الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عاشور: عطف على جملة {أفغير دين الله يبغون} وما بينهما اعتراض، كما علمت، وهذا تأييس لأهل الكتاب من النجاة في الآخرة، وردّ لقولهم: نحن على ملة إبراهيم، فنحن ناجون على كلّ حال. والمعنى من يبتغ غير الإسلام بعد مجيء الإسلام. اهـ. .قال ابن عطية: قال الفقيه الإمام: فهذه إشارة إلى نسخ، وقوله: {في الآخرة} متعلق بمقدر، تقديره خاسر في الآخر لأن الألف واللام في {الخاسرين} في معنى الموصول، وقال بعض المفسرين: إن قوله: {من يبتغ} الآية، نزلت في الحارث بن سويد، ولم يذكر ذلك الطبري. اهـ. .قال ابن عادل: وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإظهار على الأصل، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ. والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم. وليس هذا مخصوصًا بهذه الآية، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان، نحو: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] وقوله: {وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28]. وقد استشكل على هذا نحو: {ويا قوم مَالي أَدْعُوكُمْ} [غافر: 41] ونحو: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي} [هود: 30] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديرًا. قوله: {دِينًا} فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه مفعول {يَبْتَغِ} و{غَيْرَ الإسلام} حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالًا. الثاني: أن يكون تمييزًا لِـ {غَيْرَ} لإبهامها، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت مِثْلُ وشِبهُ وأخواتهما، وسُمِع من العرب: إن لنا غيرَها إبلًا وشاءً. والثالث: أن يكون بدلًا من {غَيْرَ}. وعلى هذين الوجهين فـ {غَيْرَ الإسلام} هو المفعول به لـ {يبتغ}. وقوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛ لاستئنافها، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقًا على جواب الشرط- وهو {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}- ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام دينًا الخُسران وعدمُ القبول. اهـ. .قال أبو حيان: وقيل: المراد بالإسلام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء. قيل: وعن ابن عباس لما نزلت: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى} الآية أنزل الله بعدها: {ومن يبتغ} الآية. وهذا إشارة إلى نسخ {إن الذين آمنوا} وعن عكرمة: لما نزلت قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون، فقال الله له: حجهم يا محمد، وأنزل: {ولله على الناس حج البيت} فحج المسلمون وقعد الكفار. وقيل: نزلت في الحارث بن سويد، وستأتي قصته بعد هذا. وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه. {وهو في الآخرة من الخاسرين} الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام دينًا عدم القبول والخسران، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة. و: في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي: وهو خاسر في الآخرة، أو: بإضمار أعني، أو: بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف، كهي في: الرجل، أو: به على أنها موصولة، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، وكلُّ منقول، وقد تقدّم لنا نظير. اهـ. بتصرف يسير. .قال ابن كثير: وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن، حدثنا أبو هريرة، إذ ذاك ونحن بالمدينة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَجِيءُ الأعْمَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتَجِيءُ الصَّلاةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا الصَّلاةُ. فَيَقُولُ: أنك عَلَى خَيْرٍ. فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ فَتَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَا الصَّدَقَةُ. فَيَقُولُ: أنك عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ يَجِيءُ الصِّيَامُ فَيَقُولُ: أَيْ يَا رَبِّ، أَنَا الصِّيَامُ. فَيَقُولُ: أنك عَلَى خَيْرٍ. ثُمَّ تَجِيءُ الأعْمَالُ، كُل ذَلِكَ يَقُولُ الله تعالى: أنك عَلَى خَيْرٍ، ثُمَّ يَجِيءُ الإسلام فَيَقُولُ: يَا رَب، أَنْتَ السَّلامُ وَأَنَا الإسلام. فَيَقُولُ الله تعالى: أنك عَلَى خَيْرٍ، بِكَ الْيَوْمَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي، قَالَ الله فِي كِتَابِهِ: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ}». تفرد به أحمد. قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد: عباد بن راشد ثقة، ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة. اهـ. .من لطائف وفوائد المفسرين: .من لطائف القشيري: ويقال من توسَّل إليه بشيء دون الاعتصام به فخُسْرانه أكثر من رِبْحِه. ويقال من لم يَفْنَ عن شهود الكل لم يصل إلى مَنْ به الكل. ويقال مَنْ لم يَمْشِ تحت راية المصطفى صلى الله عليه وسلم المُعظَّم في قَدْره، المُعَلَّى في وصفه، لم يُقْبَلْ منه شيء ولا ذرة. اهـ. .من فوائد البيضاوي: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا} أي غير التوحيد والإِنقياد لحكم الله. {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأخرة مِنَ الخاسرين} الواقعين في الخسران، والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، واستدل به على أن الإيمان هُو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل. والجواب أنه ينفي قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره، ولعل الدين أيضا للأعمال. اهـ. .من فوائد الشعراوي: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين الإسلام، ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله الله منه. فإن كان هناك من لا يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا: إن في هذا التقنين قسوة؛ أنك تُقطع يد إنسان وتشوهه نرد على مثل هذا القائل: إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل السيارتين، أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر. ونحن عندما نبحث عن عدد الأيدي التي تم قطعها في تاريخ الإسلام كله، فلن نجدها إلا أقل كثيرا من عدد المشوهين بالحوادث، وأي ادعاء بالمحافظة على جمال الإنسان مسألة تثير السخرية؛ لأن تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة، بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات والآلاف، إن مثل هذا القول سفسطة، هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ لا، إن تشريع العقوبة يعني تحذير الإنسان من أن يرتكب الذنب. وعندما نقول لإنسان: إن قتلت نفسا فسيتولى ولي الأمر قتلك أليس في ذلك حفاظ على حياته وحياة الآخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة كل إنسان، يقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلامة، إذن فقول الحق سبحانه: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه الله فكأنه خطأ الله فيما شرع، وكأنه قد قال لله: أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الإله؛ لأنه قد فاتتك هذه المسألة. وفي هذا القول فسق عن شرع الله، وعلى الإنسان أن يلتزم الأدب مع خالقه. وليرد كل شيء إلى الله المربي، وحين ترد أيها الإنسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح، اللهم إلا أن يكون لك مصلحة في الانحراف. فإن كان لك مصلحة في الانحراف فأنت تريد غير ما أراد الله، أما إذا أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحق: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وقد يقول قائل في قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إن هذه العبارة لا تكفي في منحى اطمئنانا إلى جزاء العمل الذي أتقرب به إلى الله، فالله قد يقبل وقد لا يقبل فهو سبحانه لا أحد يكرهه على شيء، ونقول له: أنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت تستطيع، فكن عاقلا ولا تتمرد على أمر ربك، ويقول الحق: {وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. والخاسر: مأخوذة من الخسر، والخسر هو ذهاب رأس المال وضياعه، والآخرة حياة ليس بعدها حياة، ومن الغباء أن يقول قائل: سوف أتعذب قليلا ثم تنتهي المسألة لا، إن المسألة لا تنتهي؛ لأن الآخرة حياة دائمة ولا حياة بعدها. وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَق}. اهـ. .التفسير المأثور: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}. أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجئ الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا رب أنا الصلاة فيقول: أنك على خير، وتجيء الصدقة فتقول: يا رب أنا الصدقة فيقول: أنك على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: أنا الصيام فيقول أنك على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله: أنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا رب أنت السلام، وأنا الإسلام فيقول الله: أنك على خير. بك اليوم آخذ، وبك أعطي» قال الله في كتابه {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}. اهـ. .تفسير الآيات (86- 89): .مناسبة الآيات لما قبلها: .قال البقاعي: ولما كان الحائد عن الدليل بعد البيأن لا يرجى في الغالب عوده كان الاستبعاد بكيف موضحًا لأن التقدير لأجل التصريح بالمراد: أولئك لا يهديهم الله لظلمهم بوضعهم ثمرة الجهل بنقض عهد الله سبحانه وتعالى المؤكد بواسطة رسله موضع ثمرة العلم، فعطف على هذا المقدر المعلوم تقديره قوله: {والله} أي الذي له الكمال كله {لا يهدي القوم الظالمين} أي الغريقين في الظلم لكونه جبلهم على ذلك، تحذيرًا من مطلق الظلم، ولما علمت بشاعة خيانتهم تشوف السامع إلى معرفة جزائهم فقال: {أولئك} أي البعداء البغضاء {جزاؤهم أن عليهم لعنة الله} أي الملك الأعظم، وهي غضبه وطرده {والملائكة والناس أجمعين} حتى أنهم هم ليلعنون أنفسهم، فإن الكافر يطبع على قلبه فيظن أنه على هدى ويصير يلعن الكافر ظانًا أنه ليس بكافر، وهذا اللعن واقع عليهم حال تلبسهم بالفعل لوضعهم الشيء في غير محله، فصار كل من له علم يبعدهم لسوء صنيعهم لتبديلهم الحسن بالسيئ، وحذرًا من فعل مثل ذلك معه {خالدين فيها} أي اللعنة دائمًا. ولما كان المقيم في الشدة قد تنقص شدته على طول نفي ذلك بقوله: {لا يخفف عنهم العذاب} مفيدًا أن عليهم مع مطلق الشدة بالطرد شدائد أخرى بالعقوبة. ولما كان المعذب على شيء ربما استمهل وقتًا ما ليرجع عن ذلك الشيء أو ليعتذر نفى ذلك بقوله: {ولا هم ينظرون} أي يؤخرون للعلم بحالهم باطنًا وظاهرًا حالًا ومآلًا، ولإقامة الحجة عليهم من جميع الوجوه، لم يترك شيء نمها لأن المقيم لها منزه عن العجز والنسيان. ولما انخلعت القلوب بهذه الكروب نفّس عنها سبحانه وتعالى مشيرًا إلى أن فيهم- وإن استبعد رجوعهم- موضعًا للرجاء بقوله: {إلا الذين تابوا} أي رجعوا إلى ربهم متذكرين لإحسانه، ولما كان التائب لم يستغرق زمان ما بعد الإيمان بالكفر، وكانت التوبة مقبولة ولو قل زمنها أثبت الجار فقال: {من بعد ذلك} الارتدار حيث تقبل التوبة {وأصلحوا} أي بالاستمرار على ما تقضيه من الثمرات الحسنة {فإن الله} أي الذي له الجلال والإكرام يغفر ذنوبهم لأن الله {غفور} يمحو الزلات {رحيم} بإعطاء المثوبات، هذه صفة لهم ولكل من تاب من ذنبه. اهـ.
|