الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}.لما ذكر سبحانه حال المؤمنين، وما يئول إليه أمرهم ذكر مثلًا للكافرين، فقال: {والذين كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} المراد بالأعمال هنا: هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة، والصلة، وفكّ العاني، وعمارة البيت، وسقاية الحاجّ، والسراب: ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حرّ النهار على صورة الماء في ظنّ من يراه، وسمي سرابًا لأنه يسرب أي: يجري كالماء؛ يقال: سرب الفحل أي: مضى، وسار في الأرض، ويسمى الآل أيضًا.وقيل: الآل هو الذي يكون ضحى كالماء، إلاّ أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض، قال امرؤ القيس:وقال آخر: والقيعة: جمع قاع: وهو الموضع المنخفض الذي يستقرّ فيه الماء، مثل جيرة، وجار، قاله الهروي.وقال أبو عبيد: قيعة، وقاع واحد.قال الجوهري: القاع المستوي من الأرض، والجمع: أقوع وأقواع وقيعان، صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع.قال: وبعضهم يقول: هو جمع {يَحْسَبُهُ الظمآن مَاء} هذه صفة ثانية لسراب، والظمآن: العطشان، وتخصيص الحسبان بالظمآن مع كون الرّيان يراه كذلك، لتحقيق التشبيه المبنيّ على الطمع {حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} أي: إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئًا مما قدّره وحسبه، ولا من غيره، والمعنى: أن الكفار يعوّلون على أعمالهم التي يظنونها من الخير، ويطمعون في ثوابها، فإذا قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئًا، لأن الكفر أحبطها، ومحا أثرها، والمراد بقوله: {حتى إِذَا جَاءهُ} مع أنه ليس بشيء أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فيه.ثم ذكر سبحانه ما يدلّ على زيادة حسرة الكفرة، وأنه لم يكن قصارى أمرهم مجرّد الخيبة كصاحب السراب، فقال: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ فوفاه حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} أي: وجد الله بالمرصاد، فوفاه حسابه أي: جزاء عمله، كما قال امرؤ القيس: وقيل: وجد وعد الله بالجزاء على عمله، وقيل: وجد أمر الله عند حشره، وقيل: وجد حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل، والمعنى متقارب.وقرأ مسلمة بن محارب {بقيعاه} بهاء مدورة كما يقال: رجل عزهاه.وروى عنه: أنه قرأ {بقيعات} بتاء مبسوطة.قيل: يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأوّل، وجمع قيعة على الثاني.وروي عن نافع، وأبي جعفر، وشيبة أنهم قرؤوا: {الظمآن} بغير همز، والمشهور عنهم الهمز.{أَوْ كظلمات} معطوف على كسراب، ضرب الله مثلًا لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات، فهي أيضًا تشبه الظلمات.قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يرى، فهي كهذه الظلمات التي وصف.قال أيضًا: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه الظلمات، فأو: للإباحة حسبما تقدّم من القول في {أَوْ كَصَيّبٍ} [البقرة: 19].قال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضًا من أعمالهم.قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار {فِي بَحْرٍ لُّجّيّ} اللجة معظم الماء، والجمع لجج، وهو: الذي لا يدرك لعمقه.ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى، فقال {يغشاه مَوْجٌ} أي: يعلو هذا البحر موج، فيستره ويغطيه بالكلية، ثم وصف هذا الموج بقوله: {مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} أي من فوق هذا الموج موج، ثم وصف الموج الثاني، فقال: {مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} أي: من فوق ذلك الموج الثاني سحاب، فيجتمع حينئذٍ عليهم خوف البحر وأمواجه، والسحاب المرتفعة فوقه.وقيل: إن المعنى: يغشاه موج من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضًا حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه زاد الخوف شدّة، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب، وهبت الريح المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم، وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ولهذا قال سبحانه: {ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} أي: هي ظلمات متكاثفة مترادفة، ففي هذه الجملة بيان لشدّة الأمر وتعاظمه، وقرأ ابن محيصن، والبزي: {سحاب ظلمات} بإضافة سحاب إلى ظلمات، ووجه الإضافة: أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.وقرأ الباقون بالقطع، والتنوين.ومن غرائب التفاسير: أنه سبحانه أراد بالظلمات: أعمال الكافر، وبالبحر اللجيّ: قلبه، وبالموج فوق الموج: ما يغشى قلبه من الجهل، والشكّ، والحيرة.والسحاب: الرين، والختم، والطبع على قلبه، وهذا تفسير هو عن لغة العرب بمكانٍ بعيد.ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} وفاعل أخرج ضمير يعود على مقدّر دلّ عليه المقام أي: إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلى بها.قال الزجاج، وأبو عبيدة: المعنى لم يرها، ولم يكد.وقال الفرّاء: إن كاد زائدة.والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها، كما تقول ما كدت أعرفه.وقال المبرد: يعني: لم يرها إلاّ من بعد الجهد.قال النحاس: أصح الأقوال في هذا أن المعنى: لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة، ولا قريبة، وجملة: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} مقرّرة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة، والمعنى: ومن لم يجعل الله له هداية، فما له من هداية.قال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد، وقيل: المعنى: من لم يجعل له نورًا يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة.{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبّحُ لَهُ مَن في السموات والأرض} قد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، والخطاب لكلّ من له أهلية النظر، أو للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علمه من جهة الاستدلال؛ ومعنى {أَلَمْ تَرَ}: ألم تعلم، والهمزة للتقرير أي: قد علمت علمًا يقينيًا شبيهًا بالمشاهدة، والتسبيح: التنزيه في ذاته، وأفعاله، وصفاته عن كل ما لا يليق به، ومعنى {مَن في السموات والأرض}: من هو مستقرّ فيهما من العقلاء، وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها.وقيل: إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء، والتنزيه من غيرهم.وقد قيل: إن هذه الآية تشمل الحيوانات، والجمادات، وأن آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق، ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال، والكمال، وتنزّهه عن صفات النقص، وفي ذلك تقريع للكفار، وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها كعبادته عزّ وجلّ.وبالجملة، فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم المجاز.قرأ الجمهور {والطير صافات} بالرفع للطير، والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من، وصافات منتصب على الحال.وقرأ الأعرج {والطير} بالنصب على المفعول معه، وصافات حال أيضًا.قال الزجاج: وهي أجود من الرفع.وقرأ الحسن، وخارجة عن نافع {والطير صافات} برفعهما على الابتداء، والخبر، ومفعول صافات محذوف أي: أجنحتها، وخصّ الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها في الأرض، وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها تارة على الطيران، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات، وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها؛ لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء مسبحة من دون تحريك لأجنحتها، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كلّ شيء.ثم زاد في البيان فقال: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} أي: كلّ واحد مما ذكر، والضمير في علم يرجع إلى كلّ، والمعنى: أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح.وقيل: المعنى أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه، وتسبيح نفسه.قيل: والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرّر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحًا.وقيل: المراد بالصلاة هنا الدعاء أي: كل واحد قد علم دعاءه، وتسبيحه.وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك، أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك، وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الإتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه، وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له {والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها أي: لا تخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم، ويجوز أن يكون الضمير في {علم} لله سبحانه، أي: كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه، والأوّل أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى.وذكر بعض المفسرين: أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول.ثم بين سبحانه: أن المبدأ منه، والمعاد إليه، فقال: {وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض} أي: له لا لغيره {وَإِلَيْهِ المصير} لا إلى غيره، والمصير: الرجوع بعد الموت.وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع.ثم ذكر سبحانه دليلًا آخر من الآثار العلوية، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَابًا} الإزجاء: السوق قليلًا قليلًا، ومنه قول النابغة: وقوله أيضًا:
|