الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنشد الأخفش: [الطويل] إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر، وليس كما قال، لما سيأتي.وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ، فقال الزَّجَّاجُ: هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل، وأما أبو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة، فغلط عليه كما غلط عليه في باريكم. وقد حكى عنه سيبويه- وهو ضابط لمثل هذا- أنه كان يكسر كسرًا خفيًا، يعني يكسر في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] كسرًا خفيًّا، فظنه الراوي سكونًا.قال شهابُ الدينِ: وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه:منها: أنه فَرَّ من السكون إلى الاختلاس، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس- أيضا- لا يجوز إلا في ضرورة، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس، قال: ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملًا، وجعل قوله: [البسيط] أحسن من قوله: [البسيط] حيث سكن الأول، واختلس الثاني.ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء- حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات: 6]- بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع-.ويقولون: لَهُ مال، ولَهْ مالٌ- بالإسكان والاختلاس.قال الفراء: من العرب مَنْ يجزم الهاء- إذا تحرَّك ما قبلَها- نحو ضَرَبْتُهْ ضربًا شديدًا، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع.وأنشد: [الرجز] قال شهاب الدينِ: وهذا عجيب من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف، نَصُّوا على ذلك، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة، ولذلك رد على ثعلب- في فصيحه- أشياء أنكرها عن العرب، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه، وقالوا: قالتها العربُ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج. فليكن هذا منها.وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزومًا، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل- من السكون للجزم- وهو غير سديدٍ.وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر: [الوافر] وقول الآخر: [الطويل] وقول الآخر: [البسيط] وقد تقدم أنها لغة عقيل، وكلاب أيضا، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ {يُؤَدِّهو} بضم الهاء بعدها واو، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس، وهما نظيرتا قراءتي {يؤدهي} و{يُؤَدِّهِ} بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ.واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم، أو أمر معتلِّ الآخر، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس- كقوله: {نُؤْتِهِ مِنْهَ} [آل عمران: 145] وقوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وقوله: {مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم} [النساء: 115]، وقوله: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} [النمل: 28] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة- أعني: الأوجه الثلاثة- في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه- وسيأتي مفصَّلًا في مواضعه إنْ شاء الله. وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع، نحو إنَّهُ، لَهُ، بِهِ، وإن سبقها ساكن، فالأشهر الاختلاس- سواء كان ذلك الساكن صحيحًا أو معتلًا- نحو فيه، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب.إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلمات- المشار إليها- إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء، أو الواو، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف. وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن- وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم- فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات.قوله: {بِدِينَارٍ} في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ:أحدها: أنها للإلصاق، وفيه قَلَقٌ.الثاني: أنها بمعنى في ولابد من حذف مضاف، أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار.الثالث: أنها بمعنى على وقد عُدِّيَ بها كثيرًا، كقوله: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف} [يوسف: 11] وقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف: 64] وكذلك هي في {بِقِنطَارٍ}.قوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائمًا عليه، متوكِّلًا به و{دُمْتَ} هذه هي الناقصةُ، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك ولا ينصرف، فأما قولهم: يدوم فمضارع دام التامة بمعنى بقي، ولكونها صلة لما الظرفية لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر، ليعمل في الظرف نحو أصحبك ما دمت باكيًا ولو قلت ما دام زيد قائمًا من غير شيء لم يكن كلامًا.وجوز أبو البقاء في ما هذه أن تكون مصدرية فقط، وذلك المصدر- المنسبك منها ومن دام- في محل نصب على الحال، وهو استثناءٌ مفرَّغ- أيضا- من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلا في حال ملازمتك له، وعلى هذا، فيكون دَامَ هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها، فإذا كانت تامة انتصب {قَائمًا} على الحال، يقال: دام يدُوم- كقام يقوم- و{دُمت قائمًا} بضم الفاء وهذه لغة الحجاز، وتميم يقولون: دِمْت- بكسرها- وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم، ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم يعني: أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف- فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل- بفتح العين- وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء.وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْتُ أدام- كخِفت اخاف- نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري.وأصل هذه المادة: الدلالة على الثبوت والسكون، يقال: دام الماء، أي سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» وفي بعضه بزيادة: الذي لا يجري، وهو تفسير له، وأدَمْت القِدْرَ، ودومتها سكنت غليانها بالماء، ومنه: دامَ الشيء، إذا امتدَّ عليه الزمان، ودوَّمت الشمس: إذا وقعت في كبد السماء.قال ذو الرمة: [البسيط] هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء، ومنه الدوام، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه، فيرَى الأشياء دائرة. وأنشد معه- أيضا- قول علقمة به عَبدَة: [البسيط]
|