الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم أبدل منها أعظمها فقال: {الجوار الكنس} أي السيارة التي تختفي وتغيب بالنهار تحت ضوء الشمس، من كنس الوحش- إذا دخل كناسه وهو بيته المتخذ من أغصان الشجر، وقال الرازي: يكنس ويستتر العلوي منها بالسفلي عند القرآنات كما تستتر الظباء في الكناس، وقال قتادة: تسير بالليل وتخنس بالنهار فتخفى ولا ترى، وروي ذلك أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه، قال البغوي: وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء والكنوس أن تأوي إلى مكانسها.وقال القشيري: إن ذلك غروبها، وإنما نفى الإقسام بها لأنها وإن كانت عظيمة في أنفسها بما ناط بها سبحانه من المصالح وأنتم تعظمونها وتغلون فيها لأن فيها نقائص الغيبوبة وانبهار النور، والقرآن المقسم لأجله منزه عن ذلك، بل هو الغالب على كل ما سواه من الكلام غلبة هي أعظم من غلبة ضياء الشمس لنور ما سواها من الكواكب، فلذلك لا يليق أن يقسم بها لأجله.ولما ذكر غيابها ففهم منه محله وهو النهار، ذكر محل ظهورها فافهم الظهور فقال: {والّيل} أي الذي هو محل ظهور النجوم وزوال خنوسها وذهاب كنوسها {إذا عسعس} أي أقبل ظلامه، واعتكر سواده وقتامه، فظهرت الكواكب زهراً منثوراً في بيداء تلك الغياهب، فإن فيه نقصاناً بالظلام وغير ذلك من الأحكام، وقيل: معناه أدبر، وقيل: أظلم، وقيل: انتصف، وقيل: انقضى، وسعسع بمعناه فهو ما لا يستحيل بالانعكاس، والآية من الاحتباك: ذكر خنوس الكواكب وكنوسها أولاً يفهم ظهورها ثانياً، وذكر الليل ثانياً يفهم حذف النهار أولاً.ولما كان ربما ظن ظان أن ما نقص بالظلام عن صلاحية الإقسام يتأهل ذلك بزواله، قال نافياً لذلك: {والصبح} أي الذي هو أعدل أوقات النهار {إذا تنفس} أي أضاء وأقبل روحه ونسيمه، وأنسه ونعيمه، واتسع نوره، وانفرج به عن الليل ديجوره، وذلك بعد إقبال الليل ثم إدباره أي لا أقسم به لأنه وإن كان ذا نور ونعمة وحبور وبهجة وسرور فإن ذلك يتضاءل عن نور القرآن، وما فيه من النعيم والرضوان، (وأين الثريا من يد المتناول) على أن تنفسه بالبرد واللطافة تنسخه الشمس بالحر والكثافة، وتنفس القرآن بنفحات القدس ونعيم المواعظ والأنس لا ينسخه شيء.ولما بين أن هذه الأشياء- التي لولاها لما طاب لهم عيش ولا تهنؤوا بحياة، وهي من الفضل بحيث لا يعلمه إلا خالقها- تصغر عن أن يقسم بها على شيء من فضائل القرآن لما له من عظيم الشأن الذي لا يطيق التعبير عنه البيان، ويتضاءل دونه اللسان، قال مجيباً لذلك إخباراً عما هو محقق في نفسه الأمر أعظم من تحقق هذه الأشياء المقسم بها، هادٍ إلى مصالح الدارين أكثر من هدايتها، مبيناً للسفيرين به الملكي والبشري عليهما الصلاة والسلام والتحية والإكرام مؤكداً لما يستحقه السياق كما يستحقه مع ما لهم من الإنكار تنبيهاً على ضعف عقولهم وعظيم سفههم بعد أن أقسم بثلاثة أقسام، فإن نفي الإقسام بها بما ذكر من نقائصها- كالإقسام- بها مع بيان أن المقسم عليه أعظم منها بما لا يقايس: {إنه} أي هذا الذكر الذي تقدم في عبس بعض ما يستحق من الأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة {لقول رسول} وهو جبريل عليه الصلاة والسلام نحن أرسلناه به إلى خير خلقنا وجعلناه بريداً بيننا وبينه لاقتضاء الحكمة ذلك، وهي أن يكون خلاصة الخلق ذا جهتين: واحدة ملكية يتلقى بها من الملائكة عليهم السلام لكون غيره من البشر لا يطيق ذلك، وأخرى بشرية يتلقى بها من المبعوث إليهم، ومن المعلوم أن الرسول إنما وظيفته تبليغ ما أرسل به فهو سفير محض، والذي أوحاه وإن كان قوله لكونه نطق به وبلغه من غير مشاركة شيطان ولا غيره هو قول الله من غير شك لكونه معبراً عن الصفة القديمة النفسية، ولو كان قول الرسول مستقلاً به لما كان لوصفه بالرسالة مدخل فما كانت البلاغة تقتضي ذكره بالوصف.ولما بين بوصف الرسالة أنه ليس بقوله إلا لكونه مرسلاً به ومبلغاً له، وأنه في الحقيقة قول من أرسله، وصفه بما أفهمه الوصف مما يوجب حفظه من غير تحريف ما ولا تغيير أصلاً بوجه من الوجوه، وذلك ببيان منزلته عند الله ووجاهته وبيان قدره ونفوذ كلمته فقال: {كريم} أي انتفت عنه وجوه المذام كلها وثبتت له وجوه المحامد كلها، فهو جواد شريف النفس ظاهر عليه معالي الأخلاق بريء من أن يلم شيء من اللوم بساحته، فلذلك هو يفيض الخيرات بإذن ربه على من أمر به العالمين، فيؤدي ما أرسل به كما هو لقيامه بالرسالة قيام الكرام فلم يغير فيها شيئاً أصلاً ولا فرط حتى يمكن غيره أن يحرف أو يغير، والكرم اجتماع كمالات الشيء اللائقة به.ولما اقتضى هذا القوة، صرح به تأكيداً فقال: {ذي قوة} أي على ضبط ما أرسل به بنفسه وعلى المدافعة للغير عن أن يدخل فيه شيئاً من نقص، وأكد القوة بقوله: {عند ذي العرش} أي الملك الأعلى المحيط عرشه بجميع الأكوان الذي لا عندية في الحقيقة إلا له {مكين} أي بالغ المكنة عنده عظيم المنزلة جدًّا بليغ فيها فهو بحيث لا يتأتى منه تفريط ما في إبلاغ شيء مما أرسل به لأنه لا يغيره الأحوال ولا يعمل فيه تضاد الشهوات، لأنه لا شهوة له إلاّ ما يأمر به مرسله سبحانه وتعالى.ولما كان المتمكن في نفسه قد لا يكون له أعوان، قال: {مطاع ثم} أي في الملأ الأعلى فهم عليهم السلام أطوع شيء له، قال الحسن: فرض الله على أهل السماوات طاعة جبريل عليه الصلاة والسلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم.ولما كان ذلك يقتضي الأمانة، صرح بها فقال: {أمين} أي بليغ الأمانة فهو مصدق القول مقبول الأمر موثوق به في أمر الرسالة وإفاضة العلوم على القلوب روحاني مطهر جوهراً وفعلاً وحالاً، ومن كان بهذه الصفات العظيمة كان بحيث لا يأتي إلاّ في أمر مهم جدًّا لأن الملوك لا يرسلون خواصهم إلا في مثل ذلك، ولذلك ائتمنه الله تعالى على رسالته. اهـ.
وأنشد أبو عبيدة في معنى أقبل: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)}ثم منهم من قال: المراد هاهنا أقبل الليل، لأن على هذا التقدير يكون القسم واقعاً بإقبال الليل وهو قوله: {إِذَا عَسْعَسَ} وبإدباره أيضاً وهو قوله: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} ومنهم من قال: بل المراد أدبر وقوله: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أي امتد ضوءه وتكامل فقوله: {واليل إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] إشارة إلى أول طلوع الصبح، وهو مثل قوله: {واليل إِذَا أَدْبَرَ والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34 33] وقوله: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} إشارة إلى تكامل طلوع الصبح فلا يكون فيه تكرار.وأما قوله تعالى: {والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أي إذا أسفر كقوله: {والصبح إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] ثم في كيفية المجاز قولان:أحدهما: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بأقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، وقيل تنفس الصبح.والثاني: أنه شبه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي جلس بحيث لا يتحرك، واجتمع الحزن في قلبه، فإذا تنفس وجد راحة.فههنا لما طلع الصبح فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس وهو استعارة لطيفة.واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال: {إِنَّهُ لَقول رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)}وفيه قولان:الأول: وهو المشهور أن المراد أن القرآن نزل به جبريل:.فإن قيل: هاهنا إشكال قوي وهو أنه حلف أنه قول جبريل، فوجب علينا أن نصدقه في ذلك، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر، فلا أقل من الاحتمال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتمل أن يكون كلام جبريل لا كلام الله، وبتقدير أن يكون كلام جبريل يخرج عن كونه معجزاً، لاحتمال أن جبريل ألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل الإضلال، ولا يمكن أن يجاب عنه بأن جبريل معصوم لا يفعل الإضلال، لأن العلم بعصمة جبريل، مستفاد من صدق النبي، وصدق النبي مفرع على كون القرآن معجزاً، وكون القرآن معجزاً يتفرع على عصمة جبريل، فيلزم الدور وهو محال والجواب: الذين قالوا: بأن القرآن إنما كان معجزاً للصرفة، إنما ذهبوا إلى ذلك المذهب فراراً من هذا السؤال، لأن الإعجاز على ذلك القول ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك العلوم والدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.القول الثاني: أن هذا الذي أخبركم به محمد من أمر الساعة على ما ذكر في هذه السورة ليس بكهانة ولا ظن ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من عند الله تعالى، واعلم أنه تعالى وصف جبريل هاهنا بصفات ست أولها: أنه رسول ولا شك أنه رسول الله إلى الأنبياء فهو رسول وجميع الأنبياء أمته، وهو المراد من قوله: {يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 194 193] وثانيها: أنه كريم، ومن كرمه أنه يعطي أفضل العطايا، وهو المعرفة والهداية والإرشاد.{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}وثالثها: قوله: {ذِى قُوَّةٍ} ثم منهم من حمله على الشدة، روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لجبريل «ذكر الله قوتك، فماذا بلغت؟ قال رفعت قريات قوم لوط الأربع على قوادم جناحي حتى إذا سمع أهل السماء نباح الكلاب وأصوات الدجاج قلبتها» وذكر مقاتل أن شيطاناً يقال له الأبيض صاحب الأنبياء قصد أن يفتن النبي صلى الله عليه وسلم فدفعه جبريل دفعة رقيقة وقع بها من مكة إلى أقصى الهند، ومنهم من حمله على القوة في أداء طاعة الله وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف، وعلى القوة في معرفة الله وفي مطالعة جلال الله.ورابعها: قوله تعالى: {عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ} وهذه العندية ليست عندية المكان، مثل قوله: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19] وليست عندية الجهة بدليل قوله «أنا عند المنكسرة قلوبهم» بل عندية الإكرام والتشريف والتعظيم.وأما {مَّكِينٍ} فقال الكسائي: يقال قد مكن فلان عند فلان بضم الكاف مكناً ومكانة، فعلى هذا المكين هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)}وخامسها: قوله تعالى: {مُّطَاعٍ ثَمَّ} اعلم أن قوله: {ثُمَّ} إشارة إلى الظرف المذكور أعني {عِندَ ذِى العرش} [التكوير: 20] والمعنى أنه عند الله مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه، وقرئ {ثَمَّ} تعظيماً للأمانة وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة.وسادسها: قوله: {أَمِينٍ} أي هو {أَمِينٍ} على وحي الله ورسالاته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل. اهـ.
|