الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال الله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.وقوله تعالى: {لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قيل معناه: لا تتقدَّمُوا.وتحقيقه: لا تسبقوه بالقول والحُكم، بل افعلوا ما يأْمركم به، كما يفعله العِباد المكرمون كما قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ}.وقَدُمَ- ككرم- قِدَمًا وقَدامة فهو قَدِيم وقُدَام، والجمع: قُدَماءُ وقُدَامَى: تقادم.وأَقدم على الأَمر: شَجُع.وأَقدمته وقدّمته.والقِدَم: ضدّ الحدوث.والقُدُم- بضمتين-: المضىّ أَمام أَمام.وهو يمشى القُدُم والقُدُمِيّة والتَقْدُمِيَّة والتَقْدُمة: إِذا تقدّم في الحرب.والتقدّم على أَربعة أَوجه ممّا ذكر في (قبل).ويقال: قديم وحديث، وذلك إِما باعتبار الزَّمانين، وإِمّا بالشرف، وإِما لما لا يصحّ وجود غيره إِلاَّ بوجوده، كقوله: الواحد متقدّم على العدد، بمعنى أَنه لو تُوهِّم ارتفاعه لارتفع الأَعداد.والقِدَم: وجودٌ فيما مضى، والبقاءُ: وجود فيما يستقبل.ولم يرد في التنزيل ولا في السنَّة ذكر القديم في وصف الله تعالى، والمتكلِّمون يصفونه به، وقد ورد يا قديم الإِحسان.وأَكثر ما يستعمل القديم يستعمل باعتبار الزمان؛ نحو قوله: {كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ}.وقوله تعالى: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} أَي سابقة فضيلة.(وقدّمت إِليه بكذا: أَعلمته قبل وفت الحاجة إِلى فعله)، قال تعالى: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ}.وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أَي لا يزيدون تأَخُّرًا ولا تقدُّمًا.وقوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ} أَي ما فعلوه قبل.قال الزمخشري: تقدّمت إِليه بكذا وقدّمت: أَمرته به.وفلان يتقدّم بين يدى الله: إِذا عجِل في الأَمر والنهى دونه.وما له في ذاك متقدَّم ومقْتدَم.ولقيته قدام ذاك وقد يديمته، أَي قُبيله، قال علقمة:
اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:قوله جلّ ذكره: {أَكَانَ لِلنَّاس عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ}.تعجبوا من ثلاثة أشياء: من جواز البعث بعد الموت، ومن إرسال الرسل إلى الخَلْق، ثم من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مِنْ بين الخلق، ولو عرفوا كمال مُلْكِه لم يُنْكِروا جواز البعث، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسالَ الرُّسل إلى الخلْق، ولو عرفوا أنَّ له أنْ يفعلَ ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد- صلى الله عليه وسلم بالنبوة مِنْ بين الخَلْق، ولكنْ سُدَّتْ بصائرُهم فتاهوا في أودية الحيرة، وعَثَرُوا- من الضلالة- في كل وَهْدَةٍ. وكان الأستاذ أبو علي الدَّقاق- رحمه الله- يقول: جَوَّزُوا أن يكون المنحوتُ من الخشب والمعمولُ من الصخر إلهًا معبودًا، وتعجبوا أن يكون مثلُ محمد صلى الله عليه وسلم في جلالةِ قَدْرِه رسولًا...!! هذا هو الضلال البعيد.قوله جلّ ذكره: {وَبَشِّرِ الَّذِنَ ءَامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}.وهو ما قدَّموه لأنفسهم من طاعاتٍ أخلصوا فيها، وفنونِ عباداتٍ صَدَقُوا في القيام بقضائها.ويقال هو ما قَّدم الحقُّ لهم يومَ القيامة، مع مقتضى العناية بشأنهم، وما حَكَمَ لهم من فنون إحسانه بهم، وصنوفِ ما أفردهم به من امتنانهم.ويقال: {قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ}: هو ما رفعوه من أقدامهم في بدايتهم في زمان إرادتهم، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعِة لأَجْلِ اللَّه حُرْمَةً عند الله، ولأيامِهم الخاليةِ في حالِ تردُّدِهم، وليالَيهم الماضية في طلبه وهم في حُرْقَةِ تحيّرهم مقاديرَ عند الله. وقيل:وقيل: اهـ. .تفسير الآية رقم (3): قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:شرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه- مع ما تضمنه من البعث- سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلابد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال: {إن ربكم} أي الموجد لكم والمربي والمحسن {الله} أي من ربى شيئًا ينبغي أن يكون حكيمًا وقادرًا على أسباب صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعًا، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم {الذي} بدأ الخلق بأن {خلق} أي قدر وأوجد {السماوات والأرض} على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع {في ستة أيام} لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيرًا إلى عظمته بأداة التراخي: {ثم استوى} أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك {على العرش} المتقدم وصفه بالعظمة، وليست {ثم} للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله: {يدبر} لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه {الأمر} كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه، بل هو متصف بأنه {ما من شفيع} أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحدًا عند إذنه له إذنًا عامًا لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال: {إلا من بعد إذنه} فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن {ما من شفيع} في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلًا فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتبًا في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله: {ذلكم} أي العظيم الشأن العالي المراتب {الله} أي الملك الأعلى {ربكم} الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف {فاعبدوه} أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال: {أفلا تذكرون} أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيرًا مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعًا أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لابد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع!. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولًا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين: أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلهًا قاهرًا قادرًا نافذًا الحكم بالأمر والنهي والتكليف.والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.أما الأول: وهو إثبات الإلهية، فبقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض}.وأما الثاني: وهو إثبات المعاد والحشر والنشر.فبقوله: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ الله حَقّا} [يونس: 4] فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال.وفي الآية مسائل:.المسألة الأولى: [في الدليل الدال على وجود الصانع تعالى]: قد ذكرنا في هذا الكتاب، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى، إما الامكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة، وهي إمكان الذوات، وإمكان الصفات، وحدوث الذوات، وحدوث الصفات.وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب، وتارة في العالم السفلي، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي، وتارة في أحوال العالم السفلي، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها، وتقريره من وجوه: الأول: أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر.أما بيان المقام الأول: فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلًا للقسمة الوهمية، فإنه يكون مركبًا من الأجزاء والأبعاض.ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة، ولكنه يكون في نفسه شيئًا واحدًا كلام فاسد باطل.فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزى، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم، وبعضها حصلت على سطحها، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع.وإذا ثبت هذا فنقول: حصول بعضها في الداخل، وحصول بعضها في الخارج، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنًا، والباطن ظاهرًا.وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم.الوجه الثاني: في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول: حركات هذه الأفلاك لها بداية، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر.أما المقام الأول: فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها، والأزل ينافي المسبوقية بالغير، فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالًا، فثبت أن لحركات الأفلاك أولًا، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال: هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة، لكنها كانت واقفة وساكنة.وما كانت متحركة، وعلى التقديرين: فلحركاتها أول وبداية.وأما المقام الثاني: وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده، لابد وأن يكون لتخصيص مخصص، وترجيح مرجح.وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبًا بالذات، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلًا قبل ذلك الوقت، ولما بطل هذا، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب.
|