الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
لَا يُسْتَدَلُّ بِالصِّفَةِ الْعَامَّةِ إِذَا لَمْ يَظْهَرْ تَقْيِيدُ عَدَمِ التَّعْمِيمِ؛ وَيُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: اللَّفْظُ بَيِّنٌ فِي مَقْصُودِهِ، وَيُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَقْصُودِهِ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (التَّوْبَةِ: 34) لَا يَصْلُحُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي قَلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَكَثِيرِهِمَا، وَفِي الْمَصُوغِ مِنْهُمَا مِنَ الْحُلِيِّ وَغَيْرِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ دُونَ النِّصَابِ مِنْهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي جُمْلَةِ الْمُتَوَعَّدِينَ بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ مِنْهُمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنَ الْآيَةِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي تَرْكِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا؛ وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِمَا، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ مِقْدَارِ مَا يَجِبُ مِنَ الْحَقِّ فِيهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 5) الْآيَةَ، الْقَصْدُ مِنْهَا مَدْحُ قَوْمٍ صَانُوا فُرُوجَهُمْ عَمَّا لَا يَحِلُّ، وَلَمْ يُوَاقِعُوا بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ أَوْ الْيَمِينِ؛ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَحِلُّ. ثُمَّ إِذَا احْتِيجَ إِلَى تَفْصِيلِ مَا يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ صُيِّرَ إِلَى مَا قُصِدَ تَفْصِيلُهُ بِقَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) الْآيَةَ. كَذَا قَالَهُ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ؛ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} (الْبَقَرَةِ: 187) إِلَى قَوْلِهِ: {مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} (الْبَقَرَةِ: 187)، فَلَوْ تَعَلَّقَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} (الْبَقَرَةِ: 187) فِي إِبَاحَةِ أَكْلِ أَوْ شُرْبِ كُلِّ شَيْءٍ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ لَكَانَ لَا مَعْنَى لَهُ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ قَدْ غَفَلَ عَنْ أَنَّهَا لَمْ تَرِدْ مُبَيِّنَةً لِذَلِكَ، بَلْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ إِلَى الْفَجْرِ دَفْعًا لِمَا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ مِنْ حَظْرِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ نَامَ، فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ إِبَاحَةَ مَا كَانَ مَحْظُورًا، ثُمَّ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ لَا عَلَى مَعْنَى إِبَانَةِ الْحُكْمِ فِيمَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالدَّمِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَا الْمُبَاشَرَةُ فِيمَا لَا يُبْتَغَى مِنْهُ الْوَلَدُ؛ وَمِثْلُهُ (مِنْهُ) فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ فِي الْعُمُومِ إِلَى الْمَعَانِي لَا لِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَمَنْ ضَبَطَ هَذَا الْبَابَ أَفَادَهُ عُلُومًا كَثِيرَةً.
وَمِمَّا يُسْتَثْمَرُ مِنْهُ الْأَحْكَامُ تَنْبِيهُ الْخِطَابِ وَالْأَحْكَامُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ. وَهُوَ إِمَّا فِي الطَّلَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (الْإِسْرَاءِ: 23) فَنَهْيُهُ عَنِ الْقَلِيلِ مُنَبِّهٌ عَلَى الْكَثِيرِ، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (النِّسَاءِ: 2) يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْإِحْرَاقِ وَالْإِتْلَافِ. وَإِمَّا فِي الْخَبَرِ: فَإِمَّا مَا أَنْ يَكُونَ بِالتَّنْبِيهِ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا} (الزَّلْزَلَةِ: 7) فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الرِّطْلَ وَالْقِنْطَارَ لَا يَضِيعُ لَكَ عِنْدَهُ، وَكَقَوْلِهِ: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (فَاطِرٍ: 13)، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النِّسَاءِ: 124)، {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (النِّسَاءِ: 49)، {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} (يُونُسَ: 61) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ نَقِيرًا أَوْ قِطْمِيرًا مَعَ قِلَّتِهِمَا، فَهُوَ عَنْ مِلْكِ مَا فَوْقَهُمَا أَوْلَى. وَعُلِمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْزُبْ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مَعَ خَفَائِهِ وَدِقَّتِهِ، فَهُوَ بِأَلَّا يَذْهَبَ عَنْهُ الشَّيْءُ الْجَلِيلُ الظَّاهِرُ أَوْلَى. وَإِمَّا بِالْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آلِ عِمْرَانَ: 75) فَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَيْكَ الدِّينَارَ وَمَا تَحْتَهُ ثُمَّ قَالَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (آلِ عِمْرَانَ: 75) فَهَذَا مِنَ الْأَوَّلِ؛ وَهُوَ التَّنْبِيهُ بِالْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ؛ فَدَلَّ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّكَ لَا تَأْمَنُهُ بِقِنْطَارٍ، بِعَكْسِ الْأَوَّلِ. وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي فُرُشِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} (الرَّحْمَنِ: 54) وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَعْلَى مَا عِنْدَنَا هُوَ الْإِسْتَبْرَقُ الَّذِي هُوَ الْخَشِنُ مِنَ الدِّيبَاجِ، فَإِذَا كَانَ بَطَائِنُ [فُرُشِ] أَهْلِ الْجَنَّةِ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ وُجُوهَهَا فِي الْعُلُوِّ إِلَى غَايَةٍ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} (الْمُطَفِّفِينَ: 26) وَإِنَّمَا يُرَى مِنَ الْكَأْسِ الْخِتَامُ، وَأَعْلَى مَا عِنْدَنَا رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَهُوَ أَدْنَى شَرَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ فَلْيَتَبَيَّنِ اللَّبِيبُ إِذَا كَانَ الثُّفْلُ الَّذِي مِنْهُ الْمِسْكُ، أَيْشِ يَكُونُ حَشْوُ الْكَأْسِ فَيَظْهَرُ فَضْلُ حَشْوِ الْكَأْسِ بِفَضْلِ الْخِتَامِ، وَهَذَا مِنَ التَّنْبِيهِ [الْخَفِيِّ]. وَقَوْلُهُ: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الْإِسْرَاءِ: 1) فَنَبَّهَ عَلَى حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْبَدِيعَ يُنْظَرُ إِلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ رَقِيقٍ، وَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَتَقْيِيدُهُ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ كَمَا فِي آيَةِ التَّأْفِيفِ؛ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا سِيقَتْ لِاحْتِرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَتَوْقِيرِهِمَا، فَفَهِمْنَا مِنْهُ تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، وَلَوْ لَمْ يُفْهَمِ الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ الْكَبِيرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ لِبَعْضِ عَبِيدِهِ: اقْتُلْ قِرْنِي وَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ؛ وَيَكُونُ قَصْدُهُ الْأَمْنَ عَنْ مُزَاحَمَتِهِ فِي الْمُلْكِ؛ فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا جَاءَ لِفَهْمِ الْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ابْتَنَى الْفَهْمَ عَلَى تَخَيُّلِ الْمَعْنَى كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ كَمَا صَارَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ. قِيلَ: مَا يَتَأَخَّرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ وَمَا يَتَقَدَّمُ فَهْمُهُ عَلَى اللَّفْظِ وَيَقْتَرِنُ بِهِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا حَقِيقِيًّا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى اسْتِنْبَاطٍ وَتَأَمُّلٍ، فَإِنْ أَطْلَقَ الْقَائِلُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ اسْمَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ وَأَرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا مُضَايَقَةَ فِي التَّسْمِيَةِ.
وَقَدْ يُحْكَمُ عَلَى الشَّيْءِ مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ مَا سُكِتَ عَنْهُ بِخِلَافِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِثْلَهُ. فَمِنَ الْأَوَّلِ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (الطَّلَاقِ: 2)، وَقَوْلُهُ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الْحُجُرَاتِ: 6)، وَقَوْلُهُ: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) فَاشْتَرَطَ أَوْلَادَ الصُّلْبِ تَنْبِيهًا عَلَى إِبَاحَةِ حَلَائِلِ أَوْلَادِ الرَّضَاعِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِ الْحَلَائِلِ إِبَاحَةُ مَنْ وَطِئَهُ الْأَبْنَاءُ مِنَ الْإِمَاءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّوْعَانِ، أَعَنِي الْمُخَالَفَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ} (الْأَحْزَابِ: 55) الْآيَةَ، فِيهِ وُقُوعُ الْجُنَاحِ فِي إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِمَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فِي إِبْدَائِهَا لِقَرَابَةِ الرَّضَاعِ. وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الصَّيْدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (الْمَائِدَةِ: 95)، فَإِنَّ الْقَتْلَ إِتْلَافٌ وَالْإِتْلَافُ يَسْتَوِي عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ؛ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ التَّعَمُّدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ فِي هَذَا الْقِسْمِ إِذَا كَانَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مِثْلَهُ، وَهَلَّا حُذِفَتِ الصِّفَةُ وَاقْتُصِرَ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 95)؟ قُلْنَا: لِتَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَوَائِدُ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ فِي جِنْسِهِ بِشَيْءٍ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْجِنْسِ؛ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا}. إِلَى قَوْلِهِ: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} (الْمَائِدَةِ: 95) إِنَّ الْمُتَعَمِّدَ إِنَّمَا خُصَّ بِالذِّكْرِ لِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِقَامِ الَّذِي لَا يَقَعُ إِلَّا فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ. وَمِنْهَا؛ مَا يُخَصُّ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ عَلَى سَائِرِ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التَّوْبَةِ: 36) فَخَصَّ النَّهْيَ عَنِ الظُّلْمِ فِيهِنَّ، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ تَفْضِيلًا لِهَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمًا لِلْوِزْرِ فِيهَا. وَقَوْلِهِ: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (الْبَقَرَةِ: 197). وَمِنْهَا؛ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَصْفُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} (النِّسَاءِ: 23) الْآيَةَ؛ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الرَّبِيبَةِ أَنَّهَا تَكُونُ فِي حِجْرِ أُمِّهَا، وَنَحْوِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النُّورِ: 58) إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} الْآيَةَ، خَصَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةَ بِالِاسْتِئْذَانِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَبَذُّلُ الْبَدَنِ فِيهِنَّ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِئْذَانَ فَيَجِبُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 229) فَالِافْتِدَاءُ يَجُوزُ مَعَ الْأَمْنِ، وَقَوْلُهُ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (النِّسَاءِ: 101)، وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (الْبَقَرَةِ: 282)، وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 283) فَجَرَى التَّقْيِيدُ بِالسَّفَرِ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ إِنَّمَا يُعْدَمُ غَالِبًا فِيهِ؛ وَلَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الرَّهْنِ إِلَّا فِي السَّفَرِ، كَمَا صَارَ إِلَيْهِ مُجَاهِدٌ.
وَقَدْ أَفْرَدَهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالتَّصْنِيفِ، الْعَلَّامَةُ نَجْمُ الدِّينِ الطُّوفِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْبَرَاهِينِ وَالْأَدِلَّةِ؛ وَمَا مِنْ بُرْهَانٍ وَدَلَالَةٍ وَتَقْسِيمٍ وَتَحْدِيدِ شَيْءٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ الْمَعْلُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ إِلَّا وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ نَطَقَ بِهِ، لَكِنْ أَوْرَدَهُ تَعَالَى عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ دُونَ دَقَائِقِ طُرُقِ أَحْكَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِسَبَبِ مَا قَالَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إِبْرَاهِيمَ: 4) الْآيَةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَائِلَ إِلَى دَقِيقِ الْمُحَاجَّةِ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بِالْجَلِيلِ مِنَ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُفْهِمَ بِالْأَوْضَحِ الَّذِي يَفْهَمُهُ الْأَكْثَرُونَ لَمْ يَتَخَطَّ إِلَى الْأَغْمَضِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، وَلَمْ يَكُنْ مُلْغِزًا، فَأَخْرَجَ تَعَالَى مُخَاطَبَاتِهِ فِي مُحَاجَّةِ خَلْقِهِ فِي أَجَلِّ صُورَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى أَدَقِّ دَقِيقٍ لِتَفْهَمَ الْعَامَّةُ مِنْ جَلِيلِهَا مَا يُقْنِعُهُمْ وَيُلْزِمِهُمُ الْحُجَّةَ، وَتَفْهَمُ الْخَوَاصُّ مِنْ أَثْنَائِهَا مَا يُوفَّى عَلَى مَا أَدْرَكَهُ فَهْمُ الْخِطَابِ. وَعَلَى هَذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ: إِنَّ لِكُلِّ آيَةٍ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَلِكُلِّ حَرْفٍ حَدًّا وَمَطْلَعًا لَا عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْبَاطِنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَنْ كَانَ حَظُّهُ فِي الْعُلُومِ أَوْفَرَ كَانَ نَصِيبُهُ مِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ أَكْثَرَ. وَلِذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ تَعَالَى حُجَّةً عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ أَتْبَعَهَا مَرَّةً بِإِضَافَتِهِ إِلَى أُولِي الْعَقْلِ، وَمَرَّةً إِلَى السَّامِعِينَ، وَمَرَّةً إِلَى الْمُفَكِّرِينَ، وَمَرَّةً إِلَى الْمُتَذَكِّرِينَ، تَنْبِيهًا أَنَّ بِكُلِّ قُوَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى يُمْكِنُ إِدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ مِنْهَا، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرَّعْدِ: 4)، وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يَظْهَرُ مِنْهُ بِدَقِيقِ الْفِكْرِ اسْتِنْبَاطُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى طُرُقِ الْمُتَكَلِّمِينَ؛ فَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ بِتَغَيُّرِ الصِّفَاتِ عَلَيْهِ وَانْتِقَالِهِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهُوَ آيَةُ الْحُدُوثِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي احْتِجَاجِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتِدْلَالَهُ بِحُدُوثِ الْأَفْلِ عَلَى وُجُودِ الْمُحْدِثِ وَالْحُكْمِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِحُكْمِ النَّيِّرَاتِ الثَّلَاثِ وَهُوَ الْحُدُوثُ، طَرْدًا لِلدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مَدْلُولُهُ، لِتَسَاوِيهَا فِي عِلَّةِ الْحُدُوثِ وَهِيَ الْجُسْمَانِيَّةُ. وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ، بِدَلَالَةِ التَّمَانُعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الْأَنْبِيَاءِ: 22)؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْعَالَمِ صَانِعَانِ لَكَانَ لَا يَجْرِي تَدْبِيرُهُمَا عَلَى نِظَامٍ، وَلَا يَتَّسِقُ عَلَى إِحْكَامٍ، وَلَكَانَ الْعَجْزُ يَلْحَقُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا؛ وَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا إِحْيَاءَ جِسْمٍ، وَأَرَادَ الْآخَرُ إِمَاتَتَهُ، فَإِمَّا أَنْ تُنَفَّذَ إِرَادَتُهُمَا، فَتَتَنَاقَضَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجْرِيَ الْفِعْلُ إِنْ فُرِضَ الِاتِّفَاقُ، أَوْ لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ إِنْ فُرِضَ الِاخْتِلَافُ، وَإِمَّا لَا تُنَفَّذُ إِرَادَتُهُمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِمَا أَوْ لَا تُنَفَّذُ إِرَادَةُ أَحَدِهِمَا فَيُؤَدِّيَ إِلَى عَجْزِهِ، وَالْإِلَهُ لَا يَكُونُ عَاجِزًا. وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ بِضُرُوبٍ. أَحَدُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الْأَعْرَافِ: 29)، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (الْأَنْبِيَاءِ: 104)، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} (ق: 15). ثَانِيهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، نَحْوُ: {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (يس: 81)، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غَافِرٍ: 57). ثَالِثُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذُكِرَ فِيهِ إِنْزَالُ الْمَطَرِ غَالِبًا، نَحْوُ: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (الرُّومِ: 19). رَابِعُهَا: قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إِخْرَاجِ النَّارِ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، وَقَدْ وَرَدَ: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ لَمَّا جَاءَ بِعِظَامٍ بَالِيَةٍ فَفَتَّهَا وَذَرَّهَا فِي الْهَوَاءِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (يس: 79) فَعَلَّمَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلَالِ بِرَدِّ النَّشْأَةِ الْأُخْرَى إِلَى الْأَوْلَى، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةِ الْحُدُوثِ، ثُمَّ زَادَ فِي الْحِجَاجِ بِقَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} (يس: 80) وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي رَدِّ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ الْأَعْرَاضِ عَلَيْهِمَا. خَامِسُهَا: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النَّحْلِ: 38، 39) وَتَقْرِيرُهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّيِّدِ: إِنَّ اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحَقِّ لَا يُوجِبُ انْقِلَابَ الْحَقِّ فِي نَفْسِهِ؛ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ الطُّرُقُ الْمُوصِلَةُ إِلَيْهِ، وَالْحَقُّ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَاهُنَا حَقِيقَةً مَوْجُودَةً لَا مَحَالَةَ، وَكَانَ لَا سَبِيلَ لَنَا فِي حَيَاتِنَا هَذِهِ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهَا وُقُوفًا يُوجِبُ الِائْتِلَافَ وَيَرْفَعُ عَنَّا الِاخْتِلَافَ إِذْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَرْكُوزًا فِي فِطَرِنَا، وَكَانَ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهُ وَزَوَالُهُ إِلَّا بِارْتِفَاعِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ، وَنَقْلِهَا إِلَى جِبِلَّةٍ غَيْرِهَا- صَحَّ ضَرُورَةً أَنَّ لَنَا حَيَاةً أُخْرَى غَيْرَ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فِيهَا يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَالْعِنَادُ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْحَالُ الَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهَا، فَقَالَ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (الْحِجْرِ: 47) وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ بِاضْطِرَارٍ؛ إِذْ كَانَ جَوَازُ الْخِلَافِ يَقْتَضِي الِائْتِلَافَ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنَ الْمُضَافِ، وَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ حَقِيقَتِهِ، فَقَدْ صَارَ الْخِلَافُ الْمَوْجُودُ- كَمَا تَرَى- أَوْضَحَ دَلِيلٍ عَلَى كَوْنِ الْبَعْثِ الَّذِي يُنْكِرُهُ الْمُنْكِرُونَ.
وَالْعِلْمُ بِهِ عَظِيمُ الشَّأْنِ وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ... جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ مِنْهُمْ قَتَادَةُ بْنُ دِعَامَةَ السُّدُوسِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، وَأَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَهِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ الضَّرِيرُ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، وَمَكِّيٌّ، وَغَيْرُهُمْ. وَمِنْ ظَرِيفِ مَا حُكِيَ فِي كِتَابِ هِبَةِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الْإِنْسَانِ: 8) مَنْسُوخٌ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ (وَأَسِيرًا) وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَسِيرُ الْمُشْرِكِينَ، فَقُرِئَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ وَابْنَتُهُ تَسْمَعُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَتْ: أَخْطَأْتَ يَا أَبَتِ فِي هَذَا الْكِتَابِ! فَقَالَ لَهَا: وَكَيْفَ يَا بُنَيَّةُ؟ قَالَتْ: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُطْعَمُ وَلَا يُقْتَلُ جُوعًا. قَالَ الْأَئِمَّةُ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُفَسِّرَ كِتَابَ اللَّهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لِقَاصٍّ: أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. وَالنَّسْخُ وَمَعْنَاهُ يَأْتِي بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (الْحَجِّ: 52). وَيَأْتِي بِمَعْنَى التَّبْدِيلِ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (النَّحْلِ: 101). وَبِمَعْنَى التَّحْوِيلِ كَتَنَاسُخِ الْمَوَارِيثِ يَعْنِي تَحْوِيلَ الْمِيرَاثِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ. وَيَأْتِي بِمَعْنَى النَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، وَمِنْهُ: (نَسَخْتُ الْكِتَابَ) إِذَا نَقَلْتَ مَا فِيهِ حَاكِيًا لِلَفْظِهِ وَخَطِّهِ، قَالَ مَكِّيٌّ: وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ وَأُنْكِرُ عَلَى النَّحَّاسِ إِجَازَتُهُ ذَلِكَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ النَّاسِخَ فِيهِ لَا يَأْتِي بِلَفْظِ الْمَنْسُوخِ وَإِنَّمَا يَأْتِي بِلَفْظٍ آخَرَ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ بَرَكَاتٍ السَّعِيدِيُّ: يَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ النَّحَّاسُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الْجَاثِيَةِ: 29)، وَقَالَ: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزُّخْرُفِ: 4) وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ نُجُومًا جَمِيعُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ كَمَا قَالَ: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الْوَاقِعَةِ: 78، 79). ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فَقِيلَ: الْمَنْسُوخُ مَا رُفِعَ تِلَاوَةُ تَنْزِيلِهِ، كَمَا رُفِعَ الْعَمَلُ بِهِ. وَرُدَّ بِمَا نَسَخَ اللَّهُ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْقُرْآنِ وَالْإِنْجِيلِ وَهُمَا مَتْلُوَّانِ. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ النَّسْخُ فِي قُرْآنٍ يُتْلَى وَيُنَزَّلُ. وَالنَّسْخُ مِمَّا خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي حُكْمٍ مِنَ التَّيْسِيرِ. وَيَفِرُّ هَؤُلَاءِ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا بَعْدَ نُزُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَهَذَا مَذْهَبُ الْيَهُودِ فِي الْأَصْلِ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ بَدَاءٌ، كَالَّذِي يَرَى الرَّأْيَ ثُمَّ يَبْدُو لَهُ؛ وَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ، أَلَا تَرَى الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ وَعَكْسَهُ، وَالْمَرَضَ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَعَكْسَهُ، وَالْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى وَعَكْسَهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَدَاءً، فَكَذَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي هُوَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ، وَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ النَّسْخِ وَوُقُوعُهُ سَمْعًا وَعَقْلًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيلَ: لَا يُنْسَخُ قُرْآنٌ إِلَّا بِقُرْآنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (الْبَقَرَةِ: 106)، قَالُوا: وَلَا يَكُونُ مِثْلَ الْقُرْآنِ وَخَيْرًا مِنْهُ إِلَّا قُرْآنٌ. وَقِيلَ: بَلِ السُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ السُّنَّةَ. وَقِيلَ: السُّنَّةُ إِذَا كَانَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ نَسَخَتْ، وَإِنْ كَانَتْ بِاجْتِهَادٍ فَلَا تَنْسَخُهُ، حَكَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَقِيلَ: بَلْ إِحْدَاهُمَا تَنْسَخُ الْأُخْرَى، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: الْآيَتَانِ إِذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا مُتَقَدِّمَةً الْأُخْرَى، فَالْمُتَأَخِّرَةُ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (الْبَقَرَةِ: 180) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (النِّسَاءِ: 11)، وَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (النِّسَاءِ: 11) قَالُوا: فَهَذِهِ نَاسِخَةٌ لِلْأُولَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا الْوَصِيَّةُ وَالْمِيرَاثُ. وَقِيلَ: بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ فِيهِمَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَإِنَّمَا نَسْخُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَقِيلَ: مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخٌ لِمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَيَجُوزُ نَسْخُ النَّاسِخِ فَيَصِيرُ النَّاسِخُ مَنْسُوخًا، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الْكَافِرُونَ: 6) نَسَخَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التَّوْبَةِ: 5) ثُمَّ نَسَخَ هَذِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} (التَّوْبَةِ: 29)، وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (الْبَقَرَةِ: 109) وَنَاسِخُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (التَّوْبَةِ: 5)، ثُمَّ نَسَخَهَا: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} (التَّوْبَةِ: 29).
لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (الْبَقَرَةِ: 106)، وَقَالَ: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (النَّحْلِ: 101)؛ وَلِذَلِكَ نَسَخَ السُّنَّةَ بِالْكِتَابِ، كَالْقِصَّةِ فِي صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: حُذَّاقُ الْأُمَّةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ)، وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ؛ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي إِسْقَاطِ الْجَلْدِ فِي حَدِّ الزِّنَا عَنِ الثَّيِّبِ الَّذِي يُرْجَمُ، فَإِنَّهُ لَا مُسْقِطَ لِذَلِكَ إِلَّا السُّنَّةُ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْنَا: أَمَّا آيَةُ الْوَصِيَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ نَاسِخَهَا الْقُرْآنُ، وَأَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَقَدِ اشْتُهِرَ ذَلِكَ لِظَاهِرِ لَفْظٍ ذَكَرَهُ فِي " الرِّسَالَةِ "، وَإِنَّمَا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ لَا يُوجَدَانِ مُخْتَلِفَيْنِ إِلَّا وَمَعَ أَحَدِهِمَا مِثْلُهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَهَذَا تَعْظِيمٌ لِقَدْرِ الْوَجْهَيْنِ وَإِبَانَةُ تَعَاضُدِهِمَا وَتَوَافُقِهِمَا؛ وَكُلُّ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ. وَأَمَّا النَّسْخُ بِالْآيَةِ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ بَلْ تَخْصِيصٍ، ثُمَّ إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ الَّذِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، وَهُوَ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا).
الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ النَّسْخُ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْأَخْبَارَ، وَأَطْلَقَ، وَقَيَّدَهَا آخَرُونَ بِالَّتِي يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ.
اعْلَمْ أَنَّ سُوَرَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَنْقَسِمُ بِحَسْبِ مَا دَخَلَهُ النَّسْخُ وَمَا لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْسَامٍ. أَحَدُهَا: مَا لَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَهِيَ ثَلَاثٌ وَأَرْبَعُونَ سُورَةً: وَهِيَ الْفَاتِحَةُ، ثُمَّ يُوسُفُ، ثُمَّ يس، ثُمَّ الْحُجُرَاتُ، ثُمَّ الرَّحْمَنُ، ثُمَّ الْحَدِيدُ، ثُمَّ الصَّفُّ، ثُمَّ الْجُمُعَةُ، ثُمَّ التَّحْرِيمُ، ثُمَّ الْمُلْكُ، ثُمَّ الْحَاقَّةُ، ثُمَّ نُوحٌ، ثُمَّ الْجِنُّ، ثُمَّ الْمُرْسَلَاتُ، ثُمَّ النَّبَأُ، ثُمَّ النَّازِعَاتُ، ثُمَّ الِانْفِطَارُ، ثُمَّ الْمُطَفِّفِينَ، ثُمَّ الِانْشِقَاقُ، ثُمَّ الْبُرُوجُ، ثُمَّ الْفَجْرُ، ثُمَّ الْبَلَدُ، ثُمَّ الشَّمْسُ، ثُمَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ الضُّحَى، ثُمَّ أَلَمْ نَشْرَحْ، ثُمَّ الْقَلَمُ، ثُمَّ الْقَدْرُ، ثُمَّ الِانْفِكَاكُ، ثُمَّ الزَّلْزَلَةُ، ثُمَّ الْعَادِيَّاتُ، ثُمَّ الْقَارِعَةُ، ثُمَّ أَلْهَاكُمْ، ثُمَّ الْهُمَزَةُ، ثُمَّ الْفِيلُ، ثُمَّ قُرَيْشٌ، ثُمَّ الدِّينُ، ثُمَّ الْكَوْثَرُ، ثُمَّ النَّصْرُ، ثُمَّ تَبَّتْ يَدَا، ثُمَّ الْإِخْلَاصُ، ثُمَّ الْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَهَذِهِ السُّوَرُ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا لَيْسَ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، وَإِلَى مَا فِيهِ نَهْيٌ لَا أَمْرٌ. وَالثَّانِي: مَا فِيهِ نَاسِخٌ وَلَيْسَ فِيهِ مَنْسُوخٌ، وَهِيَ سِتُّ سُوَرٍ: الْفَتْحُ، وَالْحَشْرُ، وَالْمُنَافِقُونَ، وَالتَّغَابُنُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْأَعْلَى. الثَّالِثُ: مَا فِيهِ مَنْسُوخٌ وَلَيْسَ فِيهِ نَاسِخٌ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ: الْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَيُونُسُ، وَهُودٌ، وَالرَّعْدُ، وَالْحِجْرُ، وَالنَّحْلُ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَطه، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالنَّمْلُ، وَالْقَصَصُ، وَالْعَنْكَبُوتُ، وَالرُّومُ، وَلُقْمَانُ، وَالْمَضَاجِعُ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالصَّافَّاتُ، وَص، وَالزُّمَرُ، وَالْمَصَابِيحُ، وَالزُّخْرُفُ، وَالدُّخَانُ، وَالْجَاثِيَةُ، وَالْأَحْقَافُ، وَسُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبَاسِقَاتُ، وَالنَّجْمُ، وَالْقَمَرُ، وَالرَّحْمَنُ، وَالْمَعَارِجُ، وَالْمُدَّثِّرُ، وَالْقِيَامَةُ، وَالْإِنْسَانُ، وَعَبَسَ، وَالطَّارِقُ، وَالْغَاشِيَةُ، وَالتِّينُ، وَالْكَافِرُونَ. الرَّابِعُ: مَا اجْتَمَعَ فِيهِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ سُورَةً: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ، وَالتَّوْبَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَالنَّحْلُ، وَبَنُو إِسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمُ، وَطه، وَالْأَنْبِيَاءُ، وَالْحَجُّ، وَالْمُؤْمِنُونَ، وَالنُّورُ، وَالْفُرْقَانُ، وَالشُّعَرَاءُ، وَالْأَحْزَابُ، وَسَبَأٌ، وَالْمُؤْمِنُ، وَالشُّورَى، وَالْقِتَالُ، وَالذَّارِيَاتُ، وَالطُّورُ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُجَادَلَةُ، وَالْمُمْتَحَنَةُ، وَالْمُزَّمِّلُ، وَالْمُدَّثِّرُ، وَالتَّكْوِيرُ، وَالْعَصْرُ. وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا النَّوْعِ آيَةٌ أَوَّلُهَا مَنْسُوخٌ وَآخِرُهَا نَاسِخٌ، قِيلَ: وَلَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (الْمَائِدَةِ: 105) يَعْنِي الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ.
النَّسْخُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: مَا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ فَيُعْمَلُ بِهِ إِذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ فِي سُورَةِ النُّورِ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ)، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لِكَتَبْتُهَا بِيَدِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مُعَلَّقًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَتْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ تُوَازِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَكَانَ فِيهَا: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا). وَفِي هَذَا سُؤَالَانِ: الْأَوَّلُ: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ؟ وَهَلَّا قَالَ: الْمُحْصَنُ وَالْمُحْصَنَةُ؟. وَأَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " أَمَالِيهِ " عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ مِنَ الْبَدِيعِ فِي الْمُبَالَغَةِ؛ وَهُوَ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ فِي بَابِ الذَّمِّ بِالْأَنْقَصِ فَالْأَنْقَصِ، وَفِي بَابِ الْمَدْحِ بِالْأَكْثَرِ وَالْأَعْلَى، فَيُقَالُ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَالْمُرَادُ: يَسْرِقُ رُبْعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا إِلَى أَعْلَى مَا يَسْرِقُ. وَقَدْ يُبَالِغُ فِيهِ، فَيَذْكُرُ مَا لَا تُقْطَعُ بِهِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ فِي الْبَيْضَةِ، وَتَأْوِيلُ مَنْ أَوَّلَهُ بِبَيْضَةِ الْحَرْبِ تَأْبَاهُ الْفَصَاحَةُ. الثَّانِي: أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: (لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ...) إِلَخْ أَنَّ كِتَابَتَهَا جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ قَوْلُ النَّاسِ، وَالْجَائِزُ فِي نَفْسِهِ قَدْ يَقُومُ مِنْ خَارِجِ مَا يَمْنَعُهُ، وَإِذَا كَانَتْ جَائِزَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ ثَابِتَةً، لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ الْمَكْتُوبِ، وَقَدْ يُقَالُ: لَوْ كَانَتِ التِّلَاوَةُ بَاقِيَةً لَبَادَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَى مَقَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مَقَالَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُ مَانِعًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمُلَازَمَةُ مُشْكَلَةٌ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ بِهِ، وَإِنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ، وَمِنْ هُنَا أَنْكَرَ ابْنُ ظَفَرَ فِي " الْيَنْبُوعِ " عَدَّ هَذَا مِمَّا نُسِخَ تِلَاوَتُهُ، قَالَ: لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُثْبِتُ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الْمُنْسَأِ لَا النَّسْخِ، وَهُمَا يَلْتَبِسَانِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنْسَأَ لَفْظُهُ قَدْ يُعْلَمُ حُكْمُهُ وَيَثْبُتُ أَيْضًا، وَكَذَا قَالَهُ غَيْرُهُ فِي الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ، كَإِيجَابِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَنَحْوِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قُرْآنًا فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا: لَكِنْ فِي الْعَمَلِ بِهَا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا كَانَ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنَ الْقُرْآنِ، فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ، وَتِلَاوَتُهُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ. وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: إِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَةَ، فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي أَحْفَظُ مِنْهَا: (لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ)؛ وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا، غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمُنَادِي فِي كِتَابِهِ " النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ " مِمَّا رُفِعَ رَسْمُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يُرْفَعْ مِنَ الْقُلُوبِ حِفْظُهُ؛ سُورَتَا الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمَاضِينَ وَالْغَابِرِينَ أَنَّهُمَا مَكْتُوبَتَانِ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَقْرَأَهُ إِيَّاهُمَا، وَتُسَمَّى سُورَتَيِ الْخَلْعِ وَالْحَفْدِ. هُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ؟ وَهَلَّا تَثْبُتُ التِّلَاوَةُ لِيَجْتَمِعَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهَا وَثَوَابُ تِلَاوَتِهَا؟ وَأَجَابَ صَاحِبُ " الْفُنُونِ " فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِيَظْهَرَ بِهِ مِقْدَارُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْمُسَارَعَةِ إِلَى بَذْلِ النُّفُوسِ بِطَرِيقِ الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ لِطَلَبِ طَرِيقٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَيُسْرِعُونَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ، كَمَا سَارَعَ الْخَلِيلُ إِلَى ذَبْحِ وَلَدِهِ بِمَنَامٍ، وَالْمَنَامُ أَدْنَى طُرُقِ الْوَحْيِ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ تِلَاوَتُهُ، وَهُوَ فِي ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سُورَةً، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (الْبَقَرَةِ: 234) الْآيَةَ، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا لَزِمَتِ التَّرَبُّصَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَوْلًا كَامِلًا، وَنَفَقَتُهَا فِي مَالِ الزَّوْجِ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَتَاعٌ إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (الْبَقَرَةِ: 240) الْآيَةَ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (الْبَقَرَةِ: 234)، وَهَذَا النَّاسِخُ مُقَدَّمٌ فِي النَّظْمِ عَلَى الْمَنْسُوخِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَاسِخٌ تَقَدَّمَ عَلَى الْمَنْسُوخِ، إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: هَذَا أَحَدُهُمَا، وَالثَّانِي قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} (الْأَحْزَابِ: 50) الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (الْأَحْزَابِ: 52). قُلْتُ: وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ مَوْضِعًا آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (الْبَقَرَةِ: 142) هِيَ مُتَقَدِّمَةٌ فِي التِّلَاوَةِ، وَلَكِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 144). وَقِيلَ: فِي تَقْدِيمِ النَّاسِخَةِ فَائِدَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَعْتَقِدَ حُكْمَ الْمَنْسُوخَةِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِنَسْخِهَا. وَيَجِيءُ مَوْضِعٌ رَابِعٌ: وَهُوَ آيَةُ الْحَشْرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (الْآيَةَ: 7) فَإِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهَا شَيْءٌ لِلْغَانِمِينَ، وَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (الْآيَةَ: 41). وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يَحْرُمُ الْعَمَلُ بِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ كَقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (الْأَنْفَالِ: 65) ثُمَّ نَسْخِ الْوُجُوبِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الْبَقَرَةِ: 190) قِيلَ: مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (الْبَقَرَةِ: 194). وَقَوْلِهِ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (الْأَحْقَافِ: 9) نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِيَامَةِ وَالْكِتَابِ وَالْحِسَابِ. وَهُنَا سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُسْأَلَ: مَا الْحِكْمَةُ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَبَقَاءِ التِّلَاوَةِ؟ وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُتْلَى لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ، فَيُتْلَى لِكَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى فَيُثَابُ عَلَيْهِ، فَتُرِكَتِ التِّلَاوَةُ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ النَّسْخَ غَالِبًا يَكُونُ لِلتَّخْفِيفِ، فَأُبْقِيَتِ التِّلَاوَةُ تَذْكِيرًا بِالنِّعْمَةِ وَرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَأَمَّا حِكْمَةُ النَّسْخِ قَبْلَ الْعَمَلِ، كَالصَّدَقَةِ عِنْدَ النَّجْوَى فَيُثَابُ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَلَى نِيَّةِ طَاعَةِ الْأَمْرِ. الثَّالِثُ: نَسْخُهُمَا جَمِيعًا، فَلَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، كَآيَةِ التَّحْرِيمِ بِعَشْرِ رَضَعَاتٍ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي قَوْلِهَا: (وَهِيَ مِمَّا يُقْرَأُ) فَإِنَّ ظَاهِرَهُ بَقَاءُ التِّلَاوَةِ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ قَارَبَ الْوَفَاةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التِّلَاوَةَ نُسِخَتْ أَيْضًا، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ كُلَّ النَّاسِ إِلَّا بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتُوُفِّيَ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقْرَؤُهَا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: نَزَلَتْ ثُمَّ رُفِعَتْ. وَجَعَلَ الْوَاحِدِيُّ مِنْ هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَقْرَأُ (لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ)، وَفِيهِ نَظَرٌ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ " عَنْ قَوْمٍ إِنْكَارَ هَذَا الْقِسْمِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ، فِيهِ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ عَلَى إِنْزَالِ قُرْآنٍ وَنَسْخِهِ بِأَخْبَارِ آحَادٍ لَا حُجَّةَ فِيهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ إِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ وَيَأْمُرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ، فَيَنْدَرِسَ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللَّهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} (الْأَعْلَى: 18، 19) وَلَا يُعْرَفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا فِي الْقُرْآنِ؛ أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ فِي الرَّسْمِ، ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَذْهَانِهِمْ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَائِدَةٌ: [عَنِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ "] قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} (التَّوْبَةِ: 5) نَاسِخَةٌ لِمِائَةٍ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ آيَةٍ، ثُمَّ صَارَ آخِرُهَا نَاسِخًا لِأَوَّلِهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (التَّوْبَةِ: 5). قَالُوا: وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ مِنَ الْمَنْسُوخِ ثَبَتَ حُكْمُهَا سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْأَحْقَافِ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} (الْآيَةَ: 9)، وَنَاسِخُهَا أَوَّلُ سُورَةِ الْفَتْحِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَمِنْ أَغْرَبِ آيَةٍ فِي النَّسْخِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الْأَعْرَافِ: 199)، أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا مَنْسُوخَانِ، وَوَسَطُهَا مُحْكَمٌ. وَقَسَّمَهُ الْوَاحِدِيُّ أَيْضًا إِلَى نَسْخِ مَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَعَشْرِ رَضَعَاتٍ، وَإِلَى نَسْخِ مَا هُوَ ثَابِتُ التِّلَاوَةِ بِمَا لَيْسَ بِثَابِتِ التِّلَاوَةِ كَنَسْخِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْمُحْصِنِينَ بِالرَّجْمِ، وَالرَّجْمُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ الْآنَ، وَإِنْ كَانَ يُتْلَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحُكْمُ ثَبَتَ وَالْقِرَاءَةُ لَا تَثْبُتُ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ التِّلَاوَةُ فِي بَعْضٍ وَلَا يَثْبُتَ الْحُكْمُ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ قُرْآنٌ يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُتْلَى؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِنَا، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ مَصْلَحَتِنَا تَعَلُّقَ الْعَمَلِ بِهَذَا الْوَجْهِ.
قَسَّمَ بَعْضُهُمُ النَّسْخَ أَقْسَامُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ: نَسْخُ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ امْتِثَالِهِ، وَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ النَّسْخُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَأَمْرِ الْخَلِيلِ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (الْمُجَادَلَةِ: 12) ثُمَّ نَسَخَهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ} (الْمُجَادَلَةِ: 13) الْآيَةَ. الثَّانِي: وَيُسَمَّى نَسْخًا تَجَوُّزًا، وَهُوَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا كَحَتْمِ الْقِصَاصِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَ تَشْرِيعِ الدِّيَةِ: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 178) وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَنَا اللَّهُ بِهِ أَمْرًا إِجْمَالِيًّا ثُمَّ نُسِخَ، كَنَسْخِهِ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ الْمُقَدَّسِ بِالْكَعْبَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْنَا مِنْ قَضِيَّةِ أَمْرِهِ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَكَنَسْخِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِرَمَضَانَ. الثَّالِثُ: مَا أَمَرَ بِهِ لِسَبَبٍ ثُمَّ يَزُولُ السَّبَبُ؛ كَالْأَمْرِ حِينَ الضَّعْفِ وَالْقِلَّةِ بِالصَّبْرِ وَبِالْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ يَرْجُونَ لِقَاءَ اللَّهِ وَنَحْوِهِ مِنْ عَدَمِ إِيجَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالْجِهَادِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ نَسَخَهُ إِيجَابُ ذَلِكَ. وَهَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ نَسْءٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (أَوْ نَنْسَأْهَا) (الْبَقَرَةِ: 106) فَالْمُنْسَأُ هُوَ الْأَمْرُ بِالْقِتَالِ، إِلَى أَنْ يَقْوَى الْمُسْلِمُونَ، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ يَكُونُ الْحُكْمُ وُجُوبَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَبَيَّنَ ضَعْفُ مَا لَهِجَ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَاتِ الْآمِرَةِ بِالتَّخْفِيفِ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ مِنَ الْمُنْسَأِ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ وَرَدَ يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتٍ مَا لِعِلَّةٍ تُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِ تِلْكَ الْعِلَّةِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، إِنَّمَا النَّسْخُ الْإِزَالَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ امْتِثَالُهُ أَبَدًا. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ فِي (الرِّسَالَةِ) إِلَى النَّهْيِ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ حُكْمُهُ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ، ثُمَّ وَرَدَ الْإِذْنُ فِيهِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مَنْسُوخًا، بَلْ مِنْ بَابِ زَوَالِ الْحُكْمِ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ؛ حَتَّى لَوْ فَجَأَ أَهْلَ نَاحِيَةٍ جَمَاعَةٌ مَضْرُورُونَ تَعَلَّقَ بِأَهْلِهَا النَّهْيُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 105) الْآيَةَ، كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا قَوِيَ الْحَالُ وَجَبَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ الضَّعْفِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ عَادَ الْحُكْمُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِذَا رَأَيْتَ هَوًى مُتَّبَعًا وَشُحًّا مُطَاعًا وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ. وَهُوَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى حَكِيمٌ أَنْزَلَ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ضَعْفِهِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالِ رَأْفَةً بِمَنْ تَبِعَهُ وَرَحْمَةً، إِذْ لَوْ وَجَبَ لَأَوْرَثَ حَرَجًا وَمَشَقَّةً؛ فَلَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأَظْهَرَهُ وَنَصَرَهُ، أَنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْخِطَابِ مَا يُكَافِئُ تِلْكَ الْحَالَةَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْكُفَّارِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ، أَوِ الْإِسْلَامِ أَوِ الْقَتْلِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَيَعُودُ هَذَانِ الْحُكْمَانِ- أَعْنِي الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ الضَّعْفِ وَالْمُسَايَفَةَ عِنْدَ الْقُوَّةِ- بِعَوْدِ سَبَبِهِمَا وَلَيْسَ حُكْمُ الْمُسَايَفَةِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْمُسَالَمَةِ، بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَجِبُ امْتِثَالُهُ فِي وَقْتِهِ.
فَائِدَةٌ: [فِيمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ] قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (الْبَقَرَةِ: 106) وَلَمْ يَقُلْ (مِنَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ مُهَيْمِنٌ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ، وَلَيْسَ يَأْتِي بَعْدَهُ نَاسِخٌ لَهُ، وَمَا فِيهِ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ فَمَعْلُومٌ وَهُوَ قَلِيلٌ؛ بَيَّنَ اللَّهُ نَاسِخَهُ عِنْدَ مَنْسُوخِهِ، كَنَسْخِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ، وَالْعُدَّةِ وَالْفِرَارِ فِي الْجِهَادِ وَنَحْوِهِ؛ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَمَنْ تَحَقَّقَ عِلْمًا بِالنَّسْخِ عُلِمَ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْسَأِ، وَمِنْهُ مَا يَرْجِعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ الْمُجْمَلِ، كَالسَّبِيلِ فِي حَقِّ الْآتِيَةِ بِالْفَاحِشَةِ، فَبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، وَكُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا يُدْعَى نَسْخُهُ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ فَهُوَ بَيَانٌ لِحُكْمِ الْقُرْآنِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} (النَّحْلِ: 44) وَأَمَّا بِالْقُرْآنِ عَلَى مَا ظَنَّهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ نَسَأٌ وَتَأْخِيرٌ، أَوْ مُجْمَلٌ أُخِّرَ بَيَانُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، أَوْ خِطَابٌ قَدْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوَّلِهِ خِطَابُ غَيْرِهِ، أَوْ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومٍ، أَوْ حُكْمٌ عَامٌّ لِخَاصٍّ، أَوْ لِمُدَاخَلَةِ مَعْنًى فِي مَعْنًى، وَأَنْوَاعُ الْخِطَابِ كَثِيرَةٌ فَظَنُّوا ذَلِكَ نَسْخًا وَلَيْسَ بِهِ، وَأَنَّهُ الْكِتَابُ الْمُهَيْمِنُ عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُتَعَاضِدٌ، وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ حِفْظَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الْحِجْرِ: 9).
وَهُوَ مَا يُوهِمُ التَّعَارُضَ بَيْنَ آيَاتِهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النِّسَاءِ: 82)، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ لِلْمُبْتَدِئِ مَا يُوهِمُ اخْتِلَافًا وَلَيْسَ بِهِ، فَاحْتِيجَ لِإِزَالَتِهِ، كَمَا صُنِّفَ فِي مُخْتَلِفِ الْحَدِيثِ وَبَيَانِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَقَدْ رَأَيْتُ لِقُطْرُبٍ فِيهِ تَصْنِيفًا حَسَنًا، جَمَعَهُ عَلَى السُّوَرِ. وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ وَفَّقَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الْبَقَرَةِ: 51)، وَقَوْلِهِ: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} (الْأَعْرَافِ: 142) بِأَنْ قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَهُ بِعَشْرٍ؛ لَكِنَّهُ وَعَدَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً جَمِيعًا، انْتَهَى. وَقِيلَ: تَجْرِي آيَةُ الْأَعْرَافِ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ أَتَمَّ بِالْعَشْرِ، فَاسْتَقَرَّتِ الْأَرْبَعُونَ، ثُمَّ أَخْبَرَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا اسْتَقَرَّ. وَذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ قَالَ: وَسَمِعْتُ ابْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ يَحْكِي عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} (الْبَلَدِ: 1)، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُقْسِمُ بِهَذَا، ثُمَّ أَقْسَمَ بِهِ، فِي قَوْلِهِ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} (التِّينِ: 1، 2، 3) فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ أُجِيبُكَ ثُمَّ أَقْطَعُكَ، أَوْ أَقْطَعُكَ ثُمَّ أُجِيبُكَ؟ فَقَالَ بَلِ: اقْطَعْنِي ثُمَّ أَجِبْنِي، فَقَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ رِجَالٍ وَبَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمٍ، وَكَانُوا أَحْرَصَ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَجِدُوا فِيهِ مَغْمَزًا، وَعَلَيْهِ مَطْعَنًا، فَلَوْ كَانَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُنَاقَضَةً لَتَعَلَّقُوا بِهِ وَأَسْرَعُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا وَجَهِلْتَ، فَلَمْ يُنْكِرُوا مِنْهُ مَا أَنْكَرْتَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ الْعَرَبَ قَدْ تُدْخِلُ (لَا) فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهَا وَتُلْغِي مَعْنَاهَا، وَأَنْشَدَ فِيهِ أَبْيَاتًا. وَالْقَاعِدَةُ فِي هَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنَّ الْأَلْفَاظَ إِذَا اخْتَلَفَتْ وَكَانَ مَرْجِعُهَا إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ اخْتِلَافًا.
سُئِلَ الْغَزَالِيُّ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النِّسَاءِ: 82) فَأَجَابَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِمَا صُورَتُهُ: الِاخْتِلَافُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مَعَانٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ، بَلْ نَفْيَ الِاخْتِلَافِ عَنْ ذَاتِ الْقُرْآنِ، يُقَالُ: هَذَا كَلَامٌ مُخْتَلِفٌ، أَيْ لَا يُشْبِهُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ فِي الْفَصَاحَةِ؛ إِذْ هُوَ مُخْتَلِفٌ أَيْ بَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدِّينِ، وَبَعْضُهُ يَدْعُو إِلَى الدُّنْيَا. أَوْ هُوَ مُخْتَلِفُ النَّظْمِ؛ فَبَعْضُهُ عَلَى وَزْنِ الشِّعْرِ، وَبَعْضُهُ مُنْزَحِفٌ، وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ فِي الْجَزَالَةِ، وَبَعْضُهُ عَلَى أُسْلُوبٍ يُخَالِفُهُ، وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ، فَإِنَّهُ عَلَى مِنْهَاجٍ وَاحِدٍ فِي النَّظْمِ، مُنَاسِبٍ أَوَّلُهُ آخِرَهُ، وَعَلَى مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ، فَلَيْسَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ، وَمَسُوقٌ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَصَرْفُهُمْ عَنِ الدُّنْيَا إِلَى الدِّينِ، وَكَلَامُ الْآدَمِيِّينَ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتُ؛ إِذْ كَلَامُ الشُّعَرَاءِ وَالْمُتَرَسِّلِينَ إِذَا قِيسَ عَلَيْهِ وُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ فِي مِنْهَاجِ النَّظْمِ، ثُمَّ اخْتِلَافٌ فِي دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ، بَلْ فِي أَصْلِ الْفَصَاحَةِ حَتَّى يَشْتَمِلَ عَلَى الْغَثِّ وَالسَّمِينِ فَلَا تَتَسَاوَى رِسَالَتَانِ وَلَا قَصِيدَتَانِ بَلْ تَشْتَمِلُ قَصِيدَةٌ عَلَى أَبْيَاتٍ فَصَيْحَةٍ وَأَبْيَاتٍ سَخِيفَةٍ، وَكَذَلِكَ تَشْتَمِلُ الْقَصَائِدُ وَالْأَشْعَارُ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ الشُّعَرَاءَ وَالْفُصَحَاءَ {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشُّعَرَاءِ: 225)، فَتَارَةً يَمْدَحُونَ الدُّنْيَا، وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الْجُبْنَ، فَيُسَمُّونَهُ حَزْمًا، وَتَارَةً يَذُمُّونَهُ وَيُسَمُّونَهُ ضَعْفًا، وَتَارَةً يَمْدَحُونَ الشَّجَاعَةَ وَيُسَمُّونَهَا صَرَامَةً، وَتَارَةً يَذُمُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا تَهَوُّرًا، وَلَا يَنْفَكُّ كَلَامُ آدَمِيٍّ عَنْ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْشَأَ هَذِهِ الِاخْتِلَافَاتِ اخْتِلَافُ الْأَغْرَاضِ وَاخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، وَالْإِنْسَانُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ فَتُسَاعِدُهُ الْفَصَاحَةُ عِنْدَ انْبِسَاطِ الطَّبْعِ وَفَرَحِهِ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِانْقِبَاضِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَغْرَاضُهُ، فَيَمِيلُ إِلَى الشَّيْءِ مَرَّةً، وَيَمِيلُ عَنْهُ أُخْرَى، فَيُوجِبُ اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ وَالْأَغْرَاضِ اخْتِلَافًا فِي كَلَامِهِ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا تُصَادِفُ اللِّسَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهِيَ مُدَّةُ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَتَكَلَّمُ عَلَى غَرَضٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى مَنْهَجٍ وَاحِدٍ، وَلَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرًا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُ، فَلَوْ كَانَ هَذَا كَلَامَهُ أَوْ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ لَوُجِدَ فِيهِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ، فَأَمَّا اخْتِلَافُ النَّاسِ فَهُوَ تَبَايُنٌ فِي آرَاءِ النَّاسِ، لَا فِي نَفْسِ الْقُرْآنِ، وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمُرَادَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (الْبَقَرَةِ: 26)، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ؛ وَهُوَ مَعَ هَذَا سَبَبٌ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ فِي الضَّلَالِ وَالْهُدَى؛ فَلَوْ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ لَكَانَتْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ خُلْفًا، وَهِيَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الِاخْتِلَافِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: إِذَا تَعَارَضَتِ الْآيُ وَتَعَذَّرَ فِيهَا التَّرْتِيبُ [وَالْجَمْعُ] طُلِبَ التَّارِيخُ وَتُرِكَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا بِالْمُتَأَخِّرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ التَّارِيخُ وَكَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِعْمَالِ إِحْدَى الْآيَتَيْنِ، عُلِمَ بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ النَّاسِخَ مَا أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. قَالَ: وَلَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ آيَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ تَعْرَيَانِ عَنْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ. وَذَكَرُوا عِنْدَ التَّعَارُضِ مُرَجِّحَاتٍ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيمُ الْمَكِّيِّ عَلَى الْمَدَنِيِّ؛ وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَكِّيَّةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدَنِيَّةُ قَبْلَهَا، فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ عَلَى الْمَكِّيَّةِ فِي التَّخْصِيصِ وَالتَّقْدِيمِ؛ إِذْ كَانَ غَالِبُ الْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ نُزُولُهَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْآخَرُ عَلَى غَالِبِ أَحْوَالِ أَهِلِ الْمَدِينَةِ، فَيُقَدَّمُ الْحُكْمُ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ أَحْوَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (آلِ عِمْرَانَ: 97)، مَعَ قَوْلِهِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (الْبَقَرَةِ: 178)، فَإِذَا أَمْكَنَ بِنَاءُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ جُعِلَ التَّخْصِيصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (آلِ عِمْرَانَ: 97) كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ. وَمِثْلِ قَوْلِهِ: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (الْمَائِدَةِ: 95) وَنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ صَيْدِ مَكَّةَ، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (الْمَائِدَةِ: 4)، فَجَعَلَ النَّهْيَ فِيمَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحَرَمِ، وَخَصَّ مَنِ اصْطَادَهُ فِي الْحِلِّ وَأَدْخَلَهُ حَيًّا فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الظَّاهِرَيْنِ مُسْتَقِلًّا بِحُكْمِهِ؛ وَالْآخَرُ مُقْتَضِيًا لَفْظًا يُزَادُ عَلَيْهِ، فَيُقَدَّمُ الْمُسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْتِيبِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 196) مَعَ قَوْلِهِ {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (الْبَقَرَةِ: 196)، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْحَصْرِ، وَلَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ الْإِحْلَالِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لَهُ، فَيُقَدَّمُ الْمَنْعُ مِنَ الْإِحْلَالِ عِنْدَ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 196) عَلَى مَا عَارَضَهُ مِنَ الْآيَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُمُومَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى مَا قُصِدَ بِهِ فِي الظَّاهِرِ عِنْدَ الِاجْتِهَادِ، فَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْآخَرِ، كَقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (النِّسَاءِ: 23)، بِقَوْلِهِ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النِّسَاءِ: 36) فَيُخَصُّ الْجَمْعُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (النِّسَاءِ: 23) فَتُحْمَلُ آيَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْقَصْدُ فِيهَا بَيَانُ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ، وَتُحْمَلُ آيَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى زَوَالِ اللَّوْمِ فِيمَنْ أَتَى بِحَالٍ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى لَفْظٍ تَعَلَّقَ بِمَعْنَاهُ وَالْآخَرِ بِاسْمِهِ، كَقَوْلِهِ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 106) مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الْحُجُرَاتِ: 6) الْآيَةَ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْآيَةِ بِالتَّبَيُّنِ عِنْدَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٍ فَاسِقٍ عَلَى كَافِرٍ، وَأَنْ يُقْبَلَ الْكَافِرُ عَلَى الْكَافِرِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا، أَوْ يُحْمَلَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 106) عَلَى الْقَبِيلَةِ دُونَ الْمِلَّةِ، وَيُحْمَلُ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ عَلَى عُمُومِ النِّسْيَانِ فِي الْمِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى تَعْيِينِ اللَّفْظِ وَتَخْصِيصِ الْغَيْرِ بِالْقَبِيلَةِ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الِاسْمِ عَلَى عُمُومِ الْغَيْرِ. السَّادِسُ: تَرْجِيحُ مَا يُعْلَمُ بِالْخِطَابِ ضَرُورَةً عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُ ظَاهِرًا، كَتَقْدِيمِ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (الْبَقَرَةِ: 275) عَلَى قَوْلِهِ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} (الْجُمُعَةِ: 9) فَإِنَّ قَوْلَهُ: (وَأَحَلَّ) يَدُلُّ عَلَى حِلِّ الْبَيْعِ ضَرُورَةً، وَدَلَالَةُ النَّهْيِ عَلَى فَسَادِ الْبَيْعِ إِمَّا أَلَّا تَكُونَ ظَاهِرَةً أَصْلًا أَوْ تَكُونَ ظَاهِرَةً مُنْحَطَّةً عَنِ النَّصِّ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي (التَّقْرِيبِ): لَا يَجُوزُ تَعَارُضُ آيِ الْقُرْآنِ وَالْآثَارِ وَمَا تُوجِبُهُ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الزُّمَرِ: 62) مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} (الْعَنْكَبُوتِ: 17)، وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} (الْمَائِدَةِ: 110)، وَقَوْلِهِ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 14)، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَا خَالِقَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ مَا عَارَضَهُ، فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: {وَتَخْلُقُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 17)، بِمَعْنَى (تَكْذِبُونَ) لِأَنَّ الْإِفْكَ نَوْعٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} (الْمَائِدَةِ: 110) أَيْ (تُصَوِّرُ). وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْمُجَادَلَةِ: 7) لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} (يُونُسَ: 18)؛ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا مَا لَا يَعْلَمُهُ أَنَّهُ غَيْرُ كَائِنٍ، وَيُعْلِمُونَهُ وُقُوعَ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ، لَا عَلَى أَنَّ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ مَا هُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِهِ وَإِنْ عَلِمْتُمُوهُ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} (آلِ عِمْرَانَ: 5) مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (مُحَمَّدٍ: 31) وَقَوْلِهِ: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (الْقِيَامَةِ: 23)، مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (الْأَنْعَامِ: 103) فِي تَجْوِيزِ الرُّؤْيَةِ وَإِحَالَتِهَا، لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ يَقْضِي بِالْجَوَازِ، وَيَجُوزُ تَخْصِيصُ النَّفْيِ بِالدُّنْيَا وَالْإِثْبَاتِ بِالْقِيَامَةِ. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (ق: 38) مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الرُّومِ: 27) بَلْ يَجِبُ تَأْوِيلُ (أَهْوَنُ) عَلَى (هَيِّنٌ). وَلَا جَعْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (غَافِرٍ: 4) مُعَارِضًا لِأَمْرِهِ نَبِيَّهُ وَأُمَّتَهُ بِالْجِدَالِ فِي قَوْلِهِ: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النَّحْلِ: 125) فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى ذَمِّ الْجِدَالِ الْبَاطِلِ. وَلَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرَّحْمَنِ: 27) مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (الرَّحْمَنِ: 26).
وَقَدْ جَعَلُوا تَعَارُضَ الْقِرَاءَتَيْنِ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ كَقَوْلِهِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 6) بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ، وَقَالُوا: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَسْحِ الْخُفِّ، وَالثَّانِيَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلِ إِذَا لَمْ يَجِدْ مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ: (يَطْهُرْنَ) وَ (يَطَّهَّرْنَ) (الْبَقَرَةِ: 222) حَمَلَتِ الْحَنَفِيَّةُ إِحْدَاهُمَا عَلَى مَا دُونَ الْعِشْرَةِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْعِشْرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مُتَعَلِّقٌ سِوَاهُمَا تَصَدَّى لَنَا الْإِلْغَاءُ أَوِ الْجَمْعُ، فَأَمَّا إِذَا وَجَدْنَا مُتَعَلِّقًا سِوَاهُمَا، فَالْمُتَعَلِّقُ هُوَ الْمُتَّبَعُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي شَرْحِ (رِسَالَةِ الشَّافِعِيِّ): جِمَاعُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّنَاقُضِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ صَحَّ أَنْ يُضَافَ بَعْضُ مَا وَقَعَ الِاسْمُ عَلَيْهِ إِلَى وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَلَيْسَ فِيهِ تَنَاقُضٌ، وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ فِي اللَّفْظِ مَا ضَادَّهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْأَسْمَاءُ، وَلَنْ يُوجَدَ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا؛ وَإِنَّمَا يُوجَدُ فِيهِ النَّسْخُ فِي وَقْتَيْنِ، بِأَنْ يُوجِبَ حُكْمًا ثُمَّ يُحِلُّهُ أَوْ يُحَرِّمُهُ، وَهَذَا لَا تَنَاقُضَ فِيهِ وَتَنَاقُضُ الْكَلَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي إِثْبَاتِ مَا نُفِيَ، أَوْ نَفْيِ مَا أُثْبِتَ، بِحَيْثُ يَشْتَرِكُ الْمُثْبَتُ وَالْمَنْفِيُّ فِي الِاسْمِ وَالْحَدَثِ وَالزَّمَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْحَقِيقَةِ؛ فَلَوْ كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا، وَفِي الْآخَرِ مُسْتَعَارًا، وَنُفِيَ أَحَدُهُمَا، وَأُثْبِتَ الْآخَرُ لَمْ يُعَدَّ تَنَاقُضًا. هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَسْمَاءِ، وَأَمَّا الْمَعَانِي وَهُوَ بَابُ الْقِيَاسِ، فَكُلُّ مَنْ أَوْجَدَ عِلَّةً وَحَرَّرَهَا، وَأَوْجَبَ بِهَا حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ ادَّعَى تِلْكَ الْعِلَّةَ بِعَيْنِهَا فِيمَا يَأْبَاهُ الْحُكْمُ، فَقَدْ تَنَاقَضَ؛ فَإِنْ رَامَ الْفَرْقَ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ فِي فَرْقِهِ تَنَاقُضٌ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْعِلَّةِ نَقْصٌ، أَوْ تَقْصِيرٌ عَنْ تَحْرِيرِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى السَّائِلِ. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا فَلَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُسْأَلَ فِيمَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ عَنْهُ أَوْ لَا، فَأَمَّا الْمُسْتَحِقُّ لِلْجَوَابِ فَهُوَ مَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ وَيَجُوزُ، وَأَمَّا مَا اسْتَحَالَ كَوْنُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْقِيَامُ وَالْقُعُودُ، فَسَأَلَ: هَلْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ قَائِمًا مُنْتَصِبًا جَالِسًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَدْ أَحَالَ وَسَأَلَ عَنْ مُحَالٍ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ. فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ الْقِيَامَ وَالْقُعُودَ عُرِّفَ، فَإِذَا عَرَفَهُ فَقَدِ اسْتَحَالَ عِنْدَهُ مَا سَأَلَهُ. قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتُ كَثِيرًا مِمَّا يَتَعَاطَى الْعِلْمَ يَسْأَلُ عَنِ الْمُحَالِ- وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُحَالٌ- وَيُجَابُ عَنْهُ، وَالْآفَاتُ تَدْخُلُ عَلَى هَؤُلَاءِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِحَقِّ الْكَلَامِ.
وَلِلِاخْتِلَافِ أَسْبَابٌ: الْأَوَّلُ: وُقُوعُ الْمُخْبَرِ بِهِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ وَتَطْوِيرَاتٍ شَتَّى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ آدَمَ إِنَّهُ: مِنْ تُرَابٍ (آلِ عِمْرَانَ: 59)، وَمَرَّةً: {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (الْحِجْرِ: 26، 28، 33)، وَمَرَّةً: {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} (الصَّافَّاتِ: 11)، وَمَرَّةً مِنْ: {صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} (الرَّحْمَنِ: 14)، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُخْتَلِفَةٌ وَمَعَانِيهَا فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ الصَّلْصَالَ غَيْرُ الْحَمَأِ، وَالْحَمَأَ غَيْرُ التُّرَابِ؛ إِلَّا أَنَّ مَرْجِعَهَا كُلِّهَا إِلَى جَوْهَرٍ وَهُوَ التُّرَابُ، وَمِنَ التُّرَابِ تَدَرَّجَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} (الشُّعَرَاءِ: 32) وَفِي مَوْضِعٍ: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} (الْقَصَصِ: 31) وَالْجَانُّ: الصَّغِيرُ مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالثُّعْبَانُ الْكَبِيرُ مِنْهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ خَلْقَهَا خَلْقُ الثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ، وَاهْتِزَازَهَا وَحَرَكَاتِهَا وَخِفَّتَهَا كَاهْتِزَازِ الْجَانِّ وَخِفَّتِهِ. السَّبَبُ الثَّانِي: لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} (الصَّافَّاتِ: 24) وَقَوْلِهِ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (الْأَعْرَافِ: 6) مَعَ قَوْلِهِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (الرَّحْمَنِ: 39) قَالَ الْحَلِيمِيُّ: فَتُحْمَلُ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى السُّؤَالِ عَنِ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، وَالثَّانِيَةُ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ الْإِقْرَارَ بِالنُّبُوَّاتِ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَحَمَلَهُ غَيْرُهُ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيَامَةِ مَوَاقِفَ كَثِيرَةً، فَمَوْضِعٌ يُسْأَلُ وَيُنَاقَشُ، وَمَوْضِعٌ آخَرُ يُرْحَمُ وَيُلْطَفُ بِهِ، وَمَوْضِعٌ آخَرُ يُعَنَّفُ وَيُوَبَّخُ- وَهُمُ الْكُفَّارُ- وَمَوْضِعٌ آخَرُ لَا يُعَنَّفُ- وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَقَوْلِهِ: {وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الْبَقَرَةِ: 174) مَعَ قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الْحِجْرِ: 92 وَ 93) وَقِيلَ: الْمَنْفِيُّ كَلَامُ التَّلَطُّفِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْمُثْبَتُ سُؤَالُ التَّوْبِيخِ وَالْإِهَانَةِ، فَلَا تَنَافِيَ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشُّورَى: 40) مَعَ قَوْلِهِ: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ (هُودٌ: 20) وَالْجَوَابُ: إِنَّ التَّضْعِيفَ هُنَا لَيْسَ عَلَى حَدِّ التَّضْعِيفِ فِي الْحَسَنَاتِ؛ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ لِتَضَاعِيفِ مُرْتَكَبَاتِهِمْ؛ فَكَانَ لِكُلِّ مُرْتَكِبٍ مِنْهَا عَذَابٌ يَخُصُّهُ، فَلَيْسَ التَّضْعِيفُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ عَلَى مَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ الْآخَرِ؛ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ هُنَا تَكْثِيرُهُ بِحَسْبِ كَثْرَةِ الْمُجْتَرَحَاتِ؛ لِأَنَّ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ يُضَاعَفُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (هُودٍ: 18 وَ 19) فَهَؤُلَاءِ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ، وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وَبَغَوْهَا عِوَجًا وَكَفَرُوا، فَهَذِهِ مُرْتَكَبَاتٌ عُذِّبُوا بِكُلِّ مُرْتَكَبٍ مِنْهَا. وَكَقَوْلِهِ: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (الْأَنْعَامِ: 23)، مَعَ قَوْلِهِ: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (النِّسَاءِ: 42) فَإِنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَتَمُوا كُفْرَهُمُ السَّابِقَ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْقِيَامَةِ مُوَاطِنَ فَفِي بَعْضِهَا يَقَعُ مِنْهُمُ الْكَذِبُ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَقَعُ كَمَا سَبَقَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَذِبَ يَكُونُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَالصِّدْقَ يَكُونُ مِنْ جَوَارِحِهِمْ، فَيَأْمُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى بِالنُّطْقِ، فَتَنْطِقُ بِالصِّدْقِ. وَكَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} (الْأَنْعَامِ: 164)، مَعَ قَوْلِهِ: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (الْبَقَرَةِ: 286) وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ: لَا تَكْسِبُ شَرًّا وَلَا إِثْمًا؛ بِدَلِيلِ سَبَبِ النُّزُولِ أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى (تَجْنِي) وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتُصِرَ فِيهَا عَلَى الشَّرِّ وَالْأُخْرَى ذُكِرَ فِيهَا الْأَمْرَانِ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ الْقِسْمَيْنِ ذَكَرَ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَهَاهُنَا لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَحَدِهِمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ بِـ (فَعَلَ) وَلَمْ يَأْتِ بِـ (افْتَعَلَ). وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 102) مَعَ قَوْلِهِ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التَّغَابُنِ: 16) يُحْكَى عَنِ الشَّيْخِ الْعَارِفِ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذِلِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا؛ فَحَمَلَ الْآيَةَ الْأُولَى عَلَى التَّوْحِيدِ، وَالثَّانِيَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ الْأُولَى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آلِ عِمْرَانَ: 102). وَقِيلَ: بَلِ الثَّانِيَةُ نَاسِخَةٌ؛ قَالَ ابْنُ الْمُنَيِّرِ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 102) إِنَّمَا نُسِخَ حُكْمُهُ لَا فَضْلُهُ وَأَجْرُهُ؛ وَقَدْ فَسَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَقَّ تُقَاتِهِ بِأَنْ قَالَ: (هُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ)، فَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَنَزَلَتْ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التَّغَابُنِ: 16) وَكَانَ التَّكْلِيفُ أَوَّلًا بِاسْتِيعَابِ الْعُمُرِ بِالْعِبَادَةِ بِلَا فَتْرَةٍ وَلَا نُعَاسٍ، كَمَا كَانَتِ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، ثُمَّ صَارَتْ بِحَسْبِ الِاسْتِطَاعَةِ خَمْسًا، وَالِاقْتِدَارُ مُنَزَّلٌ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلَمْ يَنْحَطَّ عَنْ دَرَجَاتِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ الزَّمْلَكَانِيُّ: وَفِي كَوْنِ ذَلِكَ مَنْسُوخًا نَظَرٌ، وَقَوْلُهُ: (مَا اسْتَطَعْتُمْ) هُوَ (حَقَّ تُقَاتِهِ) إِذْ بِهِ أَمَرَ، فَإِنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ الْوُقُوفُ عَلَى أَمْرِهِ وَدِينِهِ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنَيِّرِ فِي تَفْسِيرِهِ: " حَقَّ تُقَاتِهِ " لَمْ يَثْبُتْ مَرْفُوعًا؛ بَلْ هُوَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُ الصَّحَابَةِ: (أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ) وَنُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النِّسَاءِ: 3) مَعَ قَوْلِهِ فِي أَوَاخِرِ السُّورَةِ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النِّسَاءِ: 129) فَالْأُولَى تُفْهِمُ إِمْكَانَ الْعَدْلِ، وَالثَّانِيَةُ تَنْفِيهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَدْلِ فِي الْأُولَى الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ فِي تَوْفِيَةِ حُقُوقِهِنَّ؛ وَهَذَا مُمْكِنُ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ الْمَيْلُ الْقَلْبِيُّ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَمْلِكُ مَيْلَ قَلْبِهِ إِلَى بَعْضِ زَوْجَاتِهِ دُونَ بَعْضٍ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِي مَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا لَا أَمْلِكُ)- يَعْنِي مَيْلَ الْقَلْبِ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: (اللَّهُ، قَلْبِي فَلَا أَمْلِكُهُ، وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَأَرْجُو أَنْ أَعْدِلَ). وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ فِي الثَّانِيَةِ الْعَدْلَ التَّامَّ، أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَدْ يَحْتَاجُ الِاخْتِلَافُ إِلَى تَقْدِيرٍ فَيَرْتَفِعُ بِهِ الْإِشْكَالُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (النِّسَاءِ: 95)، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ} (النِّسَاءِ: 95- 96) وَالْأَصْلُ فِي الْأُولَى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً، وَالْأَصْلُ فِي الثَّانِيَةِ: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنَ الْأَصِحَّاءِ دَرَجَاتٍ. وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَحْذُوفَ كَذَلِكَ الْإِمَامُ بَدْرُ الدِّينِ بْنُ مَالِكٍ فِي (شَرْحِ الْخُلَاصَةِ) فِي الْكَلَامِ عَلَى حَذْفِ النَّعْتِ. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ فِيهِ كَلَامٌ آخَرُ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الْأَعْرَافِ: 28) مَعَ قَوْلِهِ: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} (الْإِسْرَاءِ: 16) وَالْمَعْنَى: أَمَّرْنَاهُمْ وَمَلَّكْنَاهُمْ وَأَرَدْنَا مِنْهُمُ الصَّلَاحَ فَأَفْسَدُوا، وَالْمُرَادُ بِالْأَمْرِ فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِهِ شَرْعًا وَلَكِنْ قَضَاءً، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَجْرِيَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرِ الْكَوْنِيِّ وَالدِّينِيِّ. الثَّالِثُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِهَتَيِ الْفِعْلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 17) أُضِيفَ الْقَتْلُ إِلَيْهِمْ عَلَى جِهَةِ الْكَسْبِ وَالْمُبَاشَرَةِ، وَنَفَاهُ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّأْثِيرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ الْأَفْعَالَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى مُكْتَسَبَةٌ لِلْآدَمِيِّينَ، فَنَفِيُ الْفِعْلِ بِإِحْدَى الْجِهَتَيْنِ لَا يُعَارِضُهُ إِثْبَاتُهُ بِالْجِهَةِ الْأُخْرَى. وَكَذَا قَوْلُهُ: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الْأَنْفَالِ: 17) أَيْ مَا رَمَيْتَ خَلْقًا إِذَا رَمَيْتَ كَسْبًا. وَقِيلَ: إِنَّ الرَّمْيَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْقَبْضِ وَالْإِرْسَالِ؛ وَهُمَا بِكَسْبِ الرَّامِي، وَعَلَى التَّبْلِيغِ وَالْإِصَابَةِ، وَهُمَا بِفِعْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: وَهِيَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَى نَبِيِّهِ ثُمَّ نَفَاهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ فِعْلٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْصِيلُ إِلَيْهِمْ، وَمِنْ نَبِيِّهِ بِالْحَذْفِ وَالْإِرْسَالِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا لَزِمَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمُكْتَسَبَةِ، فَمِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْإِنْشَاءُ وَالْإِيجَادُ وَمِنَ الْخَلْقِ الِاكْتِسَابُ بِالْقُوَى. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النِّسَاءِ: 34)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (الْبَقَرَةِ: 238) فَقِيَامُ الِانْتِصَابِ لَا يُنَافِي الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ لِاخْتِلَافِ جِهَتَيِ الْفِعْلِ. الرَّابِعُ: لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} (الْحَجِّ: 2)، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إِبْرَاهِيمَ: 17) وَهُوَ يَرْجِعُ لِقَوْلِ الْمَنَاطِقَةِ: الِاخْتِلَافُ بِالْإِضَافَةِ؛ أَيْ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مَجَازًا، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْخَمْرِ حَقِيقَةً. وَمِثْلُهُ فِي الِاعْتِبَارَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (الْبَقَرَةِ: 8)، وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (الْأَنْفَالِ: 21)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (الْأَعْرَافِ: 198) فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ النَّظَرِ نَفْيُ الْإِبْصَارِ لِجَوَازِ قَوْلِهِمْ: (نَظَرْتُ إِلَيْهِ فَلَمْ أُبْصِرْهُ). الْخَامِسُ: بِوَجْهَيْنِ وَاعْتِبَارَيْنِ، وَهُوَ الْجَامِعُ لِلْمُفْتَرَقَاتِ، كَقَوْلِهِ: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 22)، وَقَالَ: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} (الشُّورَى: 45)، قَالَ قُطْرُبٌ: فَبَصَرُكَ أَيْ عِلْمُكَ وَمَعْرِفَتُكَ بِهَا قَوِيَّةٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ: (بَصُرَ بِكَذَا وَكَذَا) أَيْ عَلِمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ رُؤْيَةَ الْعَيْنِ، قَالَ الْفَارِسِيُّ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ (ق: 22) وَصَفَ الْبَصَرَ بِالْحِدَّةِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} (الْأَعْرَافِ: 127)، مَعَ قَوْلِهِ: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (النَّازِعَاتِ: 24) فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، إِنْ سَاغَ لَهُمْ، وَتَكُونُ إِضَافَةُ الْآلِهَةِ إِلَيْهِ مِلْكًا، كَانَ يُعْبَدُ فِي دِينِ قَوْمِهِ ثُمَّ يَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مَوَالِي مِنْ فَوْقَ، وَمَوَالِي مِنْ أَسْفَلَ، فَيَكُونُ اعْتِقَادُهُمْ فِي الْآلِهَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ، فَيَحْسُنُ قَوْلُهُمْ: (وَآلِهَتَكَ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} (الرَّعْدِ: 28) مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الْأَنْفَالِ: 2)، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ الْوَجَلَ خِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ بِمَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ، وَالْوَجَلُ يَكُونُ عِنْدَ خَوْفِ الزَّيْغِ وَالذَّهَابِ عَنِ الْهُدَى، فَتَوْجَلُ الْقُلُوبُ لِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزُّمَرِ: 23) فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَوَثِقُوا بِهِ، فَانْتَفَى عَنْهُمُ الشَّكُّ. وَكَقَوْلِهِ: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (الْمَعَارِجِ: 4) وَفِي مَوْضِعٍ: {أَلْفَ سَنَةٍ} (السَّجْدَةِ: 5) وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ؛ بِدَلِيلِ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (الْفُرْقَانِ: 26). وَكَقَوْلِهِ: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدَفِينَ) (الْأَنْفَالِ: 9) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 124) قِيلَ إِنَّ الْأَلْفَ أَرْدَفَهُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ، وَكَانَ الْأَكْثَرُ مَدَدًا لِلْأَقَلِّ، وَكَانَ (الْأَلْفُ مُرْدَفِينَ) بِفَتْحِهَا. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 29) وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النَّازِعَاتِ: 30) وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا؛ فَالْأَوَّلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، ثُمَّ دُحِيَتِ الْأَرْضُ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَبِذَلِكَ تَتَّفِقُ مَعَانِي الْآيَاتِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالنَّازِعَاتِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (ق: 38)، وَقَوْلِهِ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (فُصِّلَتْ: 9 وَ 10) إِلَى قَوْلِهِ: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فُصِّلَتْ: 12) وَذَلِكَ يَبْلُغُ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} مَعَ الْيَوْمَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَلَمْ يُرِدْ بِذِكْرِ (الْأَرْبَعَةِ) غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ؛ وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْفَصِيحُ: (سِرْتُ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى بَغْدَادَ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ)، (وَسِرْتُ إِلَى الْكُوفَةِ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا) وَلَا يُرِيدُ سِوَى الْعَشَرَةِ، بَلْ يُرِيدُ مَعَ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةً، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وَأَرَادَ سِوَى الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ يَكُونُ سِتَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي السَّجْدَةِ: {عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (الْآيَةَ: 20) بِلَفْظِ (الَّذِي) عَلَى وَصْفِ الْعَذَابِ، وَفِي سَبَأٍ: عَذَابَ النَّارِ الَّتِي (الْآيَةَ: 42) بِلَفْظِ (الَّتِي) عَلَى وَصْفِ النَّارِ، وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ وَصَفَ الْعَذَابَ فِي السَّجْدَةِ لِوُقُوعِ (النَّارِ) مَوْقِعَ الضَّمِيرِ الَّذِي لَا يُوصَفُ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ مَوْقِعَ الضَّمِيرِ لِتَقَدُّمِ إِضْمَارِهَا، مَعَ قَوْلِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (السَّجْدَةِ: 20) فَحَقُّ الْكَلَامِ: (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَهَا)، فَلَمَّا وَضَعَهَا مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ عَدَلَ إِلَى وَصْفِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا مَا فِي (سَبَأٍ) فَوَصَفَهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ وَصْفِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الَّذِي فِي (السَّجْدَةِ) وَصْفُ النَّارِ أَيْضًا، وَذُكِرَ حَمْلًا عَلَى مَعْنَى الْجَحِيمِ وَالْحَرِيقِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي فِي (السَّجْدَةِ) فِي حَقِّ مَنْ يُقِرُّ بِالنَّارِ وَيَجْحَدُ الْعَذَابَ، وَفِي (سَبَأٍ) فِي حَقِّ مَنْ يَجْحَدُ أَصْلَ النَّارِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ الْعَذَابَ فِي السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ النَّارِ مُضْمَرًا وَمُظْهَرًا عَدَلَ إِلَى وَصْفِ الْعَذَابِ، لِيَكُونَ تَلْوِينًا لِلْخِطَابِ، فَيَكُونَ أَنْشَطَ لِلسَّامِعِ بِمَنْزِلَةِ الْعُدُولِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الْأَنْعَامِ: 61)، وَقَوْلُهُ: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (النَّحْلِ: 28)، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} (السَّجْدَةِ: 11)، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (الزُّمَرِ: 42)، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} (الْأَنْعَامِ: 60)، وَجَمَعَ الْبَغَوِيُّ بَيْنَهَا، لِأَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ بِالْقَبْضِ وَالنَّزْعِ، وَتَوَفِّيَ مَلَكِ الْمَوْتِ بِالدُّعَاءِ وَالْأَمْرِ، يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَتُجِيبُهُ، ثُمَّ يَأْمُرُ أَعْوَانَهُ بِقَبْضِهَا، وَتَوَفِّيَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَلْقُ الْمَوْتِ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ: {فَاتَّقُوا النَّارَ} (الْآيَةَ: 24)، وَفِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {نَارًا} (الْآيَةَ: 6) بِالتَّنْكِيرِ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ آيَةِ الْبَقَرَةِ، فَلَمْ تَكُنِ النَّارُ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ مَعْرُوفَةً فَنَكَّرَهَا، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ بِالْمَدِينَةِ مُشَارًا بِهَا إِلَى مَا عَرَفُوهُ أَوَّلًا. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (الْآيَةَ: 126) وَفِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} (إِبْرَاهِيمَ: 35)؛ لِأَنَّهُ فِي الدَّعْوَةِ الْأَوْلَى كَانَ مَكَانًا، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَهُ بَلَدًا آمِنًا، وَفِي الدَّعْوَةِ الثَّانِيَةِ كَانَ بَلَدًا غَيْرَ آمِنٍ، فَعَرَّفَهُ وَطَلَبَ لَهُ الْأَمْنَ، أَوْ كَانَ بَلَدًا آمِنًا وَطَلَبَ ثَبَاتَ الْأَمْنِ وَدَوَامَهُ، وَكَوْنُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَدَنِيَّةً وَسُورَةِ إِبْرَاهِيمَ مَكِّيَّةً لَا يُنَافِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ كَوْنُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ. أَوْ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ مِنْهُ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَيَكُونُ الْمَدَنِيُّ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، وَمِنْهُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَدَنِيِّ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْمَكِّيِّ الَّذِي نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَمِمَّا اسْتَشْكَلُوهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} (الْكَهْفِ: 55) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِيمَانِ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (الْإِسْرَاءِ: 94) فَهَذَا حَصْرٌ فِي ثَالِثٍ غَيْرِهِمَا. وَأَجَابَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِلَّا إِرَادَةُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةٌ مِنَ الْخَسْفِ وَغَيْرِهِ، {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} فِي الْآخِرَةِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَهُمْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى مَانِعَةٌ مِنْ وُقُوعِ مَا يُنَافِي الْمُرَادَ، فَهَذَا حَصْرٌ فِي السَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَانِعُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} إِلَّا اسْتِغْرَابُ بَعْثِهِ بَشَرًا رَسُولًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ لَيْسَ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِغْرَابِ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْمَانِعِيَّةِ، وَاسْتِغْرَابُهُمْ لَيْسَ مَانِعًا حَقِيقِيًّا بَلْ عَادِيًّا، لِجَوَازِ خُلُوِّ الْإِيمَانِ مَعَهُ؛ بِخِلَافِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهَذَا حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْعَادِيِّ، وَالْأُولَى حَصْرٌ فِي الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا تَنَافِيَ، انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: (لَيْسَ مَانِعًا مِنَ الْإِيمَانِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إِنْكَارَهُمْ بَعْثَهُ بَشَرًا رَسُولًا كُفْرٌ مَانِعٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَفِيهِ تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ إِنْكَارَهُمْ بِعْثَتَهُ مَانِعٌ مِنَ الْإِيمَانِ.
|