الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدًا حيث الحاجة إليه. انتهى.الثالثة: في الإكليل: استدل بعضهم بهذه الآية على أنه لا يفسخ النكاح بالعجز عن النفقة، لأنه قال: يغنهم الله ولم يفرق بينهم.ثم أرشد تعالى العاجزين عن أسباب النكاح، إلى ما هو أولى لهم، بعد بيان جواز مناكحة الفقراء، بقوله سبحانه: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} أي: وليجتهد في العفة الذين لا يجدون نكاحًا، أي: أسبابه، أو استطاعة نكاح أي: تزوج. فهو على المجاز، أو تقدير المضاف. أو المراد بالنكاح: ما ينكح به.قال الشهاب: فإن فعالًا يكون صفة بمعنى مفعول. ككتاب بمعنى مكتوب. واسم آلة كركاب لما يركب به. وهو كثير. كما نص عليه أهل اللغة. وقوله تعالى: {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ترجية للمستعفين وتقدمة وعد بالتفضيل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك وتأميله، لطفًا لهم في استعفافهم، وربطًا على قلوبهم. وليظهر بذلك أن فضله أولى بالأعفاء. وأدنى من الصلحاء. وما أحسن ما رتب هذه الأوامر. حيث أمر أولًا بما يعصم من الفتنة، ويبعد من مواقعة المعصية، وهو غض البصر، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين، وقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام. ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء، وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح، إلى أن يرزق القدرة عليه. أفاده الزمخشري.تنبيه:قال في الإكليل: في الآية استحباب الصبر عن النكاح لمن لا يقدر على مؤنته. واستدل بعضهم بهذه الآية على بطلان نكاح المتعة.ولما أمر تعالى للسادة بتزويج الصالحين من عبيدهم وإمائهم، مع الرق، رغّبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك، ليصيروا أحرارًا؛ فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} أي: الكتابة: {مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} حرصًا على تحريرهم الذي هو الأصل فيهم، وحبًا بتحقيق المساواة في الأخوة الجنسية. والمكاتبة أن يقول السيد: كاتبتك. أي: جعلت عتقك مكتوبًا على نفسي، بمال كذا تؤديه في نجوم كذا. ويقبل العبد ذلك، فيصير مالكًا لمكاسبه ولما يوهب له، وإنما وجب معه الإمهال، لأن الكسب لا يتصور بدونه. واشترط النجوم لئلا تخلو تلك المدة عن الخدمة وعوضها جميعًا. وقوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} أي: كالأمانة، لئلا يؤدوا النجوم من المال المسروق. والقدرة على الكسب والصلاح، فلا يؤذى أحدًا بعد العتق. وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} أمر للموالي ببذل شيء من أموالهم. وفي حكمه، حط شيء من مال الكتابة. ولغيرهم بإعطائهم من الزكاة إعانة لهم على تحريرهم.تنبيه:قال في الإكليل: في الآية مشروعية الكتابة. وأنها مستحبة. وقال أهل الظاهر: واجبة لظاهر الآية. وأن لندبها أو وجوبها، شرطين: طلب العبد لها وعلم الخير فيه وفسره مجاهد وغيره بالمال والحرفة والوفاء والصدق والأمانة.ثم نهى تعالى عن إكراه الجواري على الزنى كما اعتادوه في الجاهلية، بقوله سبحانه: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ} أي: إماءكم، فإنه يكنى بالفتى والفتاة، عن العبد والأمة، وفي الحديث: «ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل. عبدي وأمتي» وقوله تعالى: {عَلَى الْبِغَاءِ} أي: الزنى. يقال: بغت بغيًا وبغاءً، إذا عهرت. وذلك لتجاوزها إلى ما ليس لها. وقوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنى، وإخراج ما عداها من حكمه، بل للمحافظة على عادتهم المستمرة، حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه، مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور، وقصورهن في معرفة الأمور، الداعية إلى المحاسن، الزاجرة عن تعاطي القبائح، انتهى كلام أبي السعود. أي: وحينئذ فلا مفهوم للشرط، وهذا كجواب بعضهم: إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن. والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب. كما أن الخُلع يجوز في غير حالة الشقاق. ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق، لا جرم لم يكن لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، مفهوم. ومن هذا القبيل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، والقصر لا يختص بحال الخوف. ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب. فكذا هاهنا انتهى.قال أبو سعود: وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح، ما لا يخفى. فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه، وفضلًا عن أمرهن به، أو إكراههن عليه. لاسيما عند إرادتهن التعفف. وإيثار كلمة إِنْ على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتمًا، للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه، عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك. فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع؟ وقوله تعالى: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قيد للإكراه، لكن لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه، بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم، كما قبله جيء به تشنيعًا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير، لأجل النزر الحقير. أي: لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال. يعني من كسبهن وأولادهن.وقوله تعالى: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكرهات عن عقوبة المكره عليه عبارةً، ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارةً، أي: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ} على ما ذكر من البغاء {فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: لهن. كما وقع في مصحف ابن مسعود. وعليه قراءة ابن عباس رضي الله عنهم. وكما ينبئ عنه قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} أي كونهن مكرهات. على أن الإكراه مصدر من المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها، للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة. وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى، إذا قرأ هذه الآية يقول: لهن، والله! لهن، والله! وفي تخصيصهما بهن وتعيين مدارهما، مع سبق ذكر المكرهين أيضًا في الشرطية، دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية، كأنه قيل: لا للمكره. ولظهور هذا التقدير، اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط. فتجويز تعلقهما بهم بشرط التوبة استقلالًا، أو معهن، إخلالٌ بجزالة النظم الجليل، وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل. وحاجتهن إلى المفغرة المنبئة عن سابقة الإثم، إما باعتبار أنهن وإن كن مكرهات، لا يخلون في تضاعيف الزنى عن شائبة مطاوعة ما يحكم الجبلة البشرية. وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرًا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة. وإما لغاية تهويل أمر الزنى، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة، لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة، مع قيام العذر في حقهن. فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب؟ انتهى كلام أبي السعود وقد أجاد في تحقيق المرام رحمه الله تعالى.تنبيه:قال في الإكليل: في الآية النهي عن إكراه الإماء على الزنى. وأن المكرَه غير مكلف ولا آثم. وأن الإكراه على الزنى يتصور. وإن مهر البغيّ حرام. وفيه رد على من أوجب الحد على المكره له.ثم حذّر سبحانه من مخالفة ما نهى عنه، مما بينه أشد البيان، بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أي: واضحات أو مفسرات لكل ما تهم حاجتكم إليه من عبادات ومعاملات وآداب. ومنه ما ذكر قبلُ، من النهي عن الإكراه. فلا يخفى المراد منها: {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: خبرًا عظيمًا عن الأمم الماضية وما حل بهم، بظلمهم وتعدّيهم حدود الله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} أي: فيتعظون به وينزجرون عما لا ينبغي لهم. كما قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56]، أي: عبرة يعتبرون بها. وإيثار المتقين لحث المخاطبين على الانتظام في سلكهم، فإنهم الفائزون. اهـ.
|