الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وهذه الآية عامة في معناها لكل من ظن هذا الظّن السّيء بربه، وتفيد أن اللّه تعالى ناصر نبيه في الدّنيا والآخرة على رغم حسّاده وأعاديه، وناصر أنصاره وأتباعه إلى يوم القيامة إذا صدقوا وداوموا على سنته {وَكَذلِكَ} كما أنزلنا على من قبلك من الرّسل كتبا وصحفا {أَنْزَلْناهُ} أي هذا الكتاب الحاوي على معنى كلّ ما نزل قبل عليهم.عليك يا سيد الرّسل وجعلناه {آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي} به إلى دينه {مَنْ يُرِيدُ} (16) من عباده الّذين سبقت لهم السّعادة في علمه الأزلي {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ} لم تذكر هذه الكلمة في القرآن كله إلّا هنا {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وهؤلاء أصحاب الأديان السّتة الموجودون على وجه الأرض عند نزول القرآن لا غيرهم، أما الفرق الأخرى الموجودون الآن فقد افترقوا بعد وانشقوا بعضهم على بعض وتشعبوا من هذه الأديان السّتة كما أخبر حضرة الرّسول، وقد ذكرهم صاحب المواقف في أواخر الجزء الثالث على وجه التفصيل فمن أراد الاطلاع عليهم ومعرفة أديانهم وأهلها والوقوف على كنههم فليراجعه.فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم من المختلفين في أمر الدين المنزل عليك يا أكمل الرّسل لا تعبا بهم الآن {إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} وبينك وأتباعك ومن اقتفى أثرك ومشى على طريقك {يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (17) تقدم تفسير مثله في الآية 62 من سورة البقرة المارة وسيأتي ما يقاربها في الآية 77 في المائدة عدا كلمة المجوس قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأرض وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدواب} كل بما يناسبه بما أراده اللّه منه، وبما أن من النّاس من يسجد قولا وفعلا، قال جل قوله: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} لأن بعضهم يتركه ظاهرا وتكبرا وتمردا وهو في الحقيقة ساجد خاضع منقاد للّه تعالى بكليته.سئل الحجاج هل قتلت أحدا بحق؟ قال بلى، قتلت ثلاثة وإني لأرجو أن أدخل الجنّة بسبب قتلهم، وعدّ منهم رجلا أمره بالصلاة فقال ما يمنعني منها إلّا سجودها وركوعها لما يبدو من ذلك من تمثل العورة، أي أنه يأنف من ذلك ولو كان أمام اللّه، فقتله لذلك وما ذلك على اللّه بعزيز إذا حسنت نية الحجاج {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ} لكفرهم وابائهم عن السّجود مثل هذا الذي ذكره الحجاج لأن من يستكبر أن يسجد للّه فهو كافر {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ} بالشقاوة الواقعة منه عن رغبة واختيار {فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} بالسعادة التي أعرض عن أسبابها فسببت له الذل، ومن يذلّه اللّه لا يكرمه النّاس ولا يصيرونه مكرما عندهم، لأنه مهان عند ربه {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} (18) من إكرام أناس وإهانة آخرين بمقتضى أعمالهم ومنهم يسجد قولا ويأنف فعلا كالمار ذكره، ومنهم من لا يسجد قولا ولا فعلا كالكفرة، أما الطّيور والحيوانات والكواكب والجبال والأشجار والنّبات فتسجد بحسبها كما أنها تسبحه بحسبها، راجع الآية 45 من سورة الاسراء.ثم أشار تعالى لأهل الأديان السّتة المار ذكرهم بقوله: {هذانِ خَصْمانِ} بلفظ التشبه لأنهم في الحقيقة صنفان أهل كتاب ومشركون، وبما أن أهل الكتاب لم يعملوا به ولم يؤمنوا بمحمد فيكون الصّنفان مؤمنين وكافرين، لأن الأصناف الخمسة متساوون بمعنى الكفر، فهم بمثابة واحدة فيكونون صنفا والمؤمنون صنف، وقد جمع الضّمير بقوله: {اخْتَصَمُوا} كل منهم {فِي رَبِّهِمْ} في الدّنيا أي اختلفوا في دينه الذي شرعه لهم على لسان أنبيائه المرسلين إليهم راجع الآية 26 من سورة النّور المارة.وقد بين اللّه كيفية الفصل بينهم فيما تقدم من الآيات وفي قوله تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} (19) الماء الشّديد الغليان المتناهي في الحرارة.ثم بين مبالغة تأثيره فيهم بقوله: {يُصْهَرُ} يذاب {بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ} من الشّحوم والأحشاء والأمعاء {وَالْجُلُودُ} (20) يذيبها أيضا {وَلَهُمْ} عذاب آخر وهو {مَقامِعُ} سياط {مِنْ حَدِيدٍ} (21) يضربون بها {كُلَّما أرادوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ} من غمومها الكثيرة وحاولوا الهرب للتخلص من كربها وصعوبة بلائها {أُعِيدُوا فِيها} أعادتهم ملائكة العذاب إليها عنفا وقسرا بالضرب والكبح ويقولون توبيخا لهم وتقريعا حال ضربهم وردهم إليها {وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} (22) وهذا حكم اللّه تعالى يوم القيامة على فريق الكافرين أهل النّار، أما حكمه على المؤمنين أهل الجنّة فهو ما ذكره بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} (23) ويسميه العراقيون إبريسم، وهو المفتول منه عرفا {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} وهو ما ذكره اللّه تعالى: {وَقالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الآية 25 من سورة فاطر ج 1 وبقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ} الآية 75 من سورة الزمر ج 2 {وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ} (24) الطريق المحمود الموصل إلى جنته بسلام.هذا ومن قال إن هذه الآية نزلت في علي كرم اللّه وجهه وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين بارزوا عتبة وشيبة بنى ربيعة والوليد بن عتبة في بدر فغير وجيه، لأن هذا الاختصام المشار إليه في هذه الآية تفريع عما جاء في الآية السّابقة التي أشرقا إليها وهو اختصام في الدّين لا في الحرب، وهي متأخرة في قصة بدر ولم تأت بسباق قصة حكاية الحال حتى يصبح القول بما ذكر، كما أن ما قيل إن هذا الاختصام بين الجنّة والنّار قول واه أيضا، وإن ما رواه البخاري عن علي كرم اللّه وجهه أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرّحمن يوم القيامة لا يقصد منه هذه الخصومة، وقد يراد بها- واللّه أعلم- ما وقع بينه وبين معاوية مع ابنه الحسن وبين الحسين ويزيد إلا أن وقوع هذا بعد وفاته يبعده عن الواقع، تدبر.وكذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال «تحاجت الجنّة والنّار فقالت النّار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنّة فمالي لا يدخلني إلّا ضعفاء النّاس وسقطهم»- الحديث- لا ينطبق على هذه الآية وجوب حمل معناها على غير ظاهرها دون موجب أو صارف وهو غير جائز وما رواه قيس بن عبادة من أن أبا ذر أقسم أن هذه الآية نزلت في الّذين برزوا يوم بدر لا يصلح للاستدلال، لأنه خبر واحد وأخبار الآحاد لا تكون حجة لدحض مثل هذا، وإنما المراد في هذه الخصومة واللّه أعلم ما وقع من الاختلاف في أمر الدّين بين أهله المذكورين في هذه الدّنيا، وأنه يجاء بهم يوم القيامة بين يدي اللّه عز وجل فيفصل بينهم على الوجه المذكور فيها، كما ينبي عنه ظاهر التنزيل.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بما جاء به محمد {وَيَصُدُّونَ} الناس مع كفرهم {عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فيمنعونهم من الدّخول في الإسلام {وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فيمنعونهم من دخوله وهو {الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ} عامة لا يختص به واحد دون آخر، فهو قبلة ونسك وتعبّد إلى جميع الخلق {سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ} المقيم القاطن {وَالْبادِ} الذي يأتيه من البادية، فلا يجوز لأحد أن يمنع أحدا من دخوله والطّواف به.وخبر إن هذه محذوف تقديره نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ بدلالة خبر {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ} أي أي مراد كان في أنواع الكفر والظّلم بدلالة التنوين والتنكير {نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} (25) في الآخرة فضلا عما يصيبه من الهوان في الدّنيا أخرج الترمذي وأبو داود والنّسائي عن جبير بن مطعم أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلّى أي ساعة شاء من ليل أو نهار.هذا ومن قال إن المراد بالمسجد جميع الحرم يترتب عليه عدم جواز بيع بيوت مكة وإن النّاس فيها سواء، وهذا ينافيه قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} الآية 41 الآتية إذ أضاف الدّيار إلى مالكيها. وقوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». إذ نسب الدّيار إليهم نسبة ملك، فلو كانت من الحرم لما نسبت إليهم، وشراء السّيد عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه دار السّجن بأربعة آلاف درهم يدل على جواز بيعها، فلو كانت من الحرم لما جاز له ذلك ولم يقروه عليه، أما ما قاله عبد الرّحمن بن سابط من أن الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهلها بأحق في منزلة منهم، وما روي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة في المعنى الذي ذكره عبد الرّحمن، لا يدل على أنها من جملة الحرم الذي يشترك فيه النّاس أجمع وإنما يدل على كرم أخلاق أهل مكة وحسن قرأهم للضيف، ومساواتهم له بأنفسهم وجعلهم الضّيف كأحد في منازلهم، وهو على حد قوله:
|