الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
وَمِنْ فَوَائِدِهِ مَعْرِفَةُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَالْمَكِّيُّ أَكْثَرُ مِنَ الْمَدَنِيِّ. اعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ اصْطِلَاحَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَالثَّانِي- وَهُوَ الْمَشْهُورُ-: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَالْمَدَنِيَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمَكِّيَّ مَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَالْمَدَنِيَّ مَا وَقَعَ خِطَابًا لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الْآتِي؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ الْكُفْرُ فَخُوطِبُوا بِـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ دَاخِلًا فِيهَا، وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْإِيمَانَ؛ فَخُوطِبُوا بِـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ دَاخِلًا فِيهِمْ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ " الْبَقَرَةِ " مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ إِلَّا آيَةً، وَهِيَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (الْآيَةَ: 281)، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى. انْتَهَى. وَنُزُولُهَا هُنَاكَ لَا يُخْرِجُهَا عَنِ الْمَدَنِيِّ لِاصْطِلَاحِ الثَّانِي أَنَّ مَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَدَنِيٌّ؛ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ ": " هِيَ مَدَنِيَّةٌ، إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ فِي عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ حِينَ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ، وَيُسَلِّمَهَا إِلَى الْعَبَّاسِ، فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النِّسَاءِ: 58)، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْ جُمْلَةِ عَلَامَاتِهِ: أَنَّ كُلَّ سُورَةٍ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، وَلَيْسَ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَفِي " الْحَجِّ " اخْتِلَافٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا {كَلَّا} فَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا " الْبَقَرَةَ " وَ " آلِ عِمْرَانَ "، وَفِي " الرَّعْدِ " خِلَافٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى " الْبَقَرَةِ "، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْمُنَافِقِينَ فَمَدَنِيَّةٌ سِوَى " الْعَنْكَبُوتِ ". وَقَالَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ: كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَتْ فِيهَا الْحُدُودُ وَالْفَرَائِضُ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ إِلَى يَحْيَى بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: " مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَمَا نَزَلَ فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَهُوَ مِنَ الْمَكِّيِّ، وَمَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَهُوَ مِنَ الْمَدَنِيِّ، وَمَا كَانَ مِنَ الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَهُوَ مَدَنِيٌّ، وَمَا كَانَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فَهُوَ مَكِّيٌّ. وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: " مَا كَانَ مِنْ حَدٍّ أَوْ فَرِيضَةٍ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ الْأُمَمِ وَالْعَذَابِ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ بِمَكَّةَ ". وَقَالَ الْجَعْبَرِيُّ: لِمَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ طَرِيقَانِ: سَمَاعِيٌّ وَقِيَاسِيٌّ؛ فَالسَّمَاعِيُّ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا نُزُولُهُ بِأَحَدِهِمَا، وَالْقِيَاسِيُّ قَالَ عَلْقَمَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: " كُلُّ سُورَةٍ فِيهَا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فَقَطْ أَوْ {كَلَّا} أَوْ أَوَّلُهَا حُرُوفُ تَهَجٍّ سِوَى الزَّهْرَاوَيْنِ وَ " الرَّعْدِ " فِي وَجْهٍ، أَوْ فِيهَا قِصَّةُ آدَمَ وَإِبْلِيسَ سِوَى الطُّولَى فَهِيَ مَكِّيَّةٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا قَصَصُ " الْأَنْبِيَاءِ " وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَكِّيَّةٌ، وَكُلُّ سُورَةٍ فِيهَا فَرِيضَةٌ أَوْ حَدٌّ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ". انْتَهَى. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُصَنَّفِهِ " فِي كِتَابِ " فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ": حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ الْأَعْمَشِ، عَنْ " إِبْرَاهِيمَ " عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فَهُوَ بِمَكَّةَ، وَكُلُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، فَهُوَ بِالْمَدِينَةِ " وَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ أُسْنِدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " فِي آخِرِ كِتَابِ الْهِجْرَةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِهِ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي أَوَاخِرَ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يَرْوِيهِ غَيْرُ قَيْسٍ عَنْ عَلْقَمَةَ مُرْسَلًا، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إِلَّا قَيْسٌ. انْتَهَى. وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي " تَفْسِيرِهِ " فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ نَحْوَهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَنَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ إِنْ أَخَذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ سُورَةَ " الْبَقَرَةِ " مَدَنِيَّةٌ، وَفِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (الْبَقَرَةِ: 21)، وَفِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (الْآيَةَ: 168)، وَسُورَةَ " النِّسَاءِ " مَدَنِيَّةٌ، وَفِيهَا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (الْآيَةَ: 1)، وَفِيهَا: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ} (الْآيَةَ: 133)، وَسُورَةَ " الْحَجِّ " مَكِّيَّةٌ، وَفِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (الْآيَةَ: 77)، فَإِنْ أَرَادَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْغَالِبَ ذَلِكَ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلِذَا قَالَ مَكِّيٌّ: " هَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَكْثَرِ وَلَيْسَ بِعَامٍّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ". انْتَهَى. وَالْأَقْرَبُ تَنْزِيلُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَكِّيٌّ وَمَدَّنِيٌّ، عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ الْمَقْصُودُ بِهِ- أَوْ جُلُّ الْمَقْصُودِ بِهِ- أَهْلُ مَكَّةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِي تَفْسِيرِ الرَّازِيِّ: " عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ: أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مَكِّيٌّ، وَمَا كَانَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} فَبِالْمَدِينَةِ- وَأَنَّ الْقَاضِيَ قَالَ- إِنْ كَانَ الرُّجُوعُ فِي هَذَا إِلَى النَّقْلِ فَمُسَلَّمٌ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ حُصُولَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى الْكَثْرَةِ دُونَ مَكَّةَ فَضَعِيفٌ؛ إِذْ يَجُوزُ خِطَابُ الْمُؤْمِنِينَ بِصِفَتِهِمْ وَاسْمِهِمْ وَجِنْسِهِمْ، وَيُؤْمَرُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْعِبَادَةِ، كَمَا يُؤْمَرُ الْمُؤْمِنُونَ بِالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا وَالِازْدِيَادِ مِنْهَا. انْتَهَى.
وَيَقَعُ السُّؤَالُ فِي أَنَّهُ: هَلْ نَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيَانِ ذَلِكَ أَيِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ ": إِنَّمَا هَذَا يَرْجِعُ لِحِفْظِ الصَّحَابَةِ وَتَابِعِيهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْعَادَةِ مِنْ مَعْرِفَةِ مُعَظِّمِي الْعَالِمِ وَالْخَطِيبِ، وَأَهْلِ الْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ كَلَامِهِ، وَمَعْرِفَةِ كُتُبِهِ وَمُصَنَّفَاتِهِ، مِنْ أَنْ يَعْرِفُوا مَا صَنَّفَهُ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَحَالُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ أَمْثَلُ، وَالْحِرْصُ عَلَيْهِ أَشَدُّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ، وَلَا وَرَدَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ قَدْرَ مَا نَزَلَ عَلَيَّ بِمَكَّةَ كَذَا، وَبِالْمَدِينَةِ كَذَا، وَفَصَّلَهُ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لَظَهَرَ وَانْتَشَرَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَفْعَلْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ عِلْمَ ذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الْأُمَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ فِي بَعْضِهِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مَعْرِفَةُ تَارِيخِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ؛ لِيُعْرَفَ الْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُمَا، فَقَدْ يُعْرَفُ ذَلِكَ بِغَيْرِ نَصِّ الرَّسُولِ بِعَيْنِهِ، وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ الْمَكِّيُّ، وَهَذَا هُوَ الْآخِرُ الْمَدَنِيُّ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَبِرُوا أَنَّ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ تَفْصِيلَ جَمِيعِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ مِمَّا لَا يَسُوغُ الْجَهْلُ بِهِ، لَمْ تَتَوَفَّرِ الدَّوَاعِي عَلَى إِخْبَارِهِمْ بِهِ، وَمُوَاصَلَةِ ذِكْرِهِ عَلَى أَسْمَاعِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِمَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ سَاغَ أَنْ يَخْتَلِفَ فِي بَعْضِ الْقُرْآنِ: هَلْ هُوَ مَكِّيٌّ أَوْ مَدَنِيٌّ؟ وَأَنْ يَعْمَلُوا فِي الْقَوْلِ بِذَلِكَ ضَرْبًا مِنَ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَحِينَئِذٍ فَلَمْ يَلْزَمِ النَّقْلَ عَنْهُمْ ذِكْرُ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَنْ يَعْرِفَ كُلَّ آيَةٍ أُنْزِلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِهِ مَكِّيَّةً أَوْ مَدَنِيَّةً، فَيَجُوزُ أَنْ يَقِفَ فِي ذَلِكَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ بَطَلَ مَا تَوَهَّمُوهُ مِنْ وُجُوبِ نَقْلِ هَذَا أَوْ شُهْرَتِهِ فِي النَّاسِ، وَلُزُومِ الْعِلْمِ بِهِ لَهُمْ، وَوُجُوبِ ارْتِفَاعِ الْخِلَافِ فِيهِ.
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ " التَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِ عُلُومِ الْقُرْآنِ ": مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِ الْقُرْآنِ عِلْمُ نُزُولِهِ وَجِهَاتِهِ وَتَرْتِيبِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ؛ ابْتِدَاءً وَوَسَطًا وَانْتِهَاءً، وَتَرْتِيبِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ كَذَلِكَ، ثُمَّ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَحُكْمُهُ مَدَنِيٌّ، وَمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ وَحُكْمُهُ مَكِّيٌّ، وَمَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ مَا يُشْبِهُ نُزُولَ الْمَكِّيِّ فِي الْمَدَنِيِّ، وَمَا يُشْبِهُ نُزُولَ الْمَدَنِيِّ فِي الْمَكِّيِّ، ثُمَّ مَا نَزَلَ بِالْجُحْفَةِ، وَمَا نَزَلَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَمَا نَزَلَ بِالطَّائِفِ، وَمَا نَزَلَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ مَا نَزَلَ لَيْلًا، وَمَا نَزَلَ نَهَارًا، وَمَا نَزَلَ مُشَيَّعًا، وَمَا نَزَلَ مُفْرَدًا، ثُمَّ الْآيَاتِ الْمُدْنِيَاتِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَالْآيَاتِ الْمَكِّيَّةِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، ثُمَّ مَا حُمِلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَمَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، وَمَا حُمِلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، ثُمَّ مَا نَزَلَ مُجْمَلًا، وَمَا نَزَلَ مُفَسَّرًا، وَمَا نَزَلَ مَرْمُوزًا، ثُمَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَدَنِيٌّ. هَذِهِ خَمْسَةُ وَعِشْرُونَ وَجْهًا، مَنْ لَمْ يَعْرِفْهَا وَيُمَيِّزْ بَيْنَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، ثُمَّ: {ن وَالْقَلَمِ}، ثُمَّ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، ثُمَّ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، ثُمَّ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}، ثُمَّ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، ثُمَّ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ثُمَّ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، ثُمَّ: {وَالْفَجْرِ}، ثُمَّ: {وَالضُّحَى}، ثُمَّ: {أَلَمْ نَشْرَحْ}، ثُمَّ: {وَالْعَصْرِ}، ثُمَّ: {وَالْعَادِيَاتِ}، ثُمَّ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، ثُمَّ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، ثُمَّ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي}، ثُمَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، ثُمَّ " سُورَةُ الْفِيلِ "، ثُمَّ " الْفَلَقِ "، ثُمَّ " النَّاسِ "، ثُمَّ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثُمَّ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}، ثُمَّ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، ثُمَّ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ}، ثُمَّ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، ثُمَّ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، ثُمَّ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، ثُمَّ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ}، ثُمَّ " الْقَارِعَةِ "، ثُمَّ: " لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ "، ثُمَّ " الْهُمَزَةِ "، ثُمَّ " الْمُرْسَلَاتِ "، ثُمَّ " ق وَالْقُرْآنِ "، ثُمَّ " لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ "، ثُمَّ " الطَّارِقِ "، ثُمَّ " اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ "، ثُمَّ " ص وَالْقُرْآنِ "، ثُمَّ " الْأَعْرَافِ "، ثُمَّ " الْجِنِّ "، ثُمَّ " يس "، ثُمَّ " الْفُرْقَانِ "، ثُمَّ " الْمَلَائِكَةِ "، ثُمَّ " مَرْيَمَ "، ثُمَّ " طه "، ثُمَّ " الْوَاقِعَةِ "، ثُمَّ " الشُّعَرَاءِ "، ثُمَّ " النَّمْلِ "، ثُمَّ " الْقَصَصِ "، ثُمَّ " بَنِي إِسْرَائِيلَ "، ثُمَّ " يُونُسَ "، ثُمَّ " هُودٍ "، ثُمَّ يُوسُفَ "، ثُمَّ " الْحِجْرِ "، ثُمَّ " الْأَنْعَامِ "، ثُمَّ " الصَّافَّاتِ "، ثُمَّ " لُقْمَانَ "، ثُمَّ " سَبَأٍ "، ثُمَّ " الزُّمَرِ "، ثُمَّ " حم الْمُؤْمِنِ "، ثُمَّ " حم السَّجْدَةِ "، ثُمَّ " حم عسق "، ثُمَّ " حم الزُّخْرُفِ "، ثُمَّ " حم الدُّخَانِ "، ثُمَّ " حم الْجَاثِيَةِ "، ثُمَّ " حم الْأَحْقَافِ "، ثُمَّ " وَالذَّارِيَاتِ "، ثُمَّ " الْغَاشِيَةِ "، ثُمَّ " الْكَهْفِ "، ثُمَّ " النَّحْلِ "، ثُمَّ " نُوحٍ " ثُمَّ " إِبْرَاهِيمَ "، ثُمَّ " الْأَنْبِيَاءِ "، ثُمَّ " الْمُؤْمِنُونَ "، ثُمَّ " الم تَنْزِيلُ "، ثُمَّ " وَالطُّورِ "، ثُمَّ " الْمُلْكِ "، ثُمَّ " الْحَاقَّةُ "، ثُمَّ " سَأَلَ سَائِلٌ "، ثُمَّ " عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ "، ثُمَّ " وَالنَّازِعَاتِ "، ثُمَّ " إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ "، ثُمَّ " إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ "، ثُمَّ " الرُّومِ ". وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هِيَ " الْعَنْكَبُوتِ ". وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ: " الْمُؤْمِنُونَ ". وَقَالَ مُجَاهِدٌ: " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ". فَهَذَا تَرْتِيبُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ بِمَكَّةَ، وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَةُ مِنَ الثِّقَاتِ، وَهِيَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً.
وَهُوَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً فَأَوَّلُ مَا نَزَلَ فِيهَا " سُورَةُ الْبَقَرَةِ "، ثُمَّ " الْأَنْفَالِ "، ثُمَّ " آلِ عِمْرَانَ "، ثُمَّ " الْأَحْزَابِ "، ثُمَّ " الْمُمْتَحِنَةِ "، ثُمَّ " النِّسَاءِ "، ثُمَّ " إِذَا زُلْزِلَتْ "، ثُمَّ " الْحَدِيدِ "، ثُمَّ " مُحَمَّدٍ " ثُمَّ " الرَّعْدِ "، ثُمَّ " الرَّحْمَنِ "، ثُمَّ " هَلْ أَتَى "، ثُمَّ " الطَّلَاقِ "، ثُمَّ " لَمْ يَكُنْ "، ثُمَّ " الْحَشْرِ "، ثُمَّ " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ "، ثُمَّ " النُّورِ "، ثُمَّ " الْحَجِّ "، ثُمَّ " الْمُنَافِقُونَ "، ثُمَّ " الْمُجَادَلَةِ "، ثُمَّ " الْحُجُرَاتِ "، ثُمَّ " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ " " التَّحْرِيمِ "، ثُمَّ " الصَّفِّ "، ثُمَّ " الْجُمُعَةِ "، ثُمَّ " التَّغَابُنِ "، ثُمَّ " الْفَتْحِ "، ثُمَّ " التَّوْبَةِ " ثُمَّ " الْمَائِدَةِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ " الْمَائِدَةِ " عَلَى " التَّوْبَةِ ". وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ " الْمَائِدَةِ " فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ نُزُولًا سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا. فَهَذَا تَرْتِيبُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ هَلْ هُوَ مَكِّيٌّ أَوْ مَدَنِيٌّ فَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ: إِنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَدَنِيَّةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَدَنِيَّةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ، فَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سُورَةً، وَجَمِيعُ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ سُورَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} (الْحُجُرَاتِ: 13) الْآيَةَ، وَلَهَا قِصَّةٌ يَطُولُ بِذِكْرِهَا الْكِتَابُ، وَنُزُولُهَا بِمَكَّةَ يَوْمَ فَتْحِهَا، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي " الْمَائِدَةِ ": {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (الْمَائِدَةِ: 3)، إِلَى قَوْلِهِ: {الْخَاسِرِينَ} (الْمَائِدَةِ: 5) نَزَلَتْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ، وَالنَّاسُ وُقُوفٌ بِعَرَفَاتٍ، فَبَرَكَتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَيْبَةِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ لِنُزُولِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَهِيَ عِدَّةُ آيَاتٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا.
مِنْهُ " الْمُمْتَحِنَةِ " إِلَى آخِرِهَا، وَهِيَ قِصَّةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَسَارَةَ، وَالْكِتَابِ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَيْهَا، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ، فَخَاطَبَ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ ": {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (النَّحْلِ: 41)، إِلَى آخَرَ السُّورَةِ، مَدَنِيَّاتٌ يُخَاطِبُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ. وَمِنْهَا سُورَةُ " الرَّعْدِ " يُخَاطِبُ بِهَا أَهْلَ مَكَّةَ وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَمِنْ أَوَّلِ " بَرَاءَةٌ " إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (التَّوْبَةِ: 28)، خِطَابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ. فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحُكْمُهُ مَدَنِيٌّ، وَمَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَحُكْمُهُ مَكِّيٌّ.
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " النَّجْمِ ": {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} (الْآيَةَ: 32)، يَعْنِي كُلَّ ذَنْبٍ عَاقِبَتُهُ النَّارُ، وَ {الْفَوَاحِشُ} يَعْنِي كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ {إِلَّا اللَّمَمَ}، وَهُوَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ مِنَ الذُّنُوبِ، نَزَلَتْ فِي نَبْهَانَ وَالْمَرْأَةِ الَّتِي رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ، وَاسْتَقَرَّتِ الرِّوَايَةُ بِمَا قُلْنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ حَدٌّ وَلَا غَزْوٌ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " هُودٍ ": {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} (الْآيَةَ: 114)، نَزَلَتْ فِي أَبِي الْيُسْرِ كَعْبِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَيْسٍ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي اشْتَرَتْ مِنْهُ التَّمْرَ، فَرَاوَدَهَا.
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْأَنْبِيَاءِ ": {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} (الْآيَةَ: 17)، نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ: السَّيِّدِ وَالْعَاقِبِ. وَمِنْهَا سُورَةٌ {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (الْعَادِيَاتِ: 1)، فِي رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَقِصَّتُهَا مَشْهُورَةٌ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْأَنْفَالِ ": {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} (الْآيَةَ: 32).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ " الْقَصَصِ ": {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} (الْآيَةَ: 85)، نَزَلَتْ بِالْجُحْفَةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الزُّخْرُفِ ": {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الْآيَةَ: 45)، نَزَلَتْ عَلَيْهِ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْفُرْقَانِ ": {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الْآيَةَ: 45)، وَلِذَلِكَ قِصَّةٌ عَجِيبَةٌ. وَقَوْلُهُ فِي {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الْآيَةَ: 22- 24)، يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الرَّعْدِ ": {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} نَزَلَتْ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: اكْتُبْ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَتَابَعْنَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} إِلَى قَوْلِهِ: {مَتَابِ} (الْآيَةَ: 30).
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (الْآيَةَ: 1)، نَزَلَتْ لَيْلًا فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَهُمْ حَيٌّ مِنْ خُزَاعَةَ وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْمَائِدَةِ ": {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (الْآيَةَ: 67)، نَزَلَتْ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحْرَسُ كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ فَأَتَاهُ حُذَيْفَةُ وَسَعْدٌ فِي آخَرِينَ مَعَهُمُ الْحَجَفُ وَالسُّيُوفُ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَيْمَةٍ مَنْ أَدَمٍ، فَبَاتُوا عَلَى بَابِ الْخَيْمَةِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ مِنَ الْخَيْمَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، انْصَرِفُوا فَقَدَ عَصَمَنِي اللَّهُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الْآيَةَ (الْقَصَصِ: 56)، قَالَتْ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَعَهُ فِي اللِّحَافِ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ نَهَارًا.
سُورَةُ " الْأَنْعَامِ ": نَزَلَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً، شَيَّعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، طَبَّقُوا مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَخَرَّ سَاجِدًا. قُلْتُ: ذَكَرَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ فِي " فَتَاوِيهِ " أَنَّ الْخَبَرَ الْمَذْكُورَ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، وَلَمْ نَرَ لَهُ إِسْنَادًا صَحِيحًا، وَقَدْ رُوِيَ مَا يُخَالِفُهُ، فَرُوِيَ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، بَلْ نَزَلَ مِنْهَا آيَاتٌ بِالْمَدِينَةِ، اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهَا، فَقِيلَ: ثَلَاثٌ؛ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا} (الْأَنْعَامِ: 151) إِلَخِ الْآيَاتِ، وَقِيلَ: سِتٌّ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَسَائِرُهَا نَزَلَ بِمَكَّةَ. وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَمَانُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَآيَةُ الْكُرْسِيِّ نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. وَسُورَةُ " يُونُسَ " نَزَلَتْ وَمَعَهَا ثَلَاثُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} (الزُّخْرُفِ: 45)، نَزَلَتْ وَمَعَهَا عِشْرُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، وَسَائِرُ الْقُرْآنِ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ بِلَا تَشْيِيعٍ.
مِنْهَا سُورَةُ " الْأَنْعَامِ "، وَهِيَ كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ خَلَا سِتِّ آيَاتٍ، وَاسْتَقَرَّتْ بِذَلِكَ الرِّوَايَاتُ. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (الْأَنْعَامِ: 91)، نَزَلَتْ هَذِهِ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ. {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الْأَنْعَامِ: 93)، نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَخِي عُثْمَانَ مِنَ الرَّضَاعَةِ، حِينَ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ (الْأَنْعَامِ: 93) وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (الْمُؤْمِنُونَ: 12)، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} الْآيَةَ، فَقَالَ: إِنْ كُنْتُ نَبِيًّا فَأَنَا نَبِيٌّ؛ لِأَنَّهُ خَطَرَ بِبَالِي مَا أَمْلَيْتَ عَلَيَّ. فَلَحِقَ كَافِرًا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} (الْأَنْعَامِ: 93)، فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، حِينَ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَوْحَى إِلَيْهِ، وَثَلَاثُ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا: {قُلْ تَعَالَوْا} (الْآيَةَ: 151)، إِلَى قَوْلِهِ: {تَتَّقُونَ} (الْآيَةَ: 153). سُورَةُ " الْأَعْرَافِ " كُلُّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَمَانَ آيَاتٍ: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ} (الْآيَةَ: 163)، إِلَى قَوْلِهِ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ} (الْآيَةَ: 171). سُورَةُ " إِبْرَاهِيمَ ": مَكِّيَّةٌ، غَيْرَ آيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي قَتْلَى بَدْرٍ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} إِلَى آخِرِ (الْآيَتَيْنِ: 28 وَ 29). سُورَةُ " النَّحْلِ ": مَكِّيَّةٌ، إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (الْآيَةَ: 41)، وَالْبَاقِي مَدَنِيٌّ. سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ: مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الْإِسْرَاءِ: 73)، يَعْنِي ثَقِيفًا، وَلَهُ قِصَّةٌ. سُورَةُ " الْكَهْفِ " مَكِّيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ نَزَلَتْ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، وَلَهُ قِصَّةٌ. سُورَةُ " الْقَصَصِ " مَكِّيَّةٌ غَيْرَ آيَةٍ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ (الْآيَةَ: 52)، يَعْنِي الْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (الْآيَةَ: 52)، يَعْنِي " الْفُرْقَانِ " نَزَلَتْ فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَسْلَمُوا، وَلَهُمْ قِصَّةٌ. سُورَةُ " الزُّمَرِ ": مَكِّيَّةٌ، غَيْرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الْآيَةَ: 53). الْحَوَامِيمُ كُلُّهَا مَكِّيَّاتٌ، غَيْرَ آيَةٍ فِي الْأَحْقَافِ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} (الْآيَةَ: 10).
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْأَنْفَالِ ": {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (الْآيَةَ: 33)، يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ يَا مُحَمَّدُ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ. اسْتَقَرَّتْ بِهِ الرِّوَايَةُ. سُورَةُ التَّوْبَةِ: مَدَنِيَّةٌ، غَيْرَ آيَتَيْنِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (الْآيَةَ: 128) إِلَخْ السُّورَةِ. سُورَةُ " الرَّعْدِ ": مَدَنِيَّةٌ غَيْرَ قَوْلِهِ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} إِلَى قَوْلِهِ: جَمِيعًا (الْآيَةَ: 31). سُورَةُ " الْحَجِّ ": مَدَنِيَّةٌ، وَفِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ مَكِّيَّاتٌ: قَوْلُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} إِلَى قَوْلِهِ: {عَقِيمٌ} (الْآيَاتُ: 52- 55) وَلَهُ قِصَّةٌ. سُورَةُ " أَرَأَيْتَ " مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (الْمَاعُونِ: 4) إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ.
أَوَّلُ سُورَةٍ حُمِلَتْ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ سُورَةُ " يُوسُفَ "، انْطَلَقَ بِهَا عَوْفُ بْنُ عَفْرَاءَ فِي الثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَرَأَهَا عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، فَأَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ بُيُوتٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، رَوَى ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ حُمِلَ بَعْدَهَا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (سُورَةُ الْإِخْلَاصِ) إِلَى آخِرِهَا، ثُمَّ حُمِلَ بَعْدَهَا الْآيَةَ الَّتِي فِي " الْأَعْرَافِ ": {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} إِلَى قَوْلِهِ: {تَهْتَدُونَ} (الْآيَةَ: 158)، فَأَسْلَمَ عَلَيْهَا طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلَهُ قِصَّةٌ
مِنْ ذَلِكَ الْأَنْفَالُ الَّتِي فِي " الْبَقَرَةِ ": {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (الْآيَةَ: 217)، وَذَلِكَ حِينَ أَوْرَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ كِتَابَ مُسْلِمِي مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ عَيَّرُونَا قَتْلَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَأَخْذَ الْأَمْوَالِ وَالْأَسَارَى فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، فَكَتَبَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ: " إِنْ عَيَّرُوكُمْ فَعَيِّرُوهُمْ بِمَا صَنَعُوا بِكُمْ ". ثُمَّ حُمِلَتْ آيَةُ الرِّبَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فِي حُضُورِ ثَقِيفٍ وَبَنِي الْمُغِيرَةِ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَامِلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَّةَ، فَقَرَأَ عَتَّابٌ عَلَيْهِمْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (الْبَقَرَةِ: 278) فَأَقَرُّوا بِتَحْرِيمِهِ، وَتَابُوا وَأَخَذُوا رُءُوسَ الْأَمْوَالِ، ثُمَّ حُمِلَتْ مَعَ الْآيَاتِ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، قَرَأَهُنَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى النَّاسِ، وَفِي تَرْتِيبِهَا قِصَّةٌ. ثُمَّ حُمِلَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ الْآيَةَ الَّتِي فِي " النِّسَاءِ ": {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (الْآيَةَ: 98) إِلَى قَوْلِهِ: {عَفُوًّا غَفُورًا} (الْآيَةَ: 99)، فَلَا تُعَاقِبُهُمْ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْهِجْرَةِ، فَلَمَّا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا إِلَى مُسْلِمِي مَكَّةَ، قَالَ جُنْدَعُ بْنُ ضَمْرَةَ اللَّيْثِيُّ ثُمَّ الْجُنْدَعِيُّ لِبَنِيهِ- وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا-: أَلَسْتُ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنِّي لَا أَهْتَدِي إِلَى الطَّرِيقِ؟ فَحَمَلَهُ بَنُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَاتَ بِالتَّنْعِيمِ، فَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْتُهُ، فَقَالُوا: لَوْ لَحِقَ بِنَا لَكَانَ أَكْمَلَ لِأَجْرِهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (النِّسَاءِ: 100) إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورًا رَحِيمًا} (الْآيَةَ: 100).
هِيَ سِتُّ آيَاتٍ، بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي خُصُومَةِ الرُّهْبَانِ وَالْقِسِّيسِينَ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 64)، فَقَرَأَهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمْ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، فَلَمَّا بَلَغَ قَوْلَهُ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا} (الْآيَةَ: 67)، قَالَ النَّجَاشِيُّ: صَدَقُوا، مَا كَانَتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ. ثُمَّ قَرَأَ جَعْفَرٌ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} (الْآيَةَ: 68)، قَالَ النَّجَاشِيُّ: اللَّهُمَّ إِنِّي وَلِيٌّ لِأَوْلِيَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَقَالَ: صَدَقُوا وَالْمَسِيحِ. ثُمَّ أَسْلَمَ النَّجَاشِيُّ وَأَسْلَمُوا.
فَأَمَّا أَوَّلُهُ: فَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " فِي حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (الْعَلَقِ: 1- 5) ثُمَّ " الْمُدَّثِّرِ ". وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- صَرِيحًا، وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ. وَلَفْظُ مُسْلِمٍ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. وَوَقَعَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " إِلَى قَوْلِهِ: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}، وَهُوَ مُخْتَصَرٌ، وَفِي الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ، وَهِيَ مِنَ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَقَدْ جَاءَ مَا يُعَارِضُ هَذَا، فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ جَابِرٍ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ. وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ جَابِرًا سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ قِصَّةَ بَدْءِ الْوَحْيِ فَسَمِعَ آخِرَهَا وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهَا، فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَتْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، نَعَمْ هِيَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ " اقْرَأْ " وَفَتْرَةِ الْوَحْيِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ، قَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَجُئِثْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} (الْمُدَّثِّرِ: 1 وَ2). فَقَدْ أَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي جَاءَهُ بِحِرَاءٍ قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ نُزُولَ " اقْرَأْ " كَانَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، وَهُوَ أَوَّلُ وَحْيٍ، ثُمَّ فَتَرَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الْوَحْيَ تَتَابَعَ بَعْدَ نُزُولِ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ " اقْرَأْ " أَوَّلُ مَا نَزَلَ مُطْلَقًا، وَأَنَّ سُورَةَ الْمُدَّثِّرِ بَعْدَهُ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ "، لَا تَضَادَّ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، بَلْ أَوَّلُ مَا نَزَلِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} بِغَارِ حِرَاءٍ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- وَصَبَّتْ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي بَيْتِ خَدِيجَةَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: {اقْرَأْ} رَجَعَ فَتَدَثَّرَ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ، رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، وَذَكَرَ نُزُولَ الْمَلَكِ عَلَيْهِ، وَقَوْلَهُ: قُلْ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الْفَاتِحَةِ) إِلَى آخِرِهَا. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ ": وَهَذَا الْخَبَرُ مُنْقَطِعٌ، وَأَثْبَتُ الْأَقَاوِيلِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وَيَلِيهِ فِي الْقُوَّةِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}، وَأَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْ أَوَامِرِ التَّبْلِيغِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، وَأَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ السُّوَرِ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ. وَهَذَا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّلَاةُ ، وَأَوَّلُ مَا يُقْضَى فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ أَوَّلَ مَا يُحْكَمُ فِيهِ مِنَ الْمَظَالِمِ الَّتِي بَيْنَ الْعِبَادِ الدِّمَاءُ، وَأَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الْفَرَائِضِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ. وَقِيلَ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ لِلرِّسَالَةِ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (الْمُدَّثِّرِ: 1) وَلِلنُّبُوَّةِ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (الْعَلَقِ: 1)، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: اقْرَأْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} دَالٌّ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَى الشَّخْصِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ بِتَكْلِيفٍ خَاصٍّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} (الْمُدَّثِّرِ: 1 وَ 2) دَلِيلٌ عَلَى رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْوَحْيِ إِلَى الشَّخْصِ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ بِتَكْلِيفٍ عَامٍّ. وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الِانْتِصَارِ رِوَايَةَ: ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ " اقْرَأْ " ثَلَاثَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ نُوحٍ، وَثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتِ " اقْرَأْ "، ثُمَّ " نُونٍ ". وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي " الْإِكْلِيلِ " أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي الْإِذْنِ بِالْقِتَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التَّوْبَةِ: 111). وَرَوَى فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهِ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الْآيَةَ (الْحَجِّ: 39). وَأَمَّا آخِرُهُ: فَاخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} (النَّصْرِ: 1)، وَعَنْ عَائِشَةَ: سُورَةُ " الْمَائِدَةِ ". وَقِيلَ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (الْبَقَرَةِ: 281). وَقَالَ السُّدِّيُّ: آخِرُ مَا نَزَلَ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التَّوْبَةِ: 129). وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ " عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (النِّسَاءِ: 176) وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " ". وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ كَامِلَةً سُورَةُ " بَرَاءَةٌ "، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ " النِّسَاءِ ". وَذَكَرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}، ثُمَّ قَالَ: وَأَخْطَأَ أَبُو إِسْحَاقَ، ثُمَّ سَاقَ سَنَدَهُ مِنْ طُرُقٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: آخِرُ آيَةٍ أُنْزِلَتْ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَوَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا، وَقِيلَ: تِسْعُ لَيَالٍ. انْتَهَى. وَفِي " مُسْتَدْرَكِ " الْحَاكِمِ: عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} (التَّوْبَةِ: 128 وَ 129)، ثُمَّ قَرَأَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}، ثُمَّ قَرَأَ إِلَى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (التَّوْبَةِ: 129)، قَالَ: هَذَا آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَخَتَمَ بِمَا فَتَحَ بِهِ، بِالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الْأَنْبِيَاءِ: 25). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَوَى الْبُخَارِيُّ: آخِرُ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا. وَرَوَى مُسْلِمٌ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ جَمِيعًا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ}. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ ": وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا رُفِعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ قَائِلُهُ بِضَرْبٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَتَغْلِيبِ الظَّنِّ، وَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ، حَتَّى يَلْزَمَ مَا طَعَنَ بِهِ الطَّاعِنُونَ مِنْ عَدَمِ الضَّبْطِ. وَيُحْتَمَلُ أَنًّ كُلًّا مِنْهُمْ أَخْبَرَ عَنْ آخِرِ مَا سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، أَوْ قَبْلَ مَرَضِهِ بِقَلِيلٍ، وَغَيْرُهُ سَمِعَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ هُوَ؛ لِمُفَارَقَتِهِ لَهُ، وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ بِقُرْآنٍ بَعْدَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَنْزِلَ الْآيَةُ- الَّتِي هِيَ آخِرُ آيَةٍ تَلَاهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَعَهَا، فَيُؤْمَرُ بِرَسْمِ مَا نَزَلَ وَتِلَاوَتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسْمِ مَا نَزَلَ آخِرًا وَتِلَاوَتِهِ، فَيَظُنُّ سَامِعُ ذَلِكَ أَنَّهُ آخِرُ مَا نَزَلَ فِي التَّرْتِيبِ.
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ، ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ فَيَزِيدُنِي، حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. زَادَ مُسْلِمٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ السَّبْعَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. وَأَخْرَجَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ " الْفَرْقَانِ " عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَؤُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ " الْفُرْقَانِ " عَلَى غَيْرِ مَا أَقْرَأْتِنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ لِي: اقْرَأْ، فَقَرَأْتُ، فَقَالَ: هَكَذَا أُنْزِلَتْ؛ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَإِنِّي أُرْسِلَ إِلَيَّ: أَنِ اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّانِيَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إِلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ عَلَى أُمَّتِي، فَرَدَّ إِلَيَّ الثَّالِثَةَ: اقْرَأْهُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكُهَا مَسْأَلَةٌ تَسْأَلُنِيهَا، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأُمَّتِي، وَأَخَّرْتُ الثَّالِثَةَ لِيَوْمٍ يَرْغَبُ إِلَيَّ الْخَلْقُ كُلُّهُمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَأَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ فِي " مُصَنَّفِهِ " مِنْ حَدِيثِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَاقْرَءُوا وَلَا حَرَجَ، وَلَكِنْ لَا تَخْتِمُوا ذِكْرَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، وَلَا ذِكْرَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ بِالسَّبْعَةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثَ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّ بَعْضَهُ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ؛ كَـ " جَذْوَةٍ " (الْقَصَصِ: 29) وَ " الرَّهَبِ " (الْقَصَصِ: 32) وَ " الصَّدَفَيْنِ " (الْكَهْفِ: 96)، فَيُقْرَأُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ. أَوْ أَرَادَ: أُنْزِلَ ابْتِدَاءً عَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ زِيدَ إِلَى سَبْعَةٍ، وَمَضَى جَمِيعُ ذَلِكَ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْهُ مَا يُقْرَأُ عَلَى حَرْفَيْنِ، وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَأَكْثَرَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ، وَمَا يُقَارِبُ مَعْنَاهَا. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَمْ يَأْتِ فِي مَعْنَى هَذَا السَّبْعِ نَصٌّ وَلَا أَثَرٌ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَعْيِينِهَا. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ الْبَسْتِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ قَوْلًا، وَقَالَ: وَقَفْتُ مِنْهَا عَلَى كَثِيرٍ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْقَارِئِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْحَصْرَ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ مَحْصُورٌ فِي سَبْعَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنَ نَقْرَؤُهَا؟ أَمْ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلًا؟ ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْحَالُ بَعْدَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنَّ الْقَائِلِينَ بِالثَّانِي- وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ كَذَلِكَ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ الْآنَ- هُمْ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ وَهْبٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا: هَلِ اسْتَقَرَّ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُمْ، وَرَأَوْا أَنَّ ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ الْعَرَبِ، وَمَشَقَّةِ نُطْقِهِمْ بِغَيْرِ لُغَتِهِمْ، اقْتَضَتِ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَأُذِنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى حَرْفِهِ، أَيْ عَلَى طَرِيقَتِهِ فِي اللُّغَةِ؛ إِلَى أَنِ انْضَبَطَ الْأَمْرُ فِي آخِرِ الْعَهْدِ، وَتَدَرَّبَتِ الْأَلْسُنُ، وَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْوَاحِدَةِ؛ فَعَارَضَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ الْآخِرَةِ، وَاسْتَقَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْآنَ، فَنَسَخَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ تِلْكَ الْقِرَاءَةَ الْمَأْذُونَ فِيهَا بِمَا أَوْجَبَهُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا النَّاسُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ الْآتِي مِنْ مُرَاعَاةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْعَجُوزِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَمِنَ التَّصْرِيحِ فِي بَعْضِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ مِثْلُ: هَلُمَّ وَتَعَالَ.
وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهَا كَانَتْ سَبْعًا، أَيِ الْأَحْرُفُ اخْتَلَفُوا عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنَ الْمُشْكِلِ الَّذِي لَا يُدْرَى مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْكَلِمَةَ الْمَنْظُومَةَ حَرْفًا، وَتُسَمِّي الْقَصِيدَةَ بِأَسْرِهَا كَلِمَةً، وَالْحَرْفُ يَقَعُ عَلَى الْمَقْطُوعِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْحَرْفُ أَيْضًا الْمَعْنَى وَالْجِهَةُ، قَالَهُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدَانَ النَّحْوِيُّ. وَالثَّانِي- وَهُوَ أَضْعَفُهَا-: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ قِرَاءَاتٍ، وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ. وَالْحَرْفُ هَاهُنَا الْقِرَاءَةُ، وَقَدْ بَيَّنَ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ " الْبَيَانِ " وَغَيْرِهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْقُرَّاءِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْحَرْفُ الَّذِي كَتَبَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمُصْحَفَ. وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّهُ قَالَ: تَدَبَّرْتُ وُجُوهَ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ فَوَجَدْتُهَا سَبْعَةً: 1- مِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ حَرَكَتُهُ، وَلَا يَزُولُ مَعْنَاهُ، وَلَا صُورَتُهُ، مِثْلُ: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (هُودٍ: 78)، وَ {أَطْهَرَ لَكُمْ}، وَ {وَيَضِيقُ صَدْرِي} (الشُّعَرَاءِ: 13). 2- وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ، وَيَزُولُ بِالْإِعْرَابِ، وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ، كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سَبَأٍ: 19)، وَ {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا}. 3- وَمِنْهَا مَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ بِالْحُرُوفِ وَاخْتِلَافِهَا، وَلَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ كَقَوْلِهِ: {كَيْفَ نُنْشِزُهَا} (الْبَقَرَةِ: 259)، وَ {نُنْشِزُهَا}. 4- وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَلَا يَتَغَيَّرُ مَعْنَاهُ: {كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (الْقَارِعَةِ: 5)، وَ " الصُّوفِ الْمَنْفُوشِ ". 5- وَمِنْهَا مَا تَتَغَيَّرُ صُورَتُهُ وَمَعْنَاهُ، مِثْلُ: {طَلْحٍ مَنْضُودٍ} (الْوَاقِعَةِ: 29)، وَطَلْعٍ. 6- وَمِنْهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ كَـ: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} (ق: 19)، وَ " سَكْرَةُ الْحَقِّ بِالْمَوْتِ ". 7- وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ، مِثْلُ: " حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ ". وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ " تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى "، وَ " أَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنَ وَكَانَ كَافِرًا "، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مِنْ وُجُوهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: " هَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ ". قَالَ: " وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ أَحَدُ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ "، وَالْآخَرُ مِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ: " وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى " (اللَّيْلِ: 3)، كَمَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، وَمِثْلُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الْمَائِدَةِ: 118)، وَقِرَاءَةُ عُمَرَ: " فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "، وَالْكُلُّ حَقٌّ، وَالْمُصْحَفُ الْمَنْقُولُ بِالتَّوَاتُرِ مُصْحَفُ عُثْمَانَ، وَرَسْمُ الْحُرُوفِ وَاحِدٌ إِلَّا مَا تَنَوَّعَتْ فِيهِ الْمَصَاحِفُ؛ وَهُوَ بِضْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا، مِثْلُ: " اللَّهُ الْغَفُورُ " وَ " إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ ". وَالثَّالِثُ: سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْحَائِهِ، فَبَعْضُهَا أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَوَعْدٌ وَوَعِيدٌ، وَقَصَصٌ، وَحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ وَغَيْرُهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَفِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا قَالَ: " كَانَ الْكِتَابُ الْأَوَّلُ نَزَلَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ مِنْ سَبْعَةِ أَبْوَابٍ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ: زَاجِرٌ، وَآمِرٌ، وَحَلَالٌ، وَحَرَامٌ، وَمُحْكَمٌ، وَمُتَشَابِهٌ، وَأَمْثَالٌ، فَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَاعْتَبِرُوا بِأَمْثَالِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَقُولُوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آلِ عِمْرَانَ: 7)، قَالَ وَهُوَ حَدِيثٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَثْبُتُ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ضَعْفِهِ. وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ، وَقَالَ: هَذَا التَّفْسِيرُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الَّتِي أَجَازَ لَهُمُ الْقِرَاءَةَ بِهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَإِنَّمَا الْحَرْفُ فِي هَذِهِ بِمَعْنَى الْجِهَةِ وَالطَّرِيقَةِ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الْحَجِّ: 11). وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَدَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: مَنْ أَوَّلَهُ بِهَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ مِنْهَا حَرَامًا لَا مَا سِوَاهُ، أَوْ يَكُونُ حَلَالًا لَا مَا سِوَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُقْرَأُ عَلَى أَنَّهُ حَلَالٌ كُلُّهُ، أَوْ حَرَامٌ كُلُّهُ، أَوْ أَمْثَالٌ كُلُّهُ. قَالَ: حَكَاهُ الطَّحَاوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، وَقَالَ: هُوَ كَمَا قَالَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَا تُسَمَّى أَحْرُفًا، وَأَيْضًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّوْسِعَةَ لَمْ تَقَعْ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ وَلَا تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَلَا فِي تَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَارَ إِلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُرُوفِ، وَإِبْدَالِ حَرْفٍ بِحَرْفٍ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ إِبْدَالِ آيَةِ أَمْثَالٍ بِآيَةِ أَحْكَامٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ قَالَ: هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكِ ابْنَ مَسْعُودٍ، ثُمَّ سَاقَهُ بِإِسْقَاطِ ابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ (سَبْعَةِ أَحْرُفٍ) أَيْ: سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللُّغَاتُ الَّتِي أُبِيحَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا، وَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ الْأَنْوَاعُ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعُ لُغَاتٍ لِسَبْعِ قَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ؛ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْحَرْفِ الْوَاحِدِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ، هَذَا مَا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ، أَيْ: نَزَلَ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَبَعْضُهُ نَزَلَ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ تَمِيمٍ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ أَزْدٍ وَرَبِيعَةَ، وَبَعْضُهُ بِلُغَةِ هَوَازِنَ وَسَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ اللُّغَاتِ؛ وَمَعَانِيهَا فِي هَذَا كُلِّهِ وَاحِدَةٌ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى ثَعْلَبُ، وَحَكَاهُ ابْنُ دُرَيْدٍ عَنْ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ، وَحَكَاهُ بَعْضُهُمْ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي " التَّهْذِيبِ ": " إِنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عُثْمَانَ حِينَ أَمَرَهُمْ بِكَتْبِ الْمَصَاحِفِ: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدٌ فَاكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا نَزَلْ بِلِسَانِهِمْ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ": إِنَّهُ الصَّحِيحُ؛ أَيِ الْمُرَادُ اللُّغَاتُ السَّبْعُ، الَّتِي هِيَ شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ الْقُرَّاءَ فَوَجَدْتُهُمْ مُتَقَارِبِينَ، اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّنَطُّعَ، فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ: هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: لَكِنْ إِنَّمَا تَجُوزُ قِرَاءَتُهُ عَلَى الْحُرُوفِ الَّتِي هِيَ مُثْبَتَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي هُوَ الْإِمَامُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَحَمَلُوهَا عَنْهُمْ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ، وَإِنْ كَانَتْ جَائِزَةً فِي اللُّغَةِ؛ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ إِنْزَالِهِ، ثُمَّ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي الْإِمَامِ ". وَأَنْكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَالُوا: لَمْ يَنْزِلِ الْقُرْآنُ إِلَّا بِلُغَةِ قُرَيْشٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إِبْرَاهِيمَ: 4). قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَا نَعْرِفُ فِي الْقُرْآنِ حَرْفًا وَاحِدًا يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ. وَغَلَّطَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ بِحُرُوفٍ مِنْهَا: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (الْمَائِدَةِ: 60)، وَقَوْلُهُ: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (يُوسُفَ: 12)، وَقَوْلُهُ: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} (سَبَأٍ: 19)، وَقَوْلُهُ: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} (الْأَعْرَافِ: 165)، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى " سَبْعَةِ أَحْرُفٍ " " سَبْعَ لُغَاتٍ "؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُنْكِرِ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ الَّتِي طُبِعَ عَلَيْهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ كِلَاهُمَا قُرَشِيٌّ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ قِرَاءَتُهُمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ عُمَرُ لُغَتَهُ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِهَذَا فِي تَعْيِينِ السَّبْعِ فَأَكْثَرُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَصْلُ ذَلِكَ وَقَاعِدَتُهُ قُرَيْشٌ، ثُمَّ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتُرْضِعَ فِيهِمْ، وَنَشَأَ وَتَرَعْرَعَ، وَهُوَ مُخَالِطٌ فِي اللِّسَانِ كِنَانَةَ وَهُذَيْلًا وَثَقِيفًا وَخُزَاعَةَ، وَأَسَدًا وَضَبَّةَ وَأَلْفَافَهَا، لِقُرْبِهِمْ مِنْ مَكَّةَ وَتَكْرَارِهِمْ عَلَيْهَا، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ تَمِيمًا وَقَيْسًا، وَمَنِ انْضَافَ إِلَيْهِمْ وَسَكَنَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ. قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنْ قُلْنَا مِنَ الْأَحْرُفِ لِقُرَيْشٍ وَمِنْهَا فَلِكِنَانَةَ وَلِأَسَدٍ وَهُذَيْلٍ وَتَمِيمٍ وَضَبَّةَ وَأَلْفَافِهَا وَقَيْسٍ، لَكَانَ قَدْ أَتَى عَلَى قَبَائِلِ مُضَرَ فِي قِرَاءَاتٍ سَبْعٍ تَسْتَوْعِبُ اللُّغَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا الْفَصَاحَةُ، وَسَلِمَتْ لُغَاتُهَا مِنْ الدَّخَلِ، وَيَسَّرَهَا اللَّهُ لِذَلِكَ، لِيُظْهِرَ آيَةَ نَبِيِّهِ بِعَجْزِهَا عَنْ مُعَارَضَةِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، وَيُثْبِتَ سَلَامَتَهَا أَنَّهَا فِي وَسَطِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ وَنَجْدٍ وَتِهَامَةَ، فَلَمْ تُفَرِّقْهَا الْأُمَمُ. وَقِيلَ: هَذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ كُلُّهَا فِي مُضَرَ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُثْمَانَ: " نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلِسَانِ مُضَرَ " قَالُوا: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لِقُرَيْشٍ، وَمِنْهَا لِكِنَانَةَ، وَمِنْهَا لِأَسَدٍ، وَمِنْهَا لِهُذَيْلٍ، وَمِنْهَا لِضَبَّةَ وَلِطَابِخَةَ، فَهَذِهِ قَبَائِلُ مُضَرَ تَسْتَوْعِبُ سَبْعَ لُغَاتٍ وَتَزِيدُ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَأَنْكَرَ آخَرُونَ كَوْنَ كُلِّ لُغَاتِ مُضَرَ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ فِيهَا شَوَاذَّ لَا يُقْرَأُ بِهَا، مِثْلَ كَشْكَشَةِ قَيْسٍ، وَعَنْعَنَةِ تَمِيمٍ؛ فَكَشْكَشَةُ قَيْسٍ يَجْعَلُونَ كَافَ الْمُؤَنَّثِ شِينًا فَيَقُولُونَ فِي {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (مَرْيَمَ: 24): " رَبُّشِ تَحْتَشِ "، وَعَنْعَنَةُ تَمِيمٍ، وَيَقُولُونَ فِي " أَنْ ": " عَنْ "؛ فَيَقْرَءُونَ " فَعَسَى اللَّهُ عَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ " وَبَعْضُهُمْ يُبْدِلُ السِّينَ تَاءً، فَيَقُولُ فِي النَّاسِ: " النَّاتُ "، وَهَذِهِ لُغَاتٌ يُرْغَبُ بِالْقُرْآنِ عَنْهَا. وَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ مَعَارَضٌ بِمَا سَبَقَ أَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَةٍ قُرَيْشٍ؛ وَهَذَا أَثْبَتُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ ثِقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَدْ يُشْكِلُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُ: هَلْ كَانَ جِبْرِيلُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَلْفِظُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ؟ فَيُقَالُ لَهُ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ تَجْتَمِعُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَنَحْنُ قُلْنَا: كَانَ جِبْرِيلُ يَأْتِي فِي كُلِّ عَرْضَةٍ بِحَرْفٍ إِلَى أَنْ تَمُرَّ سَبْعَةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسَةٌ مِنْهَا لِهَوَازِنَ، وَثِنْتَانِ لِسَائِرِ النَّاسِ. وَالْخَامِسُ: الْمُرَادُ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْمَعَانِي الْمُتَّفِقَةِ، بِالْأَلْفَاظِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ نَحْوَ: أَقْبِلْ، وَهَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَعَجِّلْ، وَأَسْرِعْ، وَأَنْظِرْ، وَأَخِّرْ، وَأَمْهِلْ وَنَحْوِهِ، وَكَاللُّغَاتِ الَّتِي فِي " أُفٍّ " وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهَا لُغَاتٌ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُرَكِّبُ لُغَةً بَعْضَهَا بَعْضًا وَمُحَالٌ أَنْ يُقْرِئَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدًا بِغَيْرِ لُغَتِهِ، وَأُسْنِدَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 20)، سَعَوْا فِيهِ، قَالَ: فَهَذَا مَعْنَى السَّبْعَةِ الْأَحْرُفِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَحَادِيثِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ، مِنْهُمْ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَابْنُ وَهْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَالطَّحَاوِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَفِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِنَّمَا هَذِهِ الْأَحْرُفُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ، وَلَيْسَتْ تَخْتَلِفُ فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِحَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: " قَرَأَ أُبَيٌّ آيَةً، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ آيَةً خِلَافَهَا، وَقَرَأَ رَجُلٌ آخَرُ خِلَافَهُمَا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْتُ: أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا؟ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَلَمْ تَقْرَأْ آيَةَ كَذَا؟ فَقَالَ: كُلُّكُمْ مُحْسِنٌ مُجْمِلٌ، وَقَالَ: يَا أُبَيُّ، إِنِّي أُقْرِئْتُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: عَلَى حَرْفٍ أَوْ حَرْفَيْنِ؟ فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ: عَلَى حَرْفَيْنِ. فَقُلْتُ: عَلَى حَرْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ؟ فَقَالَ: عَلَى ثَلَاثَةٍ، هَكَذَا حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، لَيْسَ فِيهَا إِلَّا شَافٍ كَافٍ. قُلْتُ: غَفُورًا رَحِيمًا، أَوْ قُلْتُ: سَمِيعًا حَكِيمًا، أَوْ قُلْتُ: عَلِيمًا حَكِيمًا، أَوْ قُلْتُ: عَزِيزًا حَكِيمًا، أَيَّ ذَلِكَ قُلْتُ فَإِنَّهُ كَذَلِكَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: " إِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا ضَرْبَ الْمَثَلِ لِلْحُرُوفِ الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا أَنَّهَا مَعَانٍ مُتَّفِقٌ مَفْهُومُهَا، مُخْتَلِفٌ مَسْمُوعُهَا، لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعْنًى وَضِدُّهُ، وَلَا وَجْهَ يُخَالِفُ مَعْنَى وَجْهٍ خِلَافًا يَنْفِيهِ وَيُضَادُّهُ؛ كَالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ خِلَافُ الْعَذَابِ وَضِدُّهُ ". " وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، فَقَالَ: عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، حَتَّى بَلَغَ إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: اقْرَأْهُ؛ فَكُلٌّ شَافٍ كَافٍ، إِلَّا أَنْ تَخْلِطَ آيَةَ رَحْمَةٍ بِآيَةِ عَذَابٍ، وَآيَةَ عَذَابٍ بِآيَةِ رَحْمَةٍ، نَحْوَ: هَلُمَّ، وَتَعَالَ، وَأَقْبِلْ، وَاذْهَبْ، وَأَسْرِعْ، وَعَجِّلْ ". وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ: لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا (الْحَدِيدِ: 13) أَمْهِلُونَا، أَخِّرُونَا، ارْقُبُونَا، وَ{كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} (الْبَقَرَةِ: 20) مَرُّوا فِيهِ، سَعَوْا فِيهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: " إِلَّا أَنَّ مُصْحَفَ عُثْمَانَ الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ الْيَوْمَ هُوَ فِيهَا حَرْفٌ وَاحِدٌ، وَعَلَى هَذَا أَهْلُ الْعِلْمِ ". قَالَ: " وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ فِي كِتَابِ التَّرْغِيبِ مِنْ " جَامِعِهِ " قَالَ: قِيلَ لِمَالِكٍ: أَتُرَى أَنْ تَقْرَأَ مِثْلَ مَا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ "؟ قَالَ: جَائِزٌ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَمِثْلُ: يَعْلَمُونَ وَتَعْلَمُونَ؟ قَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى بِاخْتِلَافِهِمْ بَأْسًا، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ وَلَهُمْ مَصَاحِفُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، فَقَالَ لِي: ذَهَبَ. وَأَخْبَرَنِي مَالِكٌ قَالَ: أَقْرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَجُلًا {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} (الدُّخَانِ: 43 وَ 44) فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: " طَعَامُ الْيَتِيمِ " فَقَالَ: طَعَامُ الْفَاجِرِ، فَقُلْتُ لِمَالِكٍ: أَتَرَى أَنْ يُقْرَأَ بِذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَرَى أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعًا. قَالَ أَبُو عُمَرَ: مَعْنَاهُ عِنْدِي أَنْ يُقْرَأَ بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزِ الْقِرَاءَةُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَا مُصْحَفَ عُثْمَانَ لَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا يُجْرَى مَجْرَى خَبَرِ الْآحَادِ لَكِنَّهُ لَا يُقْدِمُ أَحَدٌ عَلَى الْقَطْعِ فِي رَدِّهِ. وَقَالَ مَالِكٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ- فِيمَنْ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِمَّا يُخَالِفُ الْمُصْحَفَ: لَمْ يُصَلَّ وَرَاءَهُ. قَالَ: وَعُلَمَاءُ مَكِّيُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا شُذُوذًا لَا يُعَرَّجُ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الْأَعْمَشُ، وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّبْعَةَ الْأَحْرُفِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ بِأَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا إِلَّا حَرْفُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ الَّذِي جَمَعَ عُثْمَانُ عَلَيْهِ الْمَصَاحِفَ. السَّادِسُ: أَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى بَعْضِ الْآيَاتِ مِثْلَ قَوْلِهِ: أُفٍّ لَكُمْ فَهَذَا عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ بِالنَّصْبِ وَالْجَرِّ وَالرَّفْعِ، وَكُلُّ وَجْهٍ بِالتَّنْوِينِ وَغَيْرِهِ، وَسَابِعُهَا الْجَزْمُ، وَمِثْلَ قَوْلِهِ: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ) (مَرْيَمَ: 25)، وَنَحْوِهِ، وَيُحْتَمَلُ فِي الْقُرْآنِ تِسْعَةُ- أَوْجُهٍ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: " وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَجُوزُ فِي حُرُوفِهِ وَكَلِمَاتِهِ وَآيَاتِهِ كُلِّهَا أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ؛ وَلَا شَيْءَ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهَا، بَلْ لَا يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ كَلِمَةٌ تَحْتَمِلُ أَنْ تُقْرَأَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ إِلَّا قَلِيلٌ، مِثْلَ: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ (الْمَائِدَةِ: 60) وَ (تَشَابَهَ عَلَيْنَا) (الْبَقَرَةِ: 70)، وَ (عَذَابٍ بَئِيسٍ) (الْأَعْرَافِ: 165)، وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ لَيْسَ هَذَا ". وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: " وَهَذَا الْمَجْمُوعُ فِي الْمُصْحَفِ: هَلْ هُوَ جَمِيعُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُقِيمَتِ الْقِرَاءَةُ عَلَيْهَا؟ أَوْ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْهَا؟ مَيْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ إِلَى أَنَّهُ جَمِيعُهَا، وَصَرَّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ بَعْدِهِ بِأَنَّهُ حَرْفٌ مِنْهَا، وَمَالَ الشَّيْخُ الشَّاطِبِيُّ إِلَى قَوْلِ الْقَاضِي فِيمَا جَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَإِلَى قَوْلِ الطَّبَرِيِّ فِيمَا جَمَعَهُ عُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وَالسَّابِعُ: اخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ السَّبْعَةَ ظَهَرَتْ وَاسْتَفَاضَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَبَطَهَا عَنْهُ الْأَئِمَّةُ، وَأَثْبَتَهَا عُثْمَانُ وَالصَّحَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَأَخْبَرُوا بِصِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا حَذَفُوا مِنْهَا مَا لَمْ يَثْبُتْ مُتَوَاتِرًا، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ تَخْتَلِفُ مَعَانِيهَا تَارَةً وَأَلْفَاظُهَا أُخْرَى، وَلَيْسَتْ مُتَضَادَّةً وَلَا مُنَافِيَةً. وَالثَّامِنُ: قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ " أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ لِضَرُورَةٍ دَعَتْ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذِي لُغَةٍ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ لُغَتِهِ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَالْكُتَّابُ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ الضَّرُورَةُ، فَارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَعَادَ مَا يُقْرَأُ بِهِ إِلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ ". وَالتَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ عِلْمُ الْقُرْآنِ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَشْيَاءَ: 1- عِلْمُ الْإِثْبَاتِ وَالْإِيجَادِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (آلِ عِمْرَانَ: 190). 2- وَعِلْمُ التَّوْحِيدِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1)، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الْبَقَرَةِ: 163)، وَعِلْمُ التَّنْزِيهِ؛ كَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} (النَّحْلِ: 17)، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشُّورَى: 11). 3- وَعِلْمُ صِفَاتِ الذَّاتِ؛ كَقَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} (الْمُنَافِقُونَ: 8)، (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) (الْجُمْعَةِ: 1). 4- وَعِلْمُ صِفَاتِ الْفِعْلِ؛ كَقَوْلِهِ: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ) (النِّسَاءِ: 36)، (وَاتَّقُوا اللَّهَ) (النِّسَاءِ: 1)، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) (الْبَقَرَةِ: 43)، (لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا) (آلِ عِمْرَانَ: 130). 5- وَعِلْمُ الْعَفْوِ وَالْعَذَابِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (آلِ عِمْرَانَ: 135)، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} (الْحِجْرِ: 49 وَ 50). 6- وَعِلْمُ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ، كَقَوْلِهِ: (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) (غَافِرٍ: 59)، {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الْإِسْرَاءِ: 14). 7- وَعِلْمُ النُّبُوَّاتِ كَقَوْلِهِ: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (النِّسَاءِ: 165)، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إِبْرَاهِيمَ: 4)، وَالْإِمَامَاتُ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النِّسَاءِ: 59)، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} (النِّسَاءِ: 115)، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آلِ عِمْرَانَ: 110). وَالْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعَةُ أَشْيَاءَ: الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ، وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ، وَالنَّصُّ وَالْمُئَوَّلُ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ وَأَقْسَامُهُ، حَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي بِسَنَدٍ لَهُ عَنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَالْحَادِي عَشَرَ: حَكَاهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ الْمُرَادَ الْحَذْفُ وَالصِّلَةُ، وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ، وَالْقَلْبُ وَالِاسْتِعَارَةُ، وَالتَّكْرَارُ، وَالْكِنَايَةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ، وَالْمُجْمَلُ وَالْمُفَسَّرُ، وَالظَّاهِرُ وَالْغَرِيبُ. وَالثَّانِي عَشَرَ: وَحَكَاهُ عَنِ النُّحَاةِ، أَنَّهَا التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَالتَّصْرِيفُ وَالْإِعْرَابُ، وَالْأَقْسَامُ وَجَوَابُهَا، وَالْجَمْعُ وَالتَّفْرِيقُ، وَالتَّصْغِيرُ وَالتَّعْظِيمُ، وَاخْتِلَافُ الْأَدَوَاتِ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهَا بِمَعْنًى، وَمَا لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَدَاءِ وَاللَّفْظِ جَمِيعًا. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: حَكَاهُ عَنِ الْقُرَّاءِ أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ التِّلَاوَةِ وَكَيْفِيَّةِ النُّطْقِ بِهَا: مِنْ إِظْهَارٍ وَإِدْغَامٍ، وَتَفْخِيمٍ وَتَرْقِيقٍ، وَإِمَالَةٍ وَإِشْبَاعٍ، وَمَدٍّ وَقَصْرٍ، وَتَخْفِيفٍ وَتَلْيِينٍ، وَتَشْدِيدٍ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: وَحَكَاهُ عَنِ الصُّوفِيَّةِ؛ أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَبْعَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمُبَادَلَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَهِيَ: الزُّهْدُ وَالْقَنَاعَةُ مَعَ الْيَقِينِ، وَالْحَزْمُ وَالْخِدْمَةُ مَعَ الْحَيَاءِ، وَالْكَرَمِ وَالْفُتُوَّةُ مَعَ الْفَقْرِ، وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْمُرَاقَبَةُ مَعَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَالتَّضَرُّعُ وَالِاسْتِغْفَارُ مَعَ الرِّضَا، وَالشُّكْرُ وَالصَّبْرُ مَعَ الْمُحَاسَبَةِ، وَالْمَحَبَّةُ وَالشَّوْقُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: قِيلَ: أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ إِلَى الصِّحَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ سَبْعُ لُغَاتٍ، وَالسِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ تَسْهِيلُهُ عَلَى النَّاسِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} (الْقَمَرِ: 17)، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لَانْعَكَسَ الْمَقْصُودُ، قَالَ: وَهَذِهِ السَّبْعَةُ الَّتِي نَتَدَاوَلُهَا الْيَوْمَ غَيْرُ تِلْكَ، بَلْ هَذِهِ حُرُوفٌ مِنْ تِلْكَ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ، وَتِلْكَ الْأَحْرُفُ كَانَتْ مَشْهُورَةً، وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ مَعَ هِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ، لَكِنْ لَمَّا خَافَتِ الصَّحَابَةُ مِنِ اخْتِلَافِ الْقُرْآنِ رَأَوْا جَمْعَهُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ تَعَيَّنَ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْرُفِ؛ وَلَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ ذَلِكَ؛ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ الْآنَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْأَشْبَهُ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ؛ وَهُوَ أَنْ يَقْرَأَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ بِلُغَتِهِمْ وَمَا جَرَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ مِنَ الْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِمَالَةِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِشْمَامِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ اللُّغَاتِ إِلَى سَبْعَةِ أَوْجَهٍ مِنْهَا فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنَّ الْحَرْفَ هُوَ الطَّرَفُ وَالْوَجْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (الْحَجِّ: 11) أَيْ: عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ؛ وَهُوَ أَنْ يَعْبُدَهُ فِي السَّرَّاءِ دُونَ الضَّرَّاءِ، وَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ الَّتِي قَرَأَهَا الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ؛ فَإِنَّهَا كُلَّهَا صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الَّذِي جَمَعَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ فِي الْمُصْحَفِ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ اخْتِيَارَاتُ أُولَئِكَ الْقُرَّاءِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اخْتَارَ فِيمَا رَوَى وَعَلِمَ وَجْهَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا هُوَ الْأَحْسَنُ عِنْدَهُ وَالْأَوْلَى، وَلَزِمَ طَرِيقَةً مِنْهَا وَرَوَاهَا، وَقَرَأَ بِهَا وَاشْتُهِرَتْ عَنْهُ، وَنُسِبَتْ إِلَيْهِ، فَقِيلَ: حَرْفُ نَافِعٍ، وَحَرْفُ ابْنِ كَثِيرٍ، وَلَمْ يَمْنَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَرْفَ الْآخَرِ وَلَا أَنْكَرَهُ، بَلْ سَوَّغَهُ وَحَسَّنَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ رُوِيَ عَنْهُ اخْتِيَارَانِ وَأَكْثَرُ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ عَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْهُمْ، وَكَانَ الْإِنْزَالُ عَلَى الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ تَوْسِعَةً مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةً عَلَى الْأُمَّةِ، إِذْ لَوْ كُلِّفَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ تَرْكَ لُغَتِهِ وَالْعُدُولَ عَنْ عَادَةٍ نَشَأُوا عَلَيْهَا مِنَ الْإِمَالَةِ وَالْهَمْزِ وَالتَّلْيِينِ وَالْمَدِّ وَغَيْرِهِ لَشَقَّ عَلَيْهِمْ. وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِبْرِيلَ فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ؛ مِنْهُمُ الْعَجُوزُ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَالْغُلَامُ، وَالْجَارِيَةُ، وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأُ كِتَابًا قَطُّ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (الْبَقَرَةِ: 185)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1). وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْزَالِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، أَوْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ نَزَلَ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي عِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةٍ، وَقِيلَ: فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةِ قَدْرٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مَا يُقَدِّرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْزَالَهُ فِي كُلِّ السَّنَةِ، ثُمَّ يَنْزِلُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ ابْتُدِئَ إِنْزَالُهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَجَّمًا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشْهُرُ وَأَصَحُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً. قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ فِي " التَّفْسِيرِ " مِنْ جِهَةِ حَسَّانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فُصِلَ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ فَوُضِعَ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَجَعَلَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَحَسَّانُ هُوَ ابْنُ أَبِي الْأَشْرَسِ، وَثَّقَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. وَبِالثَّانِي قَالَ مُقَاتِلٌ، وَالْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ فِي " الْمِنْهَاجِ " وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَبِالثَّالِثِ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَغَيْرُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ اتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُنَزَّلٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْإِنْزَالِ، فَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِظْهَارُ الْقُرْآنِ، وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ أَفْهَمَ كَلَامَهُ جِبْرِيلَ وَهُوَ فِي السَّمَاءِ، وَهُوَ عَالٍ مِنَ الْمَكَانِ، وَعَلَّمَهُ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ جِبْرِيلُ أَدَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَهُوَ يَهْبِطُ فِي الْمَكَانِ. وَالتَّنْزِيلُ لَهُ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انْخَلَعَ مِنْ صُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ إِلَى صُورَةِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَخَذَهُ مِنْ جِبْرِيلَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَلَكَ انْخَلَعَ إِلَى الْبَشَرِيَّةِ حَتَّى يَأْخُذَ الرَّسُولُ مِنْهُ، وَالْأَوَّلُ أَصْعَبُ الْحَالَيْنِ. وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنِ السَّمَرْقَنْدِيِّ حِكَايَةَ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا هُوَ؟ أَحَدُهَا: أَنَّهُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّ جِبْرِيلَ حَفِظَ الْقُرْآنَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَنَزَلَ بِهِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَحْرُفَ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، كُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا بِقَدْرِ جَبَلِ قَافٍ، وَأَنَّ تَحْتَ كُلِّ حَرْفٍ مَعَانٍ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْغَزَالِي: " إِنَّ هَذِهِ الْأَحْرُفَ سُتْرَةٌ لِمَعَانِيهِ ". وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَعَانِي خَاصَّةً، وَأَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِمَ تِلْكَ الْمَعَانِيَ، وَعَبَّرَ عَنْهَا بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَإِنَّمَا تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} (الشُّعَرَاءِ: 193- 194). وَالثَّالِثُ: أَنَّ جِبْرِيلَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّمَا أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ يَقْرَءُونَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّهُ أُنْزِلَ بِهِ كَذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا السِّرُّ فِي إِنْزَالِهِ جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ؟ قِيلَ فِيهِ تَفْخِيمٌ لِأَمْرِهِ، وَأَمْرِ مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِإِعْلَامِ سُكَّانِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ أَنَّ هَذَا آخِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ لِأَشْرَفِ الْأُمَمِ، وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ إِلَيْهِمْ لِيُنْزِلَهُ عَلَيْهِمْ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحِكْمَةَ الْإِلَهِيَّةَ اقْتَضَتْ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا بِسَبَبِ الْوَقَائِعِ لَأَهْبَطَهُ إِلَى الْأَرْضِ جُمْلَةً. فَإِنْ قِيلَ: فِي أَيِّ زَمَانٍ نَزَلَ جُمْلَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، بَعْدَ ظُهُورِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمْ قَبْلَهَا؟ قُلْتُ: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَهَا، وَكِلَاهُمَا مُحْتَمَلٌ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَوَجْهُ التَّفْخِيمِ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهَا فَفَائِدَتُهُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1) مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ الَّذِي نَزَلَ جُمْلَةً أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَمَا نَزَلَ جُمْلَةً؟ وَإِنْ كَانَ مِنْهُ فَمَا وَجْهُ صِحَّةِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ؟ قُلْتُ: ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: مَا حَكَمْنَا بِإِنْزَالِهِ فِي الْقَدْرِ وَقَضَائِهِ وَقَدَّرْنَاهُ فِي الْأَزَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الْمَاضِي، وَمَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ، أَيْ: يَنْزِلُ جُمْلَةً فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَاخْتِيرَ لَفْظُ الْمَاضِي إِمَّا لِتَحَقُّقِهِ وَكَوْنِهِ لَا بُدَّ مِنْهُ؛ وَإِمَّا لِأَنَّهُ حَالَ اتِّصَالِهِ بِالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ يَكُونُ الْمُضِيُّ فِي مَعْنَاهُ مُحَقَّقًا؛ لِأَنَّ نُزُولَهُ مُنَجَّمًا كَانَ بَعْدَ نُزُولِهِ جُمْلَةً. فَإِنْ قُلْتَ: مَا السِّرُّ فِي نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ مُنَجَّمًا؟ وَهَلَّا نَزَلَ جُمْلَةً كَسَائِرِ الْكُتُبِ؟ قُلْتُ: هَذَا سُؤَالٌ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَوَابَهُ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (الْفُرْقَانِ: 32) يَعْنُونَ: كَمَا أُنْزِلَ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: كَذَلِكَ أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ كَذَلِكَ مُفَرَّقًا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} (الْفُرْقَانِ: 32) أَيْ لِنُقَوِّيَ بِهِ قَلْبَكَ؛ فَإِنَّ الْوَحْيَ إِذَا كَانَ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ كَانَ أَقْوَى لِلْقَلْبِ وَأَشَدَّ عِنَايَةً بِالْمُرْسَلِ إِلَيْهِ، وَيَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ كَثْرَةَ نُزُولِ الْمَلَكِ إِلَيْهِ وَتَجْدِيدَ الْعَهْدِ بِهِ وَبِمَا مَعَهُ مِنَ الرِّسَالَةِ الْوَارِدَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ الْعَزِيزِ، فَحَدَثَ لَهُ مِنَ السُّرُورِ مَا تَقْصُرُ عَنْهُ الْعِبَارَةُ، وَلِهَذَا كَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ لِكَثْرَةِ نُزُولِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-. وَقِيلَ: مَعْنَى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لِتَحْفَظَهُ، فَإِنَّهُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ أُمِّيًّا لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، فَفُرِّقَ عَلَيْهِ لِيُيَسَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُهُ؛ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّهُ كَانَ كَاتِبًا قَارِئًا، فَيُمْكِنُهُ حِفْظُ الْجَمِيعِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً. " فَإِنْ قُلْتَ كَانَ فِي الْقُدْرَةِ إِذَا نُزِّلَ جُمْلَةً أَنْ يَحْفَظَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دُفْعَةً. قُلْتُ: لَيْسَ كُلُّ مُمْكِنٍ لَازِمَ الْوُقُوعِ، وَأَيْضًا فِي الْقُرْآنِ أَجْوِبَةٌ عَنْ أَسْئِلَةٍ؛ فَهُوَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَفَرُّقِ النُّزُولِ؛ وَلِأَنَّ بَعْضَهُ مَنْسُوخٌ وَبَعْضَهُ نَاسِخٌ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا أُنْزِلَ مُفَرَّقًا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قِيلَ أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ جُمْلَةً؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ عَلَى نَبِيٍّ يَقْرَأُ وَيَكْتُبُ، وَهُوَ مُوسَى، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ مُفَرَّقًا؛ لِأَنَّهُ أُنْزِلَ غَيْرَ مَكْتُوبٍ عَلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ، وَقِيلَ: مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ لِأَجْلِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً أَنَّ مِنْهُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَوَابٌ لِمَنْ يَسْأَلُ عَنْ أُمُورٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ إِنْكَارٌ لِمَا كَانَ. انْتَهَى. وَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَآخِرِهِ كَمْ مِنَ الْمُدَّةِ؟ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ أَوْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَقِيلَ: عَشْرٌ، وَقِيلَ: ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي مُدَّةِ إِقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنَّهَا عَشْرٌ، وَكَانَ كُلَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَمَرَ بِكِتَابَتِهِ، وَيَقُولُ: فِي مُفْتَرِقَاتِ الْآيَاتِ: ضَعُوا هَذِهِ فِي سُورَةِ كَذَا وَكَانَ يَعْرِضُهُ جِبْرِيلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً، وَعَامَ مَاتَ مَرَّتَيْنِ. وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": قَالَ مَسْرُوقٌ: عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَسَرَّ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيَّ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ، وَأَنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ، وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حُضُورُ أَجْلِي. وَأَسْنَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي مَوَاضِعَ، وَقَدْ كَرَّرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الِاعْتِكَافَ، فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ بَعْدَ أَنْ كَانَ يَعْتَكِفُ عَشْرًا.
فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ "، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: " أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ عِنْدَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِيَوْمِ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْمَوَاطِنِ، فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ؛ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ: وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا أَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ وَاجْمَعْهُ. قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ، لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ التَّوْبَةِ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ) (الْآيَةُ: 128)، مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرَهُ، فَأَلْحَقْتُهَا فِي سُورَتِهَا، فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى قُبِضَ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: " وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، سُمِعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ: فُقِدَتْ آيَةٌ مِنَ " الْأَحْزَابِ " حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ بِهَا، لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الْأَحْزَابِ: 23)، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا، وَخُزَيْمَةُ الْأَنْصَارِيُّ شَهَادَتُهُ بِشَهَادَتَيْنِ ". وَقَوْلُ زِيدٍ: " لَمْ أَجِدْهَا إِلَّا مَعَ خُزَيْمَةَ " لَيْسَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ زَيْدًا كَانَ قَدْ سَمِعَهَا وَعَلِمَ مَوْضِعَهَا فِي سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " بِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ ثُمَّ نَسِيَهَا، فَلَمَّا سَمِعَ ذَكَرَهُ، وَتَتَبُّعُهُ لِلرِّجَالِ كَانَ لِلِاسْتِظْهَارِ، لَا لِاسْتِحْدَاثِ الْعِلْمِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا اشْتَهَرُوا بِهِ، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ غَيْرَهُمْ حَفِظَهُ، وَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَجْمُوعُهُ مَحْفُوظٌ كُلُّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ أَيَّامَ حَيَاةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤَلَّفًا عَلَى هَذَا التَّأْلِيفِ، إِلَّا سُورَةَ بَرَاءَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " قُلْتُ لِعُثْمَانَ: مَا حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى " الْأَنْفَالِ " وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، وَإِلَى " بَرَاءَةَ " وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ عُثْمَانُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ، وَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُهُ فَقَالَ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ " الْأَنْفَالُ " مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ " بَرَاءَةُ " مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ كَتَبْتُ ". فَثَبَتَ أَنَّ الْقُرْآنَ كَانَ عَلَى هَذَا التَّأْلِيفِ وَالْجَمْعِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّمَا تَرَكَ جَمْعَهُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ كَانَ يَرِدُ عَلَى بَعْضٍ، فَلَوْ جَمَعَهُ ثُمَّ رُفِعَتْ تِلَاوَةُ بَعْضٍ لَأَدَّى إِلَى الِاخْتِلَافِ وَاخْتِلَاطِ الدِّينِ، فَحَفِظَهُ اللَّهُ فِي الْقُلُوبِ إِلَى انْقِضَاءِ زَمَانِ النَّسْخِ، ثُمَّ وُفِّقَ لِجَمْعِهِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدِ اشْتُهِرَ أَنَّ عُثْمَانَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْمَصَاحِفَ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ، بَلْ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهَا فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ الصِّدِّيقُ، ثُمَّ أَمَرَ عُثْمَانُ حِينَ خَافَ الِاخْتِلَافَ فِي الْقِرَاءَةِ بِتَحْوِيلِهِ مِنْهَا إِلَى الْمَصَاحِفِ، هَكَذَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ.
قَالَ: " وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ التَّأْلِيفَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرُوِّينَا عَنْهُ أَنَّ الْجَمْعَ فِي الْمُصْحَفِ كَانَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالنَّسْخُ فِي الْمَصَاحِفِ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَكَانَ مَا يَجْمَعُونَ وَيَنْسَخُونَ مَعْلُومًا لَهُمْ بِمَا كَانَ مُثْبَتًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشُورَةِ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَارْتَضَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَحُمِدَ أَثَرُهُ فِيهِ ". وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّ الَّذِي اسْتَبَدَّ بِهِ عُثْمَانُ جَمْعُ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَةٍ مَحْصُورَةٍ، وَالْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " الِانْتِصَارِ ": " لَمْ يَقْصِدْ عُثْمَانُ قَصْدَ أَبِي بَكْرٍ فِي جَمْعِ نَفْسِ الْقُرْآنِ بَيْنَ لَوْحَيْنِ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ جَمْعَهُمْ عَلَى الْقِرَاءَاتِ الثَّابِتَةِ الْمَعْرُوفَةِ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِلْغَاءَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَخْذَهُمْ بِمُصْحَفٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ، وَلَا تَأْوِيلَ أُثْبِتَ مَعَ تَنْزِيلٍ، وَمَنْسُوخُ تِلَاوَتِهِ كُتِبَ مَعَ مُثْبَتِ رَسْمِهِ، وَمَفْرُوضِ قِرَاءَتِهِ وَحِفْظِهِ، خَشْيَةَ دُخُولِ الْفَسَادِ وَالشُّبْهَةِ عَلَى مَنْ يَأْتِي بَعْدُ ". انْتَهَى. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَنَسٍ: " أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ، وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، وَقَالَ لِعُثْمَانَ: أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا الصُّحُفَ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا إِلَيْهِ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، قَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا، وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ ". وَفِي هَذِهِ إِثْبَاتٌ ظَاهِرٌ أَنَّ الصَّحَابَةَ جَمَعُوا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، وَالَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى جَمْعِهِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، فَخَافُوا ذَهَابَ بَعْضِهِ بِذَهَابِ حَفَظَتِهِ، فَجَمَعُوهُ وَكَتَبُوهُ كَمَا سَمِعُوهُ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ غَيْرِ أَنْ قَدَّمُوا شَيْئًا أَوْ أَخَّرُوا، وَهَذَا التَّرْتِيبُ كَانَ مِنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَوْقِيفٍ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِبَ تِلْكَ الْآيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ سَعْيَ الصَّحَابَةِ فِي جَمْعِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا فِي تَرْتِيبٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ فِي مَصَاحِفِنَا الْآنَ، أَنْزَلَهُ اللَّهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (الْبَقَرَةِ: 185)، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (الْقَدْرِ: 1)، ثُمَّ كَانَ يَنْزِلُ مُفَرَّقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُدَّةَ حَيَاتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (الْإِسْرَاءِ: 106)، فَتَرْتِيبُ النُّزُولِ غَيْرُ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ، وَكَانَ هَذَا الِاتِّفَاقُ مِنَ الصَّحَابَةِ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ، وَرَحْمَةً مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَتَسْهِيلًا وَتَحْقِيقًا لِوَعْدِهِ بِحِفْظِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الْحِجْرِ: 9) وَزَالَ بِذَلِكَ الِاخْتِلَافُ، وَاتَّفَقَتِ الْكَلِمَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: كَانَتْ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاحِدَةً؛ كَانُوا يَقْرَءُونَ الْقِرَاءَةَ الْعَامَّةَ، وَهِيَ الْقِرَاءَةُ الَّتِي قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ، وَكَانَ زَيْدٌ قَدْ شَهِدَ الْعَرْضَةَ الْأَخِيرَةَ وَكَانَ يُقْرِئُ النَّاسَ بِهَا حَتَّى مَاتَ، وَلِذَلِكَ اعْتَمَدَهُ الصِّدِّيقُ فِي جَمْعِهِ، وَوَلَّاهُ عُثْمَانُ كَتَبَةَ الْمُصْحَفِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ فَارِسٍ فِي " الْمَسَائِلِ الْخَمْسِ ": " جَمْعُ الْقُرْآنِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَأْلِيفُ السُّوَرِ، كَتَقْدِيمِ السَّبْعِ الطِّوَالِ وَتَعْقِيبِهَا بِالْمِئِينَ، فَهَذَا الضَّرْبُ هُوَ الَّذِي تَوَلَّتْهُ الصَّحَابَةُ، وَأَمَّا الْجَمْعُ الْآخَرُ وَهُوَ جَمْعُ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ فَهُوَ تَوْقِيفِيٌّ تَوَلَّاهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَّاسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنَ الرِّقَاعِ... الْحَدِيثَ، قَالَ: وَفِيهِ الْبَيَانُ الْوَاضِحُ أَنَّ جَمْعَ الْقُرْآنِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَقَدْ جُمِعَ بَعْضُهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ جُمِعَ بِحَضْرَةِ الصِّدِّيقِ، وَالْجَمْعُ الثَّالِثُ- وَهُوَ تَرْتِيبُ السُّوَرِ- كَانَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَارِثُ بْنُ أَسَدٍ الْمُحَاسِبِيُّ فِي كِتَابِ " فَهْمِ السُّنَنِ ": " كِتَابَةُ الْقُرْآنِ لَيْسَتْ مُحْدَثَةً؛ فَإِنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُ بِكِتَابَتِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ، وَإِنَّمَا أَمَرَ الصِّدِّيقُ بِنَسْخِهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ مُجْتَمِعًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَوْرَاقٍ وُجِدَتْ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا الْقُرْآنُ مُنْتَشِرٌ، فَجَمَعَهَا جَامِعٌ، وَرَبَطَهَا بِخَيْطٍ حَتَّى لَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ ". فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَقَعَتِ الثِّقَةُ بِأَصْحَابِ الرِّقَاعِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبْدُونَ عَنْ تَأْلِيفٍ مُعْجِزٍ وَنَظْمٍ مَعْرُوفٍ، وَقَدْ شَاهَدُوا تِلَاوَتَهُ مِنَ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرِينَ سَنَةً، فَكَانَ تَزْوِيدُ مَا لَيْسَ مِنْهُ مَأْمُونًا، وَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ مِنْ ذَهَابِ شَيْءٍ مِنْ صُحُفِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَمْ يَفْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ؟ قِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَمَّنَهُ مِنَ النِّسْيَانِ بِقَوْلِهِ: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (الْأَعْلَى: 6 وَ7) أَنْ يُرْفَعَ حُكْمُهُ بِالنَّسْخِ، فَحِينَ وَقَعَ الْخَوْفُ مِنْ نِسْيَانِ الْخَلْقِ حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ، فَأُحْدِثَ بِضَبْطِهِ مَا لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِي قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: " فَجَمَعْتُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ " مَا أَوْهَمَ بَعْضَ النَّاسِ أَنَّ أَحَدًا لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ جَمَعَ الْقُرْآنَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدٌ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أُوهِمَ؛ وَإِنَّمَا طُلِبَ الْقُرْآنُ مُتَفَرِّقًا لِيُعَارَضَ بِالْمُجْتَمِعِ عِنْدَ مَنْ بَقِيَ مِمَّنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ؛ لِيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي عِلْمِ مَا جُمِعَ، فَلَا يَغِيبُ عَنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ أَحَدٌ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَا يَرْتَابُ أَحَدٌ فِيمَا يُودَعُ الْمُصْحَفُ، وَلَا يَشُكُّوا فِي أَنَّهُ جُمِعَ عَنْ مَلَأٍ مِنْهُمْ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: " وَجَدْتُ آخِرَ بَرَاءَةَ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَمْ أَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ " يَعْنِي مِمَّنْ كَانُوا فِي طَبَقَةِ خُزَيْمَةَ لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ. وَأَمَّا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ؛ فَبِغَيْرِ شَكٍّ جَمَعُوا الْقُرْآنَ، وَالدَّلَائِلُ عَلَيْهِ مُتَظَاهِرَةٌ، قَالَ: وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجْمَعُوا السُّنَنَ فِي كِتَابٍ إِذَا لَمْ يُمْكِنُ ضَبْطُهَا كَمَا ضُبِطَ الْقُرْآنُ، قَالَ: وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْمَصَاحِفَ الَّتِي كُتِبَ مِنْهَا الْقُرْآنُ كَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ لِتَكُونَ إِمَامًا، وَلَمْ تُفَارِقِ الصِّدِّيقَ فِي حَيَاتِهِ، وَلَا عُمَرَ أَيَّامَهُ، ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ حَفْصَةَ لَا تُمَكِّنُ مِنْهَا، وَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَيْهَا فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ؛ فَأَخَذَ ذَلِكَ الْإِمَامُ، وَنَسَخَ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إِلَى الْكُوفَةِ، وَكَانَ النَّاسُ مَتْرُوكِينَ عَلَى قِرَاءَةِ مَا يَحْفَظُونَ مِنْ قِرَاءَتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ حَتَّى خِيفَ الْفَسَادُ، فَجُمِعُوا عَلَى الْقِرَاءَةِ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ جَامِعَ الْقُرْآنِ عُثْمَانُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ إِنَّمَا حَمَلَ عُثْمَانُ النَّاسَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِوَجْهٍ وَاحِدٍ عَلَى اخْتِيَارٍ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ شَهِدَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، لَمَّا خَشِيَ الْفِتْنَةَ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ فِي حُرُوفِ الْقِرَاءَاتِ وَالْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَتِ الْمَصَاحِفُ بِوُجُوهٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمُطْلَقَاتِ عَلَى الْحُرُوفِ السَّبْعَةِ الَّتِي أُنْزِلَ بِهَا الْقُرْآنُ، فَأَمَّا السَّابِقُ إِلَى جَمْعِ الْجُمْلَةِ فَهُوَ الصِّدِّيقُ؛ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: " رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ؛ هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، وَلَمْ يَحْتَجِ الصَّحَابَةُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ إِلَى جَمْعِهِ عَلَى وَجْهِ مَا جَمَعَهُ عُثْمَانُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْدُثْ فِي أَيَّامِهِمَا مِنَ الْخِلَافِ فِيهِ مَا حَدَثَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ، وَلَقَدْ وُفِّقَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، وَرَفَعَ الِاخْتِلَافَ، وَجَمَعَ الْكَلِمَةَ، وَأَرَاحَ الْأُمَّةَ ". " وَأَمَّا تَعَلُّقُ الرَّوَافِضِ بِأَنَّ عُثْمَانَ أَحْرَقَ الْمَصَاحِفَ؛ فَإِنَّهُ جَهْلٌ مِنْهُمْ وَعَمًى؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ فَضَائِلِهِ وَعِلْمِهِ؛ فَإِنَّهُ أَصْلَحَ وَلَمَّ الشَّعَثَ، وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَعَصَى؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّضْيِيعِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ سَبَقَ إِلَى ذَلِكَ، مَمْنُوعٌ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ أَنَّهُ كُتِبَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ، وَأَنَّهُ فِي زَمَنِ الصِّدِّيقِ جَمَعَهُ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ ". قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ أَحْرَقَ الْمَصَاحِفَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ، وَلَوْ ثَبَتَ لَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ أَحْرَقَ مَصَاحِفَ قَدْ أُودِعَتْ مَا لَا يُحِلُّ قِرَاءَتُهُ. وَفِي الْجُمْلَةِ: إِنَّهُ إِمَامٌ عَدْلٌ غَيْرُ مُعَانِدٍ وَلَا طَاعِنٍ فِي التَّنْزِيلِ، وَلَمْ يَحْرِقْ إِلَّا مَا يَجِبُ إِحْرَاقُهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ذَلِكَ، بَلْ رَضُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ مَنَاقِبِهِ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ: " لَوْ وَلِيتُ مَا وَلِيَ عُثْمَانُ لَعَمِلْتُ بِالْمَصَاحِفِ مَا عَمِلَ ". انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالدَّانِيُّ فِي " الْمُقْنِعِ " أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا كَتَبَ الْمَصَاحِفَ جَعَلَهُ عَلَى أَرْبَعِ نُسَخٍ، وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ نَاحِيَةٍ وَاحِدًا: الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ، وَتَرَكَ وَاحِدًا عِنْدَهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ جَعَلَهُ سَبْعَ نُسَخٍ، وَزَادَ: إِلَى مَكَّةَ وَإِلَى الْيَمَنِ وَإِلَى الْبَحْرَيْنِ. قَالَ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ.
حَفِظَهُ فِي حَيَاتِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَكُلُّ قِطْعَةٍ مِنْهُ كَانَ يَحْفَظُهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ، أَقَلُّهُمْ بَالِغُونَ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ ثَابِتَةٌ فِي " التِّرْمِذِيِّ " وَ " الْمُسْتَدْرَكِ " وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَفِي " الْبُخَارِيِّ " عَنْ قَتَادَهَ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: أَرْبَعَةٌ؛ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ: أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ " الْمَدْخَلِ ": " الرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ "، ثُمَّ أَسْنَدَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْبَعَةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِمْ: مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدٌ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي رَجُلَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعُثْمَانُ، وَقِيلَ: عُثْمَانُ وَتَمِيمٌ الدَّارِيُّ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: جَمَعَهُ سِتَّةٌ: أُبَيٌّ، وَزَيْدٌ، وَمُعَاذٌ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو زَيْدٍ، وَمُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ، قَدْ أَخَذَهُ إِلَّا سُورَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، قَالَ: وَلَمْ يَجْمَعْهُ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ غَيْرَ عُثْمَانَ. قَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: وَقَدْ أَشْبَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ فِي كِتَابِ " الِانْتِصَارِ " الْكَلَامَ فِي حَمَلَةِ الْقُرْآنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَقَامَ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَضْعَافَ هَذِهِ الْعُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ خِلَافَ ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْقُرَّاءِ الْمَقْتُولِينَ يَوْمَ مُسَيْلِمَةَ بِالْيَمَامَةِ؛ وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": " قُتِلَ سَبْعُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ؛ كَانُوا يُسَمَّوْنَ الْقُرَّاءَ ". ثُمَّ أَوَّلَ الْقَاضِي الْأَحَادِيثَ السَّابِقَةَ بِوُجُوهٍ مِنْهَا: اضْطِرَابُهَا، وَبَيَّنَ وَجْهَ الِاضْطِرَابِ فِي الْعَدَدِ، وَإِنْ خُرِّجَتْ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمِنْهَا بِتَقْرِيرِ سَلَامَتِهَا؛ فَالْمَعْنَى: لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْجُهِ وَالْأَحْرُفِ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي نَزَلَ بِهِ إِلَّا أُولَئِكَ النَّفَرُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مَا نُسِخَ مِنْهُ وَأُزِيلُ رَسْمُهُ بَعْدَ تِلَاوَتِهِ مَعَ مَا ثَبَتَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ فَرْضُ حِفْظِهِ وَتِلَاوَتِهِ إِلَّا تِلْكَ الْجَمَاعَةُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخَذَهُ مِنْ فِيهِ تَلَقِّيًا غَيْرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَكَيْفَ يُمْكِنُ الْإِحَاطَةُ بِأَنَّهُ لَمْ يُكْمِلْهُ سِوَى أَرْبَعَةٍ، وَالصَّحَابَةُ مُتَفَرِّقُونَ فِي الْبِلَادِ، وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهُ سِوَى أَرْبَعَةٍ فَقَدْ حَفِظَ جَمِيعَ أَجْزَائِهِ مِئُونَ لَا يُحْصَوْنَ. قَالَ الشَّيْخُ: وَقَدْ سَمَّى الْإِمَامُ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْقُرَّاءَ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي أَوَّلِ " كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ " لَهُ فَسَمَّى عَدَدًا كَثِيرًا. قُلْتُ: وَذَكَرَ الْحَافِظُ شَمْسُ الدِّينِ الذَّهَبِيُّ فِي كِتَابِ " مَعْرِفَةِ الْقُرَّاءِ " مَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ، وَأَنَّ هَذَا الْعَدَدَ هُمُ الَّذِينَ عَرَضُوهُ عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاتَّصَلَتْ بِنَا أَسَانِيدُهُمْ، وَأَمَّا مَنْ جَمَعَهُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِنَا فَكَثِيرٌ، فَقَالَ: ذِكْرُ الَّذِينَ عَرَضُوا عَلَى النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقُرْآنَ وَهُمْ سَبْعَةٌ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمْ يَجْمَعِ الْقُرْآنَ أَحَدٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ إِلَّا عُثْمَانُ، ثُمَّ رَدَّ عَلَى الشَّعْبِيِّ قَوْلَهُ: بِأَنَّ عَاصِمًا قَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ أَقْرَأُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ قَالَ: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ مُشْكِلٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٌّ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ. قَالَ: وَقَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ غَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ كَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي زَيْدٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَلَكِنْ لَمْ تَتَّصِلْ بِنَا قِرَاءَتُهُمْ، قَالَ: وَقَرَأَ عَلَى أُبَيٍّ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ السَّائِبِ.
|