجَهُ صَوَابًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَهَا، بِخِلَافِ مُوجَبِ رَأْيِ الْقِيَاسِيِّينَ، وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَأَبَى ذَلِكَ أَهْلُ الْحَقِّ وَأَنْكَرُوهُ، وَخَطَّئُوا مَنْ قَالَ بِذَلِكَ، وَصَارَ إِلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ طَعْنَ الطَّاعِنِينَ، وَاخْتِلَافَ الضَّالِّينَ، وَلَيْسَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ وَالْقَطْعِ عَلَى فُنُونِهِ بِأَلَّا يُخَالِفَ فِيهِ مُخَالِفٌ؛ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَجِيئُهُ عَنْ قَوْمٍ بِهِمْ ثَبَتَ التَّوَاتُرُ، وَتَقُومُ الْحُجَّةُ، سَوَاءٌ اتُّفِقَ عَلَى نَقْلِهِمْ أَوِ اخْتُلِفَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ النَّقْلُ إِذَا ظَهَرَ وَاسْتَفَاضَ، وَاتُّفِقَ عَلَيْهِ إِذَا حَدَثَ خِلَافٌ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلُ. وَبِذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ الْمُلْحِدِينَ فِي الْقُرْآنِ؛ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِ الْقُرْآنِ وَحِفْظِهِ وَصِيَانَتِهِ مِنَ التَّغْيِيرِ، وَنَقْضِ مَطَاعِنِ الرَّافِضَةِ فِيهِ مِنْ دَعْوَى الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الْحِجْرِ: 9) وَقَوْلُهُ: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (الْقِيَامَةِ: 17) وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ حِفْظُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لِلْعَمَلِ بِهِ وَحِرَاسَتُهُ مِنْ وُجُوهِ الْغَلَطِ وَالتَّخْلِيطِ، وَذَلِكَ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَى صِحَّةِ نَقْلِ مُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ وَسَلَامَتِهِ.
وَالْمُعَوِّذَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ وَاسْتِفَاضَتُهُمَا كَاسْتِفَاضَةِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِقُرْآنٍ، وَلَا حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ حَكَّهُمَا وَأَسْقَطَهُمَا مِنْ مُصْحَفِهِ لِعِلَلٍ وَتَأْوِيلَاتٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَوْ زَيْدٍ، أَوْ عُثْمَانَ، أَوْ عَلِيٍّ، أَوْ وَاحِدٍ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ عِتْرَتِهِ جَحْدُ آيَةٍ أَوْ حَرْفٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَتَغْيِيرُهُ أَوْ قِرَاءَتُهُ عَلَى خِلَافِ الْوَجْهِ الْمَرْسُومِ فِي مُصْحَفِ الْجَمَاعَةِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ، وَلَا يُسْمَعُ، بَلْ لَا تَصْلُحُ إِضَافَتُهُ إِلَى أَدْنَى الْمُؤْمِنِينَ فِي عَصْرِنَا، فَضْلًا عَنْ إِضَافَتِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّ كَلَامَ الْقُنُوتِ الْمَرْوِيَّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ لَمْ تَقُمْ حُجَّةٌ بِأَنَّهُ قُرْآنٌ مُنَزَّلٌ؛ بَلْ هُوَ ضَرْبٌ مِنَ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ قُرْآنًا لَنُقِلَ نَقْلَ الْقُرْآنِ، وَحَصُلَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ كَلَامٌ كَانَ قُرْآنًا مُنَزَّلًا ثُمَّ نُسِخَ وَأُبِيحَ الدُّعَاءُ بِهِ، وَخُلِطَ بِكَلَامٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ فِي مُصْحَفِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي مُصْحَفِهِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ؛ مِنْ دُعَاءٍ وَتَأْوِيلٍ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْهَا شَيْئًا كَفَرَ؛ وَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُحَلَّى ": هَذَا كَذِبٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْضُوعٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ عَنْهُ قِرَاءَةُ عَاصِمٍ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْهُ، وَفِيهَا الْمُعَوِّذَتَانِ وَالْفَاتِحَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ ": لَمْ يُنْكِرْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ وَالْفَاتِحَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ إِثْبَاتَهُمَا فِي الْمُصْحَفِ وَإِثْبَاتَ الْحَمْدِ، لِأَنَّهُ كَانَتِ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَلَّا يُثْبِتَ إِلَّا مَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِهِ وَكَتْبِهِ، وَلَمْ نَجِدْهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَلَا سُمِعَ أَمْرُهُ بِهِ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ مِنْهُ، وَلَيْسَ جَحْدًا لِكَوْنِهِمَا قُرْآنًا. وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْ زِرٍّ: قُلْنَا لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفِهِ الْمُعَوِّذَتَيْنِ، فَقَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ لِي جِبْرِيلُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (الْفَلَقِ: 1) فَقُلْتُهَا، وَقَالَ لِي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (النَّاسِ: 1) فَقُلْتُهَا، فَنَحْنُ نَقُولُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ أَبَدًا مُتَعَاضِدَانِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ مَدَارِجِ الْحِكْمَةِ؛ حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُخَصِّصُ عُمُومَ الْآخَرِ، وَيُبَيِّنُ إِجْمَالَهُ. ثُمَّ مِنْهُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمَعَهُ مَا يَغْمُضُ، وَقَدِ اعْتَنَى بِإِفْرَادِ ذَلِكَ بِالتَّصْنِيفِ: الْإِمَامُ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بَرَّجَانَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِـ " الْإِرْشَادِ "، وَقَالَ: مَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ، قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (الْأَنْعَامِ: 38). أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ: لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ فِي نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ الرَّجْمُ. وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الرَّجْمَ فِيهِ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} (النُّورِ: 8). وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذِكْرِ الْعَذَابِ، وَتَفْسِيرِ هَذَا الْمُجْمَلِ، فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ وَأَمْرِهِ بِهِ؛ وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الْحَشْرِ: 7) وَقَوْلِهِ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النِّسَاءِ: 80). وَهَكَذَا حُكْمُ جَمِيعِ قَضَائِهِ، وَحُكْمُهُ عَلَى طُرُقِهِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ، وَيَبْلُغُ مِنْهُ الرَّاغِبُ فِيهِ حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ، وَمُقَدِّرُ الْقِسَمِ. وَهَذَا الْبَيَانُ مِنَ الْعِلْمِ جَلِيلٌ، وَحَظُّهُ مِنَ الْيَقِينِ جَزِيلٌ، وَقَدْ نَبَّهَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ. مِنْهَا: حِينَ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ: فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا أُطْلِعْتُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السَّجْدَةِ: 17). وَمِنْهَا: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَا نَتَّكِلُ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (اللَّيْلِ: 5- 10). وَوَصَفَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: فِيهَا شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ، وَلَا يَقْطَعُهَا. ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} (الْوَاقِعَةِ: 30). فَأَعْلَمَهُمْ مَوَاضِعَ حَدِيثِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مِصْدَاقِ خِطَابِهِ مِنَ الْكِتَابِ، لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ طَلَبًا لِلْيَقِينِ، وَلِتَسْتَبِينَ لَهُمُ السَّبِيلُ، حِرْصًا مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمُ الِارْتِيَابَ، وَأَنْ يَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ. ثُمَّ بَدَأَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)، وَقَالَ: مَوْضِعُهُ نَصًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (الْإِسْرَاءِ: 18) إِلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 19). وَنَظِيرُهَا فِي هُودٍ (الْآيَةَ: 15) وَالشُّورَى (الْآيَةَ: 20). وَمَوْضِعُ التَّصْرِيحِ بِهِ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 225) وَ{بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (الْمَائِدَةِ: 89). وَأَمَّا التَّعْرِيضُ فَكَثِيرٌ، مِثْلُ قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النِّسَاءِ: 139)، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فَاطِرٍ: 10) قَدْ عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الِاعْتِزَازَ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى طَلَبِ الْعِزَّةِ؛ فَمُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ. فَمَعْنَى الْآيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: بَلِّغْ هَؤُلَاءِ الْمُتَّخِذِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنِ ابْتِغَاءِ الْعِزَّةِ بِهِمْ، أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوا مَوَاضِعَهَا وَطَلَبُوهَا فِي غَيْرِ مَطْلَبِهَا، فَإِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي طَلَبِهَا فَلْيُوَالُوا اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ، وَلْيُوَالُوا مَنْ وَالَاهُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (الْمُنَافِقُونَ: 8). فَكَانَ ظَاهِرُ آيَةِ النِّسَاءِ تَعْرِيضًا لِظَاهِرِ آيَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَظَاهِرُ آيَةِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ تَعْرِيضًا بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جِبْرِيلَ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، بَيَّنَ فِيهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْحَقِّ وَالْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ هِيَ الْإِسْلَامُ، وَأَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ هُوَ الْإِيمَانُ، وَهُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مَسْنَدِهِ ": الْإِسْلَامُ ظَاهِرٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ مَوْضِعُهُ مِنَ الْقُرْآنِ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} (آلِ عِمْرَانَ: 83) وَقَوْلُهُ: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} (الْمُجَادَلَةِ: 22) وَنَظَائِرُهَا: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (الْمُجَادَلَةِ: 22) قَالَ: وَبَنَيْتُ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ عَلَى الصِّفَاتِ الْعُلْيَا صِفَاتِ اللَّهِ- تَعَالَى ظُهُورُهَا- مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى: اسْمِ السَّلَامِ، وَاسْمِ الْمُؤْمِنِ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، فِي قَوْلِهِ: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (التَّوْبَةِ: 91). وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ، فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} (الْأَنْعَامِ: 82) وَهُوَ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصَّافَّاتِ: 35) فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوا النَّارَ مِنْ أَجْلِ اسْتِكْبَارِهِمْ وَإِبَائِهِمْ مِنْ قَوْلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُمْ إِذَا قَالُوهَا مُخْلِصِينَ بِهَا حُرِّمُوا عَلَى النَّارِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} (الذَّارِيَاتِ: 24) وَقَوْلِهِ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (النِّسَاءِ: 36) وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ كَلِمَاتٍ جَمَعْنَ حُسْنَ الصُّحْبَةِ لِلْخَلْقِ؛ لِأَنَّ مَنْ كَفَّ شَرَّهُ وَأَذَاهُ، وَقَالَ خَيْرًا أَوْ صَمَتَ عَنِ الشَّرِّ وَأَفْضَلَ عَلَى جَارِهِ، وَأَكْرَمَ ضَيْفَهُ، فَقَدْ نَجَا مِنَ النَّارِ، وَدَخَلَ الْجَنَّةَ إِذَا كَانَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَسَبَقَتْ لَهُ الْحُسْنَى، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ، وَالْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا؛ وَلِهَذَا قِيلَ: لَا يُغْرَنَّكُمْ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ. وَقَوْلُهُ: رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى} الْآيَةَ (الْأَنْعَامِ: 75 وَ 76) فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّاظِرَ فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ضُرُوبِ الِامْتِحَانِ، وَأَنَّ الْهِدَايَةَ يَمْنَحُهَا اللَّهُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَ التَّبَرِّي مِنْهَا وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الصَّافَّاتِ: 99) وَقَالَ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (مَرْيَمَ: 49) وَطُلُوعُ الْكَوَاكِبِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ وَمِنْ هُنَاكَ إِقْبَالُهَا، وَذَلِكَ أَشْرَفُ لَهَا وَأَكْبَرُ لِشَأْنِهَا عِنْدَ الْمَفْتُونِينَ، وَغُرُوبُهَا إِدْبَارُهَا، وَطُلُوعُهَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِيُزَيِّنَهَا لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} (النَّمْلِ: 24) وَلِمَا كَانَ فِي مَطْلَعِ النَّيِّرَاتِ مِنَ الْعِبَرِ بِطُلُوعِهَا مِنْ هُنَاكَ وَظُهُورِهَا- عَظُمَتِ الْمِحْنَةُ بِهِنَّ، وَلِمَا فِي الْغُرُوبِ مِنْ عَدَمِ تِلْكَ الْعِلَّةِ الَّتِي تَتَبَيَّنُ هُنَاكَ بِتَزْيِينِ الْعَدُوِّ لَهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: وَتَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ. وَلِأَجْلِ مَا بَيْنَ مَعْنَى الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ كَانَ بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحًا مِنْ جِهَتِهِ إِلَى يَوْمِ تَطْلُعُ الشَّمْسُ مِنْهُ، أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} (الْكَهْفِ: 90) أَيْ وَقَعَتْ عُقُولُهُمْ عَلَيْهَا، وَحُجِبَتْ بِهَا عَنْ حَالَتِهَا، مَعَ قَوْلِهِ: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ} (فُصِّلَتْ: 37). وَفِي قَوْلِهِ عِنْدَ طُلُوعِهَا: {هَذَا رَبِّي} (الْأَنْعَامِ: 76) وَعِنْدَ غُرُوبِهَا: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} (الْأَنْعَامِ: 76)، {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} (الْأَنْعَامِ: 77) مَا يُبَيِّنُ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: رَأْسُ الْفِتْنَةِ وَالْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ، وَإِنَّ بَابَ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِبِ. وَمِنْ ذَلِكَ بَدْءُ الْوَحْيِ فِي قَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ-: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} (النَّحْلِ: 1) إِلَى قَوْلِهِ: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (النَّحْلِ: 2). وَقَوْلِ خَدِيجَةَ: وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} (الْأَعْرَافِ: 134) وَقَوْلِهِ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (الصَّافَّاتِ: 143) وَفِي هَذَا بَيَّنَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَ الْغَارِ الثَّلَاثَةَ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لِيَدْعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِهِ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُفَرِّجَ عَنَّا. وَقَوْلِ وَرَقَةَ: يَا لَيْتَنِي حَيٌّ إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ إِلَخْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} (الْأَعْرَافِ: 88) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} (إِبْرَاهِيمَ: 13). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ " مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} (الذَّارِيَاتِ: 52 وَ 53) وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْمِعْرَاجِ،........ مِصْدَاقُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ وَفِي صَدْرِ سُورَةِ النَّجْمِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (النَّحْلِ: 123). وَبِتَصْدِيقِ كَلِمَةِ اللَّهِ، اتَّبَعَهُ كَوْنًا وَمِلَّةً، وَهَكَذَا حَالُهُ حَيْثُ جَاءَتْ صِدْقًا وَعَدْلًا فَتَطَلَّبْ صِدْقَ كَلِمَاتِهِ بِتَرْدَادِ تِلَاوَتِكَ لِكِتَابِهِ، وَنَظَرِكَ فِي مَصْنُوعَاتِهِ، فَهَذَا هُوَ قَصْدُ سَبِيلِ الْمُتَّقِينَ، وَأَرْفَعُ مَرَاتِبِ الْإِيمَانِ، قَالَ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (الْأَعْرَافِ: 158) وَقَالَ لِزَكَرِيَّا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 39) وَلَمَّا كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَسْمَى كَلِمَاتِهِ لَمْ يَأْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَنَبٍ لِطَهَارَتِهِ وَزَكَاتِهِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ. فِي قَوْلِهِ: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (الْبَقَرَةِ: 255). وَقَوْلُهُ: وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ. مِنْ قَوْلِهِ: الْقَيُّومُ (الْبَقَرَةِ: 255) وَفَسَّرَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آلِ عِمْرَانَ: 26). وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ وَقَالَ: الْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الْأَنْعَامِ: 160)، فَهَذَا رَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرِ الْعَامِ، وَيَبْقَى شَهْرَانِ دَاخِلَانِ فِي كَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ. قُلْتُ: قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْجُمُعَةِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْآيَةِ: 9) وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الصَّوْمِ: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 184) أَشَارَ إِلَى سِرٍّ فِي الْجُمُعَةِ، وَفَضْلٍ عَظِيمٍ، أَرَاهُمَا الزِّيَارَةَ وَالرُّؤْيَةَ فِي الْجَنَّةِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَكَذَلِكَ أَشَارَ فِي الصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الْبَقَرَةِ: 184) إِلَى سِرٍّ فِي الصِّيَامِ، وَهُوَ حُسْنُ عَاقِبَتِهِ وَجَزِيلُ عَائِدَتِهِ، فَنَبَّهَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: لَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَقَوْلُهُ وَقَدْ رَأَى أَعْقَابَهُمْ تَلُوحُ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ فِي مَفْهُومِ {فَاغْسِلُوا} (الْمَائِدَةِ: 6) فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النَّحْلِ: 44) وَغَسَلَ هُوَ قَدَمَيْهِ وَعَمَّهُمَا غُسْلًا. وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النُّورِ: 63) مَعَ قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (النِّسَاءِ: 14). وَقَوْلُهُ: إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ كُلِّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ الْحَدِيثَ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) أَيْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الْمَائِدَةِ: 6) أَيْ تَرْقَوْنَ فِي دَرَجَةِ الشُّكْرِ فَيَتَقَبَّلُ أَعْمَالَكُمُ الْقَبُولَ الْأَعْلَى، وَلِهَذَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَكَانَ مَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهُ نَافِلَةً فَلَهُ الشُّكْرُ، وَالشُّكْرُ دَرَجَاتٌ؛ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِأَنْ يَبْقَى مِنَ الْعَمَلِ بَعْدَ الْكَفَّارَةِ فَضْلٌ، وَهُوَ النَّافِلَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، لِمَنْ قَلَّتْ ذُنُوبُهُ، وَكَثُرَتْ صَالِحَاتُهُ، فَذَلِكَ الشُّكْرُ، وَمَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَقَلَّتْ صَالِحَاتِهِ فَأَكَلَتْهَا الْكَفَّارَاتُ، فَذَلِكَ الْمَرْجُوُّ لَهُ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَمَنْ زَادَتْ ذُنُوبُهُ فَلَمْ تَقُمْ صَالِحَاتُهُ بِكَفَّارَةِ ذُنُوبِهِ، فَذَلِكَ الْمَخُوفُ عَلَيْهِ، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} (الْأَنْعَامِ: 80). قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنْتُمُ الْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} (الْحَدِيدِ: 12). وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءُ وَهَذَا كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الْمَائِدَةِ: 6) وَجَاءَتْ لَامُ كَيْ هَاهُنَا إِشْعَارًا وَوَعْدًا وَبِشَارَةً لَهُمْ بِنِعَمٍ أُخْرَى وَارِدَةٍ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّرَائِعِ لَمْ تَأْتِ بَعْدُ، وَلِذَلِكَ قَالَ يَوْمَ الْإِكْمَالِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (الْمَائِدَةِ: 3). وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْأَذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مِنْ قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} (آلِ عِمْرَانَ: 18).) وَتَكْرَارُهَا فِي قَوْلِهِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (آلِ عِمْرَانَ: 18). وَقَوْلُهُ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (الْفَتْحِ: 29)، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 144) مَعَ قَوْلِهِ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (النِّسَاءِ: 166) وَتَكْرَارُ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الْأَحْزَابِ: 41) وَالتَّنْبِيهُ أَوَّلُ الْكَثْرَةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَارَةٌ شُرِعَتْ لِلْإِعْلَامِ، فَتَكْرَارُهَا آكُدُ فِيمَا شُرِعَتْ لَهُ. وَأَمَّا إِسْرَارُهُ بِهِمَا- يَعْنِي بِالشَّهَادَتَيْنِ- فَمِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (الْأَعْرَافِ: 205) وَأَمَّا إِجْهَارُهُ بِهِمَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (الْجُمُعَةِ: 9) وَالنِّدَاءُ الْإِعْلَامُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِنِهَايَةِ الْجَهْرِ. وَقَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (الْمَائِدَةِ: 58)، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} (الْجُمُعَةِ: 9). وَقَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، فِي قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الْحَجِّ: 77). وَقَوْلُهُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فِي قَوْلِهِ: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذَّارِيَاتِ: 55)، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (الْأَنْفَالِ: 20). وَقَوْلُهُ: " اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ " مِنْ قَوْلِهِ: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الْبَقَرَةِ: 185). وَقَوْلُهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (الْقِتَالِ: 19) كَرَّرَهَا وَخَتَمَ بِهَا فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 198)، وَأَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَخَتَمَ بِمَا بَدَأَ بِهِ لِقَوْلِهِ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} (الْحَدِيدِ: 3). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا فِي قَوْلِهِ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الْأَنْعَامِ: 160). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فِي قَوْلِهِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 79)، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (الْمَائِدَةِ: 35). وَقَوْلُهُ: حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (النِّسَاءِ: 85). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ، كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِشَيْءٍ قَالَ الْمَلَكُ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلِهِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الْفَاتِحَةِ: 6) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، هَذَا دُعَاءٌ مَنْ يَأْتِي بِهِ لِنَفْسِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ: آمِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنَا حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (الْبَلَدِ: 1) يُرِيدُ مَكَّةَ، ثُمَّ قَالَ: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} (الْبَلَدِ: 2) يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَدِينَةَ، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِحُرْمَةِ الْبَلَدَيْنِ، حَيْثُ أَقْسَمَ بِهِمَا، وَتَكْرَارُهُ الْبَلَدَ مَرَّتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَجَعْلُ الِاسْمَيْنِ لِمَعْنَيَيْنِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَا لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَنْ يُسْتَعْمَلَ الْخِطَابُ فِي الْبَلَدَيْنِ أَوْلَى مِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي أَحَدِهِمَا؛ بِدَلِيلِ وُجُودِ الْحُرْمَةِ فِيهِمَا. وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الدَّجَّالِ. قُلْتُ: وَقَعَ سُؤَالٌ بَيْنَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ فِي أَنَّهُ: مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الدَّجَّالُ فِي الْقُرْآنِ؟! وَتَلَمَّحُوا فِي ذَلِكَ حُكْمًا، ثُمَّ رَأَيْتُ هَذَا الْإِمَامَ قَالَ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ تَعْرِيضًا بِقِصَّتِهِ فِي قِصَّةِ السَّامِرِيَّ، وَقَوْلُهُ- سُبْحَانَهُ-: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} (طه: 97) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} (الْإِسْرَاءِ: 4 وَ 5) فَذَكَرَ الْوَعْدَ الْأَوَّلَ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَرَّةَ الَّتِي لِبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْآخِرَةَ فَقَالَ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 7) الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} (الْإِسْرَاءِ: 8) وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى خُرُوجِ عِيسَى. وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (الْآيَةِ: 8) وَالدَّجَّالُ مِمَّا عَلَى الْأَرْضِ، وَلِهَذَا قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: مَنْ قَرَأَهَا بِعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ. وَهُوَ أَيْضًا فِي الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} (الْفَتْحِ: 29)، {خَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الْأَحْزَابِ: 40). وَمِنَ الْأَمْرِ بِمُجَاهَدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا، وَيَحْسِرُ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزَّلْزَلَةِ: 2) فَإِنَّ الْأَرْضَ تُلْقِي مَا فِيهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، حَتَّى يَكُونَ آخَرَ مَا تُلْقِي الْأَمْوَاتُ أَحْيَاءً. وَمِصْدَاقُهُ أَيْضًا فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النَّمْلِ: 25) فَتَوَجَّهَ الْقُرْآنُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا الْأَمْوَاتَ أَحْيَاءً، وَتَوَجَّهَ الْحَدِيثُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ إِخْرَاجِهَا كُنُوزَهَا وَمَعَادِنَهَا. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَتَّى تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} (يُونُسَ: 24) الْآيَةَ. وَذَلِكَ يَكُونُ عِنْدَ إِتْمَامِ كَلِمَةِ الْحَقِّ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} (مُحَمَّدٍ: 38) وَقَدْ تَوَلَّوْا، وَقَوْلُهُ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} (الْجُمُعَةِ: 3) يَوْمَئِذٍ تَظْهَرُ الْعَاقِبَةُ، وَيُلْقِي الْأَمْرُ بِجِرَانِهِ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى السَّاعَةِ، وَآيَةً عَلَى قُرْبِ الِانْقِرَاضِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَثَلِ الدُّنْيَا: إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (الْعَلَقِ: 6 وَ 7) وَقَوْلِهِ: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} (الْحَدِيدِ: 20). وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الْبَقَرَةِ: 183) إِلَى أَنَّ الصَّوْمَ يَنْتَهِي نَفْعُهُ إِلَى اكْتِسَابِ التَّقْوَى؛ وَلِذَلِكَ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِضَعْفِ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَتُغْلَقُ عَنْهُ أَبْوَابُ الْمَعَاصِي؛ وَهَى أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَتُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ الطَّاعَةِ وَالْقُرُبَاتِ، وَهِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّاتِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً مِنْ آثَارِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} (الْبَقَرَةِ: 187) وَمِنْ بَرَكَةِ حُضُورِهِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ نُزُولِهِ- جَلَّ وَعَلَا- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ، فَكَأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَبْتَغِي الْبَرَكَةَ فِي مَوْضِعِ خِطَابِ رَبِّهِ، وَفِي مَوْضِعِ حُضُورِهِ أَوْ ذِكْرِهِ، أَوِ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَمِنْ هُنَا وَقَعَ التَّعَبُّدُ بِاسْمِ الْمُبَارَكِ، وَاسْمِ الْقُدُّوسِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (الْبَقَرَةِ: 187) وَقَوْلُهُ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (الْبَقَرَةِ: 187) وَالْبَرَكَةُ فِي اتِّبَاعِ مَجَارِي خِطَابِهِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ حُكْمُهُ حُكْمُ إِبَاحَةٍ؛ كَمَا أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ لَا يُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ إِلَّا عَلَى فِطْرٍ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ السَّحُورَ إِلَى بُزُوغِ الْفَجْرِ ابْتِغَاءَ الْبَرَكَةِ فِي ذَلِكَ، وَالْخَيْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} (الشُّعَرَاءِ: 79) وَالْمَعْنَى بِمَا يَفْتَحُ اللَّهُ لِخَاصَّتِهِ مِنْ خَلْقِهِ الَّذِينَ لَا يَطْعَمُونَ، إِنَّمَا غِذَاؤُهُمُ التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ: إِنَّا لَمْ نَرُدُّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ، فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (الْمَائِدَةِ: 95) وَالْآكِلُ رَاضٍ وَالرَّاضِي شَرِيكٌ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: لَوْ أَنَّكُمْ تَدُومُونَ عَلَى مَا كُنْتُمْ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَلَكِنْ سَاعَةً وَسَاعَةً فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} (يُونُسَ: 12) وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (النَّحْلِ: 53 وَ 54). فَذَكَرَ تَعَالَى اللَّجَأَ إِلَيْهِ عِنْدَمَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ، وَهُوَ ذِكْرٌ صُورِيٌّ، فَلَوْ كَانَ الذِّكْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ، لَمْ تُفَارِقْهُمُ الْمَلَائِكَةُ السَّيَّاحُونَ الْمُلَازِمُونَ حَلَقَ الذِّكْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (الْأَنْبِيَاءِ: 20) وَلَوْ قَرَبُوا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا الْقُرْبَ لَبَدَتْ لَهُمْ عِيَانًا، وَلَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَجَمِيلِ الْأُلْفَةِ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} (الْجَاثِيَةِ: 21). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ عَذَابًا أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَبْعَثُونَ عَلَى أَعْمَالِهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الْأَنْفَالِ: 25). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} (النِّسَاءِ: 85) وَمَعَ قَوْلِهِ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النَّحْلِ: 25). وَقَوْلُهُ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} (الْعَنْكَبُوتِ: 13) مَعَ مَا جَاءَ مِنْ نَبَأِ ابْنَيْ آدَمَ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ: أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، وَلَا تُمْهِلْ حَتَّى {إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} وَالْحَدِيثُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ} (إِبْرَاهِيمَ: 31). وَقَوْلُهُ: الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (مُحَمَّدٍ: 38). وَقَدْ جَاءَ: أَنَّ الْيَدَ السُّفْلَى الْآخِذَةُ، وَالْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ، وَشَاهِدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (الْحَدِيدِ: 11). وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِكَايَةً عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: مَنْ يُقْرِضُ غَيْرَ عَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَطِيَّةَ مِنْ أَيْدِينَا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى مَنْ يَضَعُ فِيهَا حَقًّا وَجَبَ عَلَيْهَا، وَيُطَهِّرُهَا بِذَلِكَ مِنْ ذُنُوبِهَا وَأَنْجَاسِهَا، وَلَوْلَا الْيَدُ الْآخِذَةُ مَا قَدَرَ صَاحِبُ الْمَالِ عَلَى صَدَقَةٍ. وَقَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الْبَقَرَةِ: 163) إِلَى قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الْبَقَرَةِ: 164). وَقَوْلُهُ: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الْأَنْعَامِ: 65) وَقَوْلِهِ: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الْحَشْرِ: 14) وَوَصَفَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الْإِسْرَاءِ: 44) ثُمَّ أَعْلَمَ- سُبْحَانَهُ- سِعَةَ مَغْفِرَتِهِ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الَّذِينَ لَا يُسَبِّحُونَهُ وَلَا يَفْقَهُونَ تَسْبِيحَ الْمُسَبِّحِينَ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بِالْعِلَّةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا حُرِمُوا الْفِقْهَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ خَتْمُ عُقُوبَةِ الْإِعْرَاضِ بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (الْإِسْرَاءِ: 45 وَ 46) الْآيَةَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ كُلُّهُ لَمْ يُنْزِلْهُ تَعَالَى إِلَّا لِيُفَهِّمَهُ، وَيُعْلَمَ وَيُفَهَّمَ، وَلِذَلِكَ خَاطَبَ بِهِ أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ، وَالَّذِينَ يَعْلَمُونَ، وَالَّذِينَ يَفْقَهُونَ، وَالَّذِينَ يَتَفَكَّرُونَ، وَالَّذِينَ يَتَدَبَّرُونَ، لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ. وَكَذَلِكَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الدُّنْيَا إِلَّا مِثَالًا لِلْآخِرَةِ؛ فَمَنْ فَقِهَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُرَادَهُ مِنْهَا؛ فَقَدْ أَرَاحَ نَفْسَهُ وَأَجَمَّ فِكْرَهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَفِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفِقْهِ أَفْنَى أُولُو الْأَلْبَابِ أَعْمَارَهُمْ، وَفِي تَعْرِيفِهِ أَتْعَبُوا قُلُوبَهُمْ، وَوَاصَلُوا أَفْكَارَهُمْ. رَزَقَنَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ نُورًا نَمْشِي بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، وَفُرْقَانًا نُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الْمُتَشَابِهَاتِ.
وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِهِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: مَعَانِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ، تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ: الْمَعْنَى، وَالتَّفْسِيرِ، وَالتَّأْوِيلِ؛ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقَاصِدُ بِهَا مُتَقَارِبَةٌ. فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ الْقَصْدُ وَالْمُرَادُ؛ يُقَالُ: عَنَيْتُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَذَا، أَيْ قَصَدْتُ وَعَمَدْتُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِظْهَارِ، يُقَالُ: عَنَتِ الْقِرْبَةُ إِذَا لَمْ تَحْفَظِ الْمَاءَ بَلْ أَظْهَرَتْهُ، وَمِنْهُ عُنْوَانُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَنَتِ الْأَرْضُ بِنَبَاتٍ حَسَنٍ، إِذَا أَنْبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا. قُلْتُ: وَحَيْثُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي، فَمُرَادُهُمْ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَغَيْرِهِمْ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ: أَكْبَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. قَالُوا: كَذَا وَكَذَا، وَ " مَعَانِي الْقُرْآنِ " لِلزَّجَّاجِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ، وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَانِي، فَمُرَادُهُمْ بِهِمْ مُصَنِّفُو الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ. وَأَمَّا التَّفْسِيرُ مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْكَشْفِ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ التَّفْسِرَةِ؛ وَهِيَ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ، فَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ بِالنَّظَرِ فِيهِ يَكْشِفُ عَنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ، فَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ، يَكْشِفُ عَنْ شَأْنِ الْآيَةِ وَقَصَصِهَا وَمَعْنَاهَا، وَالسَّبَبِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ، وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ؛ لِأَنَّ مَصْدَرَ " فَعَّلَ " جَاءَ أَيْضًا عَلَى " تَفْعِلَةٍ "، نَحْوُ: جَرَّبَ تَجْرِبَةً، وَكَرَّمَ تَكْرِمَةً. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: قَوْلُ الْعَرَبِ فَسَرْتُ الدَّابَّةَ وَفَسَّرْتُهَا، إِذَا رَكَضْتَهَا مَحْصُورَةً لِيَنْطَلِقَ حَصَرُهَا؛ وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى الْكَشْفِ أَيْضًا. فَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ، وَإِطْلَاقٌ لِلْمُحْتَبِسِ عَنِ الْفَهْمِ بِهِ، وَيُقَالُ: فَسَّرْتُ الشَّيْءَ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا، وَفَسَرْتُهُ أَفْسِرُهُ فَسْرًا، وَالْمَزِيدُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَبِمَصْدَرِ الثَّانِي مِنْهَا سَمَّى أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي كُتُبَهُ الشَّارِحَةَ (الْفَسْرَ). وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ " سَفَرَ " وَمَعْنَاهُ أَيْضًا الْكَشْفُ؛ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ سُفُورًا، إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا عَنْ وَجْهِهَا، وَهِيَ سَافِرَةٌ، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ: أَضَاءَ، وَسَافَرَ فُلَانٌ؛ وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ؛ لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ (الْبَقَرَةِ: 49)، {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} (يُوسُفَ: 23) فَكَأَنَّهُ يُتْبِعُ سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ، وَآيَةً بَعْدَ أُخْرَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} (الْفُرْقَانِ: 33) أَيْ تَفْصِيلًا. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَسْرُ وَالسَّفَرُ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا كَتَقَارُبِ لَفْظَيْهِمَا، لَكِنْ جُعِلَ الْفَسْرُ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْبَوْلُ: تَفْسِرَةٌ، وَسُمِّيَ بِهَا قَارُورَةُ الْمَاءِ، وَجُعِلَ السَّفَرُ لِإِبْرَازِ الْأَعْيَانِ لِلْأَبْصَارِ، فَقِيلَ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا، وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عِلْمُ نُزُولِ الْآيَةِ وَسُورَتِهَا وَأَقَاصِيصِهَا، وَالْإِشَارَاتِ النَّازِلَةِ فِيهَا، ثُمَّ تَرْتِيبِ مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا، وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا، وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، وَخَاصِّهَا وَعَامِّهَا، وَمُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا، وَمُجْمَلِهَا وَمُفَسَّرِهَا. وَزَادَ فِيهَا قَوْمٌ فَقَالُوا: عِلْمُ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا، وَوَعْدِهَا وَوَعِيدِهَا، وَأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا، وَعِبَرِهَا وَأَمْثَالِهَا، وَهَذَا الَّذِي مُنِعَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ؛ مَعْنَاهُ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْأَوْلِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا تَأْوِيلُ هَذَا الْكَلَامِ؟ أَيْ: إِلَى مَا تَؤُولُ الْعَاقِبَةُ فِي الْمُرَادِ بِهِ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (الْأَعْرَافِ: 53) أَيْ تُكْشَفُ عَاقِبَتُهُ، وَيُقَالُ: آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا، أَيْ صَارَ إِلَيْهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (الْكَهْفِ: 82). وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَآلِ، وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ، وَقَدْ أَوَّلْتُهُ فَآلَ، أَيْ صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ، فَكَأَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي. وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّفْسِيرِ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْإِيَالَةِ، وَهَى السِّيَاسَةُ، فَكَأَنَّ الْمُؤَوِّلَ لِلْكَلَامِ يُسَوِّي الْكَلَامَ، وَيَضَعُ الْمَعْنَى فِيهِ مَوْضِعَهُ.
ثُمَّ قِيلَ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاحِدٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَالصَّحِيحُ تَغَايُرُهُمَا. وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: التَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ، وَرَدُّ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ. قَالَ الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأَوُّلِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَلْفَاظِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، وَأَكْثَرُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا، وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ كَشْفُ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَبَيَانُ الْمُرَادِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَغَيْرِهِ، وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ، وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُهُ فِي الْجُمَلِ. وَالتَّفْسِيرُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ، كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ، أَوْ فِي وَجِيزٍ مُبَيَّنٍ بِشَرْحٍ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (الْبَقَرَةِ: 43). وَإِمَّا فِي كَلَامٍ مُضَمَّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا، كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (التَّوْبَةِ: 37) وَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (الْبَقَرَةِ: 189) وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا، نَحْوُ الْكُفْرِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ، وَتَارَةً فِي جُحُودِ الْبَارِئِ خَاصَّةً، وَالْإِيمَانُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُطْلَقِ تَارَةً، وَفِي تَصْدِيقِ الْحَقِّ تَارَةً. وَإِمَّا فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ كَشْفُ مَا انْغَلَقَ مِنَ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا قَالَ الْبَجَلِيُّ: التَّفْسِيرُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَةِ، وَالتَّأْوِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالدِّرَايَةِ؛ وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ- تَعَالَى. قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي التَّفْسِيرِ الِاتِّبَاعُ وَالسَّمَاعُ؛ وَإِنَّمَا الِاسْتِنْبَاطُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأْوِيلِ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ. وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ؛ فَإِنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ، وَإِنِ اسْتَوَيَا سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مُجَازٌ، كَلَفْظَةِ " الْمَسِّ " فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَنَافَيَا، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا التَّوَقُّفُ. وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَعْنًى مُوَافِقٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ. قَالُوا: وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ، وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (الْبَقَرَةِ: 195) قِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ فِي الْحَرْبِ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَقِيلَ: الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُنْفِقُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ. وَقِيلَ: الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ؛ وَلِكُلٍّ مِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَعْنًى. وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَنْدُوبِينَ إِلَى الْغَزْوِ، عِنْدَ قِيَامِ النَّفِيرِ: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (التَّوْبَةِ: 41). قِيلَ شُيُوخًا وَشَبَابًا وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، وَقِيلَ: عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ، وَقِيلَ: نُشَّاطًا وَغَيْرَ نُشَّاطٍ. وَقِيلَ: مَرْضَى وَأَصِحَّاءَ، وَكُلُّهَا سَائِغٌ جَائِزٌ؛ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الشَّبَابَ وَالْعُزَّابَ وَالنُّشَّاطَ وَالْأَصِحَّاءَ خِفَافٌ، وَضِدَّهُمْ ثِقَالٌ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (الْمَاعُونِ: 7) قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقِيلَ: الْعَارِيَّةُ، أَوِ الْمَاءُ، أَوِ النَّارُ، أَوِ الْكَلَأُ، أَوِ الرَّفْدُ، أَوِ الْمَغْرَفَةُ، وَكُلُّهَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ مَانِعَ الْكُلِّ آثِمٌ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الْحَجِّ: 11) فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْ لَا يَدُومُ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَيْ عَلَى شَكٍّ، وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى دِينَهِ، وَلَا تَسْتَقِيمُ الْبَصِيرَةُ فِيهِ. وَقِيلَ: فِي الْقُرْآنِ ثَلَاثُ آيَاتٌ، فِي كُلٍّ مِنْهَا مِائَةُ قَوْلٍ، قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (الْبَقَرَةِ: 152)، {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} (الْإِسْرَاءِ: 8) وَ{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرَّحْمَنِ: 60). فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجُهُ، بَلْ مَعْرِفَتُهُ وَاجِبَةٌ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 7). وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا سَائِغًا فِي اللُّغَةِ لَمْ يُبَيِّنْهُ- سُبْحَانَهُ، وَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ-: {وَالرَّاسِخُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 7) قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: إِنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا نَقَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَغَلَطٌ. فَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمُخَالِفُ لِلْآيَةِ وَالشَّرْعِ، حُكْمُهُ فَمَحْظُورٌ لِأَنَّهُ تَأْوِيلُ الْجَاهِلِينَ، مِثْلُ تَأْوِيلِ الرَّوَافِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} (الرَّحْمَنِ: 19) أَنَّهُمَا عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرَّحْمَنِ: 22) يَعْنِي الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. كَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (الْبَقَرَةِ: 205) إِنَّهُ مُعَاوِيَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ نَبَغَ فِي زَمَانِنَا مُفَسِّرُونَ لَوْ سُئِلُوا عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ لَا يُحْسِنُونَ الْقُرْآنَ تِلَاوَةً، وَلَا يَعْرِفُونَ مَعْنَى السُّورَةِ أَوِ الْآيَةِ، مَا عِنْدَهُمْ إِلَّا التَّشْنِيعُ عِنْدَ الْعَوَامِّ، وَالتَّكَثُّرُ عِنْدَ الطَّعَامِ، لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْحُطَامِ، أَعْفَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْكَدِّ وَالطَّلَبِ، وَقُلُوبَهُمْ مِنَ الْفِكْرِ وَالتَّعَبِ؛ لِاجْتِمَاعِ الْجُهَّالِ عَلَيْهِمْ، وَازْدِحَامِ ذَوِي الْأَغْفَالِ لَدَيْهِمْ، لَا يَكْفُونَ النَّاسَ مِنَ السُّؤَالِ، وَلَا يَأْنَفُونَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْجُهَّالِ، مُفْتَضِحُونَ عِنْدَ السَّبْرِ وَالذَّوَاقِ، زَائِغُونَ عَنِ الْعُلَمَاءِ عِنْدَ التَّلَاقِ، يُصَادِرُونَ النَّاسَ مُصَادَرَةَ السُّلْطَانِ، وَيَخْتَطِفُونَ مَا عِنْدَهُمُ اخْتِطَافَ السِّرْحَانِ، يَدْرُسُونَ بِاللَّيْلِ صَفْحًا، وَيَحْكُونَهُ بِالنَّهَارِ شَرْحًا، إِذَا سُئِلُوا غَضِبُوا، وَإِذَا نُفِّرُوا هَرَبُوا، الْقِحَةُ رَأْسُ مَالِهِمْ، وَالْخَرَقُ وَالطَّيْشُ خَيْرُ خِصَالِهِمْ، يَتَحَلَّوْنَ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، وَيَتَنَافَسُونَ فِيمَا يُرْذِلُهُمْ، الصِّيَانَةُ عَنْهُمْ بِمَعْزِلٍ، وَهُمْ مِنَ الْخَنَى وَالْجَهْلِ فِي جَوْفِ مَنْزِلٍ، وَقَدْ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَقَدْ قِيلَ: مَنْ تَحَلَّى بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ *** فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ وَجَرَى فِي السِّبَاقِ جَرْيَةَ سُكَّيْتٍ *** نَفَتْهُ الْجِيَادُ عِنْدَ الرِّهَانِ قَالَ: حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْحَاقَّةِ، فَقَالَ: الْحَاقَّةُ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَارُوا فِي الْمَجْلِسِ قَالُوا: كُنَّا فِي الْحَاقَّةِ. وَقَالَ آخَرُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ اقْلَعِي وَغِيضَ الْمَاءُ} (هُودٍ: 44) قَالَ: أَمَرَ الْأَرْضَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ، وَالسَّمَاءَ بِصَبِّ الْمَاءِ، وَكَأَنَّهُ عَلَى الْقَلْبِ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (التَّكْوِيرِ: 8) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَسْأَلُكُمْ عَنِ الْمَوْءُودَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُ فِي قَوْلِهِ: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (الْمُطَفِّفِينَ: 26) قَالَ: إِنَّهُمْ تَعِبُوا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ تَنَعَّمُوا. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ الرَّازِيَّ، يَقُولُ: أَفْوَاهُ الرِّجَالِ حَوَانِيتُهَا، وَأَسْنَانُهَا صَنَائِعُهَا، فَإِذَا فَتَحَ الرَّجُلُ بَابَ حَانُوتِهِ تَبَيَّنَ الْعَطَّارُ مِنَ الْبِيطَارِ، وَالتَّمَّارُ مِنَ الزَّمَّارِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى سُوءِ الزَّمَانِ، وَقِلَّةِ الْأَعْوَانِ.
كِتَابُ اللَّهِ بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَفَهْمُهُ دَقِيقٌ، لَا يَصِلُ إِلَى فَهْمِهِ إِلَّا مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْعُلُومِ، وَعَامَلَ اللَّهَ بِتَقْوَاهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَأَجَلُّهُ عِنْدَ مَوَاقِفَ الشُّبُهَاتِ. وَاللَّطَائِفُ وَالْحَقَائِقُ لَا يَفْهَمُهَا إِلَّا مَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، فَالْعِبَارَاتُ لِلْعُمُومِ وَهِيَ لِلسَّمْعِ، وَالْإِشَارَاتُ لِلْخُصُوصِ، وَهِيَ لِلْعَقْلِ، وَاللَّطَائِفُ لِلْأَوْلِيَاءِ، وَهِيَ الْمُشَاهَدَةُ، وَالْحَقَائِقُ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَهِيَ الِاسْتِسْلَامُ. وَلِكُلِّ وَصْفٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ، فَالظَّاهِرُ التِّلَاوَةُ، وَالْبَاطِنُ الْفَهْمُ، وَالْحَدُّ إِحْكَامُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْمَطْلَعُ- أَيِ الْإِشْرَاقِ- مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ؛ فَمَنْ فَهِمَ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ بِانَ لَهُ بَسْطُ الْمُوَازَنَةِ، وَظَهَرَ لَهُ حَالُ الْمُعَايِنَةِ. وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ. ثُمَّ فَوَائِدُهُ عَلَى قَدْرِ مَا يُؤَهِّلُ لَهُ سَمْعُهُ، فَمَنْ سَمِعَهُ مِنَ التَّالِي، فَفَائِدَتُهُ فِيهِ عِلْمُ إِحْكَامِهِ، وَمِنْ سَمِعَهُ كَأَنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَؤُهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِمَوْعِظَتِهِ وَتِبْيَانِ مُعْجِزَتِهِ، وَانْشِرَاحِ صَدْرِهِ بِلَطَائِفِ خِطَابِهِ، وَمَنْ سَمِعَهُ كَأَنَّمَا سَمْعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَقْرَؤُهُ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُشَاهِدُ فِي ذَلِكَ مُطَالَعَاتِ الْغُيُوبِ، وَالنُّطْقِ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ الْوُعُودِ، وَمَنْ سَمِعَ الْخِطَابَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَنِيَ عِنْدَهُ وَامَّحَتْ صِفَاتُهُ، وَصَارَ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ التَّحْقِيقِ عَنْ مُشَاهَدَةِ عِلْمِ الْيَقِينِ، وَعَيْنِ الْيَقِينِ، وَحَقِّ الْيَقِينِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنُ. قَالَ ابْنُ سَبُعٍ فِي " شِفَاءِ الصُّدُورِ ": هَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تَفْسِيرِ الظَّاهِرِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِكُلِّ آيَةٍ سِتُّونَ أَلْفَ فَهْمٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ فَهْمِهَا أَكْثَرُ. وَقَالَ آخَرُ: الْقُرْآنُ يَحْوِي سَبْعَةً وَسَبْعِينَ أَلْفَ عِلْمٍ وَمِائَتَيْ عِلْمٍ؛ إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ عِلْمٌ، ثُمَّ يَتَضَاعَفُ ذَلِكَ أَرْبَعَةً، إِذْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ، وَحَدٌّ وَمَطْلَعٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْعُلُومُ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ شَرْحُ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ تَدُلُّ عَلَى أَنْ فِهْمَ مَعَانِي الْقُرْآنِ مَجَالًا رَحْبًا، وَمُتَّسَعًا بَالِغًا، وَأَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لَيْسَ يَنْتَهِي الْإِدْرَاكُ فِيهِ بِالنَّقْلِ، وَالسَّمَاعُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ لِيَتَّقِيَ بِهِ مَوَاضِعَ الْغَلَطِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَّسِعُ الْفَهْمُ وَالِاسْتِنْبَاطُ، وَالْغَرَائِبُ الَّتِي لَا تُفْهَمُ إِلَّا بِاسْتِمَاعِ فُنُونٍ كَثِيرَةٍ. وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى جُمَلٍ مِنْهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى أَمْثَالِهَا، وَيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَاوُنُ بِحِفْظِ التَّفْسِيرِ الظَّاهِرِ أَوَّلًا، وَلَا مَطْمَعَ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْبَاطِنِ قَبْلَ إِحْكَامِ الظَّاهِرِ. وَمَنِ ادَّعَى فَهْمَ أَسْرَارِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُحْكِمِ التَّفْسِيرَ الظَّاهِرَ، فَهُوَ كَمَنِ ادَّعَى الْبُلُوغَ إِلَى صَدْرِ الْبَيْتِ قَبْلَ تَجَاوُزِ الْبَابِ، فَظَاهِرُ التَّفْسِيرِ يَجْرِي مَجْرَى تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا لِلْفَهْمِ، وَمَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ اسْتِمَاعِ كَثِيرٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَمَا كَانَ الرُّجُوعُ فِيهِ إِلَى لُغَتِهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوْ مَعْرِفَةِ أَكْثَرِهَا إِذِ الْغَرَضُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرِيقِ الْفَهْمِ لِيُفْتَحَ بَابُهُ، وَيَسْتَدِلُّ الْمُرِيدُ بِتِلْكَ الْمَعَانِي الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ فَهْمِ بَاطِنِ عِلْمِ الْقُرْآنِ وَظَاهَرِهِ؛ عَلَى أَنَّ فَهْمَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَا غَايَةَ لَهُ كَمَا لَا نِهَايَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ؛ فَأَمَّا الِاسْتِقْصَاءُ فَلَا مَطْمَعَ فِيهِ لِلْبَشَرِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ وَفَهْمٌ وَتَقْوَى وَتَدَبُّرٌ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ لَذَّةِ الْقُرْآنِ شَيْئًا. وَمَنْ أَحَاطَ بِظَاهِرِ التَّفْسِيرِ- وَهُوَ مَعْنَى الْأَلْفَاظِ فِي اللُّغَةِ- لَمْ يَكْفِ ذَلِكَ فِي فَهْمِ حَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الْأَنْفَالِ: 17) فَظَاهِرُ تَفْسِيرِهِ وَاضِحٌ، وَحَقِيقَةُ مَعْنَاهُ غَامِضَةٌ؛ فَإِنَّهُ إِثْبَاتٌ لِلرَّمْيِ، وَنَفْيٌ لَهُ، وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فِي الظَّاهِرِ، مَا لَمْ يُفْهَمْ أَنَّهُ رَمَى مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يَرْمِ مِنْ وَجْهٍ، وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي لَمْ يَرْمِ مَا رَمَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكَذَلِكَ قَالَ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} (التَّوْبَةِ: 14) فَإِذَا كَانُوا هُمُ الْقَاتِلِينَ كَيْفَ يَكُونُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُعَذِّبُ، وَإِنْ كَانَ تَعَالَى هُوَ الْمُعَذِّبَ بِتَحْرِيكِ أَيْدِيهِمْ، فَمَا مَعْنَى أَمَرِهِمْ بِالْقِتَالِ. فَحَقِيقَةُ هَذَا تُسْتَمَدُّ مِنْ بَحْرٍ عَظِيمٍ مِنْ عُلُومِ الْمُكَاشَفَاتِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْلَمَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْأَفْعَالِ بِالْقُدْرَةِ، وَيُفْهَمَ وَجْهُ ارْتِبَاطِ الْقُدْرَةِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَتَكَشَّفَ وَتَتَّضِحَ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَفَاوُتُ الْخَلْقِ فِي الْفَهْمِ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْرِفَةِ ظَاهِرِ التَّفْسِيرِ.
|