الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
تنبيهات:الأول: قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلًا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي يُنزله من السماء فتسيل به أودية الناس، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرًا، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن، فإنه- وإن علا وارتفع وانتفخ- إلا أنه أخيرًا يضمحل. وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول، ويبقى الحق ظاهرًا لا يشوبه شيء من الشبهات؛ لأنه لا بقاء إلا للنافع، وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه...!الثاني: قوله تعالى: {بِقَدَرِها} صفة {أودية}، أو متعلق بـ {سالت} أو {أنزل}. وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عَمْرو في رواية بسكونها.الثالث: قوله تعالى: {احْتَمَلَ} بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد. كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!.الرابع: الأودية جمع واد، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام. والإسناد إليه مجاز عقلي، كما في جري النهر.قال السمين: وإنما نكَّر الأودية وعرَّف السيل؛ لأن المطر ينزل في إيقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض. وتعريف السيل؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو {فسالت} وهو لو ذكر لكان نكرة. فلما أعيد أُعيد بلفظ التعريف نحو: رأيت رجلًا فأكرمت الرجل. انتهى.وأصله لأبي حيان حيث قال: عرَّف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل. والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة. وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرًا له، أي: الكذب. ولو جاء هنا مضمرًا لكان جائزًا عائدًا على المصدر المفهوم من {فسالت} وأورد عليه: أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث، والمذكور المعرَّف عيْن، فإن المراد به الماء السائل؟ وأجيب: بأنه بطريق الاستخدام.قال الشهاب: وهو غير صحيح، لا تكلف- كما قيل- لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر. سواء كان حقيقيًا أو مجازيًا، وهذا ليس كذلك، لأن الأول مصدر، أي: حدث في ضمن الفعل، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث، فكيف يتصور فيه الاستخدام؟ نعم، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر، فإن مثل الضمير اسم الإشارة، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم:
فالحق أنه إنما عرَّف لكونه معهودًا مذكورًا بقوله: {أَوْدِيَةٌ} وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.الخامس: قوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ} جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و{زبد} مبتدأ قدم عليه خبره، من في {مما} للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض، أي: هو بعضه. ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل. وقوله: {فِي النَّارِ} صفة مؤسسة؛ لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقًا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلًا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسر التعبير الموصول في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} الخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى؛ إذ عبَّر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوَّره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلًا للحق؛ لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبًا فيه منتفعًا به بقوله: {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} فوفى كلًا من المقامين حقه.السادس: قدمنا أن قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} على حذف مضاف، أي: مثلهما، وسر الحذف: الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل.السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ} وهو متأخر في الكلام السابق؛ لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ} إلخ [آل عِمْرَان: من الآية 106]، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول: النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولًا، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي. كذا في العناية.الثامن: قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ} تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول؛ بجعل ذلك إشارة إليهما. كذا في أبي السعود.التاسع: أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال: وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة مَثَلَيْن- ناري ومائي- وهو قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَه} [البقرة: من الآية 17] الآية، ثم قال: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: من الآية 19] الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مَثَلَيْن أحدهما قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور: من الآية 39] الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر، ولهذا جاء في الصحيحين: «فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون؟ أي: ربنا! عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون النار، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضًا». ثم قال تعالى في المثل الآخر: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّي} [النور: من الآية 40] الآية، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا. وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه الله بما بعثني، ونفع به فَعَلِمَ وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به، فهذا مثل الماء». وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش، وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني فتتقحمون فيها...» وأخرجاه في الصحيحين أيضًا. فهذا مثل ناري. انتهى. اهـ.
وأفاد ذلك في هذه الآية قوله: {زبد مثله}.وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنّه موضع اعتبار أيضًا ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرقّ الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه.وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم «فإذا فيها كلاليبُ مثل حَسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان».وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى: {ومما توقدون عليه في النار} لأنها أخصر وأجمع، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة، فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلًا لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المَعْدنين مع ذكر الصلة إذ لا مَحيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد، فكان الإتيان بالموصول قضاءً لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع.
|