الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الفخر: .قال ابن عاشور: وهذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية. والتَّقوى تقدّم تفسيرها عند قوله تعالى: {هدى للمتقين}. وحاصلها امتثال الأمر، واجتناب المنهي عنه، في الأعمال الظَّاهرة، والنَّوايا الباطنة. وحقّ التقوى هو أن لا يكون فيها تقصير، وتظاهر بما ليس من عمله، وذلك هو معنى قوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] لأنّ الاستطاعة هي القدرة، والتَّقوى مقدورة للنَّاس. وبذلك لم يكن تعارض بين الآيتين، ولا نسخ، وقيل: هاته منسوخة بقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} لأنّ هاته دلّت على تقوى كاملة كما فسَّرها ابن مسعود: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا يُنْسى، ورووا أنّ هذه الآية لمَّا نزلت قالوا: يا رسول الله من يَقوىَ لهذا فنزلت قوله تعالى: {فاتَّقوا الله ما استطعتم} فنسَخَ هذه بناء على أنّ الأمر في الآيتين للوجوب، وعلى اختلاف المراد من التقويين. والحقّ أنّ هذا بيأن لا نسخ، كما حقَّقه المحقِّقون، ولكن شاع عند المتقدّمين إطلاق النَّسخ على ما يشمل البيان. اهـ. .القراءات والوقوف: .القراءات: .الوقوف: {وتسود وجوه} ج {اسودت وجوههم} (لا) لأن التقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟ {تكفرون} o {ففي رحمة الله} ط {خالدون} o {بالحق} ط {للعالمين} o {ما في الأرض} ط {الأمور} o {وتؤمنون بالله} ط {خيرًا لهم} ط {الفاسقون} o قيل: لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة {إلا أذى} ط و{الأدبار} وقفة لأن ثم لترتيب الأخبار أي ثم هم لا ينصرون، ولو كان عطفًا لكان ثم لا ينصروا. {لا ينصرون} o. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال البغوي: وقال الخزرجي: منّا أربعة أحكموا القرآن: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا، فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ}. اهـ. .قال القرطبي: وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله، من يَقْوى على هذا؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] فنسخت هذه الآيةَ؛ عن قَتادة والرّبيع وابن زيد. قال مقاتل: وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية. وقيل: إن قوله: {فاتقوا الله مَا استطعتم} بيانٌ لهذه الآية. والمعنى: فاتّقوا الله حق تُقاته ما استطعتم، وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع والجمع ممكن فهو أوْلىَ. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: قول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] لم تُنسخ، ولكن {حقّ تُقاته} أن يُجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لَوْمةُ لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم. قال النحاس: وكلما ذكر في الآية واجبٌ على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ. اهـ. .قال الفخر: فإن قيل: أليس أنه تعالى قال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]. قلنا: سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين؛ أما الذين قالوا: إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا ينسى، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ. قال المصنف رضي الله تعالى عنه، أقول: للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين: الأول: أن كنه الإلهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلومًا للخلق، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به. الثاني: أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معًا فنسخ المغلظ وبقي المخفف، وقيل: إن هذا باطل، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجورًا عنه وإنه غير جائز. اهـ. وقال الفخر: قوله تعالى: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي كما يجب أن يتقى يدل عليه قوله تعالى: {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] ويقال: هو الرجل حقًا، ومنه قوله عليه السلام: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وعن علي رضي الله عنه أنه قال: أنا علي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت. اهـ. وقال الفخر: لفظ النهي واقع على الموت، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم، ومضى الكلام في هذا عند قوله: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132]. اهـ. .قال الألوسي: .من لطائف وفوائد المفسرين: قوله جلّ ذكره: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}. حقُّ التقوى أن يكون على وفق الأمر لا يزيد من قِبَلِ نَفْسِه ولا ينقص. هذا هو المعتمد من الأقاويل فيه، وأمره على وجهين: على وجه الحَتْم وعلى وجه الندب وكذلك القول في النهي على قسمين: تحريم وتنزيه، فيدخل في جملة هذا أن يكون حق تقاته أولًا اجتناب الزلة ثم اجتناب الغفلة ثم التوقي عن كل خلة ثم التنقي من كل عِلَّة، فإذا تَقِيتَ عن شهود تقواك بعد اتصافك بتقواك فقد اتَّقَيْت حقَّ تقواك. وحق التقوى رفض العصيان ونفي النسيان، وصون العهود، وحفظ الحدود، وشهود الإلهية، والانسلاخ عن أحكام البشرية، والخمود تحت جريان الحكم بعد اجتناب كل جُرْم وظلم، واستشعار الأنفة عن التوسل إليه بشيء من طاعتك دون صرف كرمه، والتحقق بأنه لا يَقْبل أحدًا بعِلَّة ولا يَرُدُّ أحدًا بعلة. قوله جلّ ذكره: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}. لا تُصَادِفَنَّكم الوفاة إلا وأنتم بشرط الوفاء. اهـ. .من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا}: .قال ابن عاشور: .قال الفخر: واعلم أن كل من يمشي على طريق دقيق يخاف أن تزلق رجله، فإذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبي ذلك الطريق أمن من الخوف، ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق، وقد انزلق رجل الكثير من الخَلْق عنه، فمن اعتصم بدليل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف، فكان المراد من الحبل هاهنا كل شيء يمكن التوصل به إلى الحق في طريق الدين، وهو أنواع كثيرة، فذكر كل واحد من المفسرين واحدًا من تلك الأشياء، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بالحبل هاهنا العهد المذكور في قوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وقال: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس} [آل عمران: 112] أي بعهد، وإنما سمي العهد حبلًا لأنه يزيل عنه الخوف من الذهاب إلى أي موضع شاء، وكان كالحبل الذي من تمسك به زال عنه الخوف، وقيل: أنه القرآن، روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما إنها ستكون فتنة» قيل: فما المخرج منها؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين». وروي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هذا القرآن حبل الله». وروي عن أبي سعيد الخُدْريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله تعالى حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي» وقيل: إنه دين الله، وقيل: هو طاعة الله، وقيل: هو إخلاص التوبة، وقيل: الجماعة، لأنه تعالى ذكر عقيب ذلك قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ}. وهذه الأقوال كلها متقاربة، والتحقيق ما ذكرنا أنه لما كان النازل في البئر يعتصم بحبل تحرزًا من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزًا لصاحبه من السقوط في قعر جهنم جعل ذلك حبلًا لله، وأمروا بالاعتصام به. اهـ.
|