الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن الكريم
فإذا جاء إلى زبالة الأفكار، ونحاتة الأذهان، جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي، وشمس الرسالة انجحر في جحرة الحشرات.قوله: {فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} (اللجى) العميق، منسوب إلى لجة البحر.وهو معظمه.وقوله تعالى: {يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ} تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه.فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر.وأنها أمواج بعضها فوق بعض.والضمير الأول في قوله: {يغشاه} راجع إلى البحر. والضمير الثاني في قوله: {من فوقه} عائد إلى الموج.ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب.فههنا ظلمات: ظلمة البحر اللجى، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله. إذا أخرج من في هذا البحر يده لم يكد يراها.واختلف في معنى ذلك:فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها. وهو أبلغ من نفيه الرؤية، وأنه قد ينفي وقوع الشيء ولا ينفي مقاربته. فكأنه قال: لم يقارب رؤيتها بوجه.قال هؤلاء: (كاد) من أفعال المقاربة، لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات. فإذا قيل: كاد يفعل فهو إثبات مقاربة الفعل. فإذا قيل: لم يكد يفعل: فهو نفي لمقاربة الفعل.وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد.وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر، لأجل تلك الظلمات.قالوا: لأن (كاد) لها شأن ليس لغيرها من الأفعال. فإنها إذا أثبتت نفت، وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت: ما كدت أصل إليك. فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة: فهذا إثبات للوصول. وإذا قلت: كاد زيد يقوم.فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [72: 19] ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [68: 51] وأنشد بعضهم في ذلك لغزا.أنحوي هذا العصر: ما هي لفظة جرت في لسان جرهم وثمود وإذا استعملت في صورة النفي أثبتت فإن أثبتت قامت مقام جحود؟ وقالت فرقة ثالثة، منهم أبو عبد اللّه بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضى نفي خبرها، كقولك: كاد زيد يقوم: واستعمالها منفية يقتضى نفيه بطريق الأولى. فهي عنده تنفي الخبر، سواء كانت منفية أو مثبتة. فلم يكد زيد يقوم أبلغ عنده في النفي من لم يقم. واحتج بأنها إذا نفيت وهي من أفعال المقاربة فقد نفت مقاربة الفعل، وهو أبلغ من نفيه. وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها. وذلك يدل على عدم وقوعه.واعتذر عن مثل قوله تعالى: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [2: 71] وعن مثل قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم: بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي فعلت كذا بعد أن لم أكن مقاربا له. فالأول يقتضى وجود الفعل. والثاني يقتضى أنه لم يكن مقاربا له، بل كان آيسا منه. فهما كلامان مقصود بهما أمران متباينان.وذهبت فرقة رابعة: إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها. فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل، سواء كانت بصفة الماضي أو المستقبل. وإن كانت في طرف النفي فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله: {لَمْ يَكَدْ يَراها} وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات، نحو قوله: {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ}.فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة.والصحيح: أنها فعل يقتضى المقاربة. ولها حكم سائر الأفعال، ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها. فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها. فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعا، فيكون منفيا باللزوم.وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة، كما إذا قلت: لا يكاد البطال يفلح، ولا يكاد البخيل يسود، ولا يكاد الجبان يفرح. ونحو ذلك.وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقاربا. كما قال ابن مالك.فهذا التحقيق في أمرها.والمقصود: أن قوله: {لَمْ يَكَدْ يَراها} إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة، وهو الأظهر. فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟قال ذو الرمة: أي لم يقارب البراح. وهو الزوال. فكيف يزول؟فشبه سبحانه أعمالهم أولا في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد، فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه.وشبهها ثانيا في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج، الذي قد غشيه السحاب من فوقه.فيا له تشبيها ما أبدعه، وأشد مطابقة لحال أهل البدع والضلال، وحال من عبد اللّه سبحانه وتعالى على خلاف ما بعث به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وترك به كتابه.وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم.وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها، وظلمات لا نور فيها.وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة.فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد. ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة. ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن في غير موضع لأوليائه وأعدائه.وقال في إعلام الموقعين: ذكر سبحانه للكافرين مثلين: مثلا بالسراب، ومثلا بالظلمات المتراكمة وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان:أحدهما: من يظن أنه على شيء، فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل، وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم. فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب بقيعة، يرى في عين الناظر ماء ولا حقيقة له، وهكذا الأعمال التي لغير اللّه، وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له، وليست كذلك. وهذه الأعمال التي قال اللّه عز وجل فيها: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} [25: 23].وتأمل جعل اللّه سبحانه السراب بالبقيعة- وهي الأرض القفراء الخالية من البناء، والشجر والنبات والعالم- فجعل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى.وتأمل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً} والظمآن: الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه، فلم يجده شيئا، بل خانه أحوج ما كان إليه. فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، ولغير اللّه جعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا، ووجدوا اللّه سبحانه ثمّ فجازاهم بأعمالهم، ووفاهم حسابهم.وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم في حديث التجلي يوم القيامة: «ثم يؤتى بجهنم، تعرض كأنها السراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزير ابن اللّه، فيقال: كذبتم، لم يكن للّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن اللّه، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن للّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون» وذكر الحديث.وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه.فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل.فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة، كالعمل لغير اللّه، أو على غير أمره، بطل العمل ببطلان غايته. وتضرر عامله من بطلانه، وبحصول ضد ما كان يؤمله، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده، لا له ولا عليه، بل صار معذبا بفوات نفعه، وبحصول ضد النفع فلهذا قال اللّه تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ}.فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.فصل:النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة، وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطبع، وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم، فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي، لا ساحل له، وقد غشيه موج، ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب.وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللّه منها إلى نور الإيمان.وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة، وهو الماء، والظلمات المضادة للنور: نظير المثلين اللذين ضربهما اللّه للمنافقين والمؤمنين، وهما المثل المائي، والمثل الناري، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة، فكذلك الكفار في هذين المثلين. حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة.وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد.ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا.وأصحاب المثل الثاني: هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعموا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا حال المغضوب عليهم، والأول حال الضالين.وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ}.فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعم عليهم، وهم أهل النور، والضالين، وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم: وهم أهل الظلمات المتراكمة، واللّه أعلم.فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع.والمثل الثاني: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم: بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة، من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشبهات في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل.فليتدبر اللبيب أحوال الفريقين وليطابق بينهما وبين المثلين: يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد.وأخبر سبحانه، أن الموجب لذلك: أنه لم يجعل لهم نورا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها، فلم يخرجهم منها إلى النور، فإنه سبحانه ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.وفي المسند من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنه: أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن اللّه خلق خلقه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على علم اللّه».فاللّه سبحانه خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورا وجوديا يحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه.فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سمى سبحانه الوحي روحا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [16: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [40: 15] وقال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا} [42: 52].فجعل وحيه روحا ونورا، فمن لم يحيه بهذا الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورا منه فهو في الظلمات وما له من نور.
|