الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{عَفَا الله عَنْهَا} استئناف مَسوقٌ لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتِهم عن المَساءة، بل لأنها في نفسها معصيةٌ مستتبِعةٌ للمؤاخذة وقد عفا عنها، وفيه مِنْ حثّهم على الجِدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى، وضميرُ {عنها} للمسألة المدلول عليها بلا تسألوا، أي عفا الله تعالى عن مسائلِكم السالفةِ حيث لم يفرِضْ عليكم الحج في كل عام جزاءً بمسألتكم، وتجاوَزَ عن عقوبتكم الأخروية بسائر مسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها. وأما جعلُه صفةً أخرى لـ {أشياء} على أن الضمير «لها» بمعنى لا تسألوا عن أشياءَ عفا الله عنها ولم يكلّفْكم إياها فمما لا سبيل إليه أصلًا، لاقتضائِه أن يكون الحجُّ قد فُرض أولًا في كل عامٍ ثم نُسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلومًا للمخاطَبين ضرورةَ أن حقَّ الوصف أن يكونَ معلومَ الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعلِه وصفًا له، وكلاهما ضروريُّ الانتفاء قطعًا، على أنه يستدعي اختصاصَ النهْي بمسألة الحجِّ ونحوِها إن سلِمَ وقوعُها، مع أن النظم الكريمَ صريحٌ في أنه مَسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوؤُهم إبداؤُها، سواءٌ كانت من قبيل الأحكام والتكاليفِ الموجبة لِمَساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبةً وتشديدًا كمسألة الحج لولا عفوُه تعالى عنها، أو من قبيل الأمور الواقعةِ قبل السؤال الموجبةِ للمساءة بالإخبار بها كمسألة مَنْ قال: أين أبي؟إن قلتَ تلك الأشياءُ غير مُوجبةٍ للمَساءة ألبتةَ، بل هي محتمِلةٌ لإيجاب المَسرَّة أيضًا، لأن إيجابَها للأولى إن كانت من حيث وجودُها فهي من حيث عدمُها موجبةٌ للأخرى قطعًا، وليست إحدى الحيثيتَيْن محقّقةً عند السائل وإنما غَرَضُه من السؤال ظهورُها كيف كانت، بل ظهورُها بحيثية إيجابها للمَساءة؟ قلتُ: لتحقيق المنهيِّ عنه كما ستعرِفه مع ما فيه من تأكيد النهْي وتشديدِه، لأن تلك الحيثيةَ هي الموجبةُ للانتهاء والانزجار، لا حيثيةُ إيجابِها للمسرة ولا حيثيةُ تردّدِها بين الإيجابين.إن قيل: الشرطية الثانية ناطقةٌ بأن السؤالَ عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزمٌ لإبدائها ألبتةَ كما مر فلمَ تخلَّفَ الإبداءُ عن السؤال في مسألةِ الحج حيث لم يُفرَضْ في كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل ورودِ النهي، وما ذُكر في الشرطية إنما هو السؤال الواقعُ بعد وروده، إذ هو الموجبُ للتغليظ والتشديد ولا تخلُّفَ فيه، إن قيل: ما ذكرتَه إنما يتمشى فيما إذا السؤالُ عن الأمور المترددةِ بين الوقوع وعدمِه كما ذُكرَ من التكاليف الشاقةِ، وأما إذا كان عن الأمور الواقعةِ قبله فلا يكادُ يتسنّى، لأن ما يتعلق به الإبداءُ هو الذي وقع في نفس الأمرِ ولا مرد له، سواء كان السؤالُ قبل النهي أو بعده، وقد يكون الواقع ما يوجب المسرةَ كما في مسألة عبدِ اللَّه بنِ حذافةَ، فيكون هو الذي يتعلق به الإبداءُ لا غيرُ، فيتعين التخلُّفُ حتمًا، قلنا: لا احتمالَ للتخلف فضلًا عن التعيُّن، فإن المنهيَّ عنه في الحقيقة إنما هو السؤالُ عن الأشياء الموجبةِ للمَساءة الواقعةِ في نفس الأمر قبل السؤال، كسؤال من قال: أين أبي؟ لا عما يعُمُّها وغيرَها مما ليس بواقع، لكنه محتمِلٌ للوقوع عند المكلفين حتى يلزمَ التخلّفُ في صورةِ عدم الوقوع.وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهيُ عن السؤال عن الأشياء التي يوجبُ إبداؤها المساءةَ البتة، إما بأن تكون تلك الأشياءُ بعَرَضية الوقوعِ فتُبدَى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبةً وتشديدًا كما في صورة كونِها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعةً في نفس الأمر قبل السؤال فتُبدى عنده بطريق الإخبار بها، فالتخلفُ ممتنِعٌ في الصورتين معًا، ومنشأ توهّمِه عدمُ الفرق بين المنهي عنه وبين غيرِه بناءً على عدم امتياز ما هو موجودٌ أو بعَرَضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدةُ هذا الإبهام الانتهاءُ عن السؤال عن تلك الأشياء على الإطلاق حِذارَ إبداء المكروه {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّر لعفوه تعالى أي مبالغٌ في مغفرة الذنوب والإغضاءِ عن المعاصي، ولذلك عفا عنكم ولم يؤاخِذْكم بعقوبة ما فَرَط منكم. اهـ.
وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مدهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد: إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوًا على غير قياس كإبدالها واوًا في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضًا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعًا لقالوا شيآت على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في «أمالي ابن الشجري».{إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ} أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير {عَنْهَا} راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا» فقال رجل وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثًا فقال صلى الله عليه وسلم: لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال صلى الله عليه وسلم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك.وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
|