الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك ***
تالٍ بحرف مُتبع عطف النسق............................ "تال" -أي تابع- جنس يشمل الخمسة، وقوله: "بحرف متبع" يخرج الأربعة. فإن قلت: قوله: "بحرف" يخرج غير المحدود، فما فائدة قوله: "متبع"؟ قلت: لو اقتصر على قوله: "بحرف" لورد نحو: "مررت بغضنفر أي: أسد". فإنه تابع بحرف, فلما قال: "متبع" خرج؛ لأن "أي" ليس بمتبع. خلافا لمن عده من حروف العطف. فإن قلت: فما أي؟ وما إعراب تاليها؟ قلت: أما أي فحرف تفسير على الصحيح، وأما تاليها فعطف بيان بالأجلى على الأخفى، وتوافق ما قبلها في التعريف والتنكير. ثم مثّل فقال: ....................... كاخصُص بود وثناء من صدق ثم شرع في ذكر حروف العطف فقال: فالعطف مطلقا بواو ثم فا... حتى أم أو كفيك صدق ووفا فهذه ستة أحرف تُشرك لفظا ومعنى, وهذا معنى قوله: "مطلقا". وقد مثل بقوله: "فيك صدق ووفا" وهو ظاهر. فإن قلت: كيف جعل أم وأو مشركين في اللفظ والمعنى، والذي يظهر خلاف ذلك؟ قلت: قال المصنف: أكثر النحويين يجعل أم وأو "مشركين" في اللفظ لا في المعنى، والصحيح أنهما يشركان لفظا ومعنى ما لم يقتضيا إضرابا؛ لأن القائل: "أزيد في الدار أم عمرو؟" عالم بأن الذي في الدار هو أحد المذكورين، وغير عالم بتعيينه، فالذي بعد "أم" مساوٍ للذي قبلها في الصلاحية؛ لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه، وحصول المساواة إنما هو بأم. وكذلك "أو" مشركة لما قبلها وما بعدها فيما يُجَاء بها لأجله، من شك أو غيره. فإن قلت: أطلق في "أم" و"أو" وينبغي أن يقيدهما بألا يقتضيا إضرابا، فإن اقتضيا إضرابا كانا مشركين في اللفظ, لا في المعنى كما ذكر في التسهيل. قلت: دلالتهما على الإضراب قليلة؛ فلذلك لم يتعرض لها، وسيأتي بيان ذلك. ثم قال: وأَتبعتْ لفظا فحسبُ بل ولا... لكن كَلَمْ يبدُ امرؤ لكن طلا فهذه ثلاثة أحرف تشرك لفظا لا معنى، وقد مثل بقوله: "كلم يبد امرؤ لكن طلا" وهو واضح. والحاصل: أن حروف العطف على ما ذكر تسعة، والمتفق عليه منها ستة: الواو, والفاء، وثم، وأو، وبل، ولا. واختُلف في ثلاثة: حتى, وأم، ولكن. أما "حتى" فذهب الكوفيون إلى أنها ليست بحرف عطف، وإنما يعربون ما بعدها بإضمار. وأما "أم" فذكر النحاس فيها خلافا، وأن أبا عبيدة ذهب إلى أنها بمعنى الهمزة. فإذا قال: "أقائم زيد أم عمرو؟" فالمعنى: أعمرو قائم؟ فتصير على مذهبه استفهاما. وقال الغزني في البديع: أما "أم" فعديل همزة الاستفهام، وليست بحرف عطف، وأما "لكن" فذهب أكثر النحويين إلى أنها من حروف العطف. ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها لا تكون عاطفة إلا إذا لم تدخل عليها الواو، وهو مذهب الفارسي، قيل: وأكثر النحويين. الثاني: أنها عاطفة ولا تستعمل إلا بالواو، والواو مع ذلك زائدة، وصحّحه ابن عصفور، قال: وعليه ينبغي أن يحمل مذهب سيبويه والأخفش؛ لأنهما قالا: إنها عاطفة، ولما مثّلا للعطف بها مثّلاه مع الواو. الثالث: أن العطف بها، وأنت مخير في الإتيان بالواو، وهو مذهب ابن كيسان، وذهب يونس إلى أنها حرف استدراك، وليست بعاطفة، والواو قبلها عاطفة لما بعدها عطف مفرد على مفرد. تنبيهان: الأول: وافق المصنف هنا الأكثرين، ووافق في التسهيل يونس, قال فيه: وليس منها "لكن" وفاقا ليونس. وظهر من كلامه في الشرح أنه غير موافق له من كل وجه؛ لأنه جعل الواو قبلها عاطفة جملة على جملة, ويضمر لما بعدها عاملا. فإن قلت: "ما قام سعد ولكن سعيد", فالتقدير: ولكن قام سعيد. وإنما جعله من عطف الجمل؛ لما يلزم على مذهب يونس من مخالفة المعطوف بالواو لما قبلها، وحقه أن يوافقه. واستدل من قال بأنها ليست بعاطفة بلزوم اقترانها بالواو قبل المفرد. قال في شرح التسهيل: وما يوجد من كلام النحويين من نحو: "ما قام سعد لكن سعيد" فمن كلامهم, "لا من" كلام العرب. ولذلك لم يمثل سيبويه في أمثلة العطف إلا بـ "ولكن", وهذا من شواهد أمانته وكمال عدالته؛ لأنه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب. قلت: وفي قوله: إن سيبويه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو, نظر. فقد تقدم ما ذكره ابن عصفور. الثاني: اختلف في تسعة ألفاظ أخر, وهي: إما، وإلا، وليس، ولولا، وهلا، وكيف، ومتى، وأين, وأي. والصحيح أنها ليست من حروف العطف، وسيأتي الكلام على "أما". ثم شرع في ذكر معاني حروف العطف، وبدأ بالواو. فقال: فاعطف بواو سابقا أو لاحقا... في الحكم أو مصاحبا موافقا يعني: أن الواو للجمع المطلق كما ذهب إليه الجمهور، فيصح أن يعطف بها لاحق في الحكم نحو: "جاء زيد وعمرو بعده"، أو سابق نحو: "جاء زيد وعمرو قبله", أو مصاحب نحو: "جاء زيد وعمرو معه". وذهب بعض أهل الكوفة إلى أن الواو تُرَتِّب. وحُكي عن قطرب وثعلب والربعي. وبذلك يُعلم أن ما ذكره السيرافي والسهيلي من إجماع النحاة بصريهم وكوفيهم على أن الواو لا ترتب, غير صحيح. تنبيه: قال في التسهيل: وتنفرد الواو بكون مُتبعها في الحكم محتملا للمعية برجحان، وللتأخر بكثرة، وللتقدم بقلة. قيل: وليس هذا مذهب البصريين ولا الكوفيين، فهو قول ثالث. وقوله: واخصص بها عطف الذي لا يغني... متبوعه كاصطَفَّ هذا وابني يعني: أن الواو تنفرد بعطف ما لا يستغنى عنه بمتبوعه كفاعل الافتعال والتفاعل، نحو: "اصطف هذا وابني", و"تخاصم زيد وعمرو", وكذا نحو: "جلستُ بين زيد وعمرو" و"سواء زيد وعمرو". وأجاز الكسائي: "ظننت عبد الله وزيدا مختصمينِ" بالفاء، وثم, ومنع ذلك البصريون والفراء. ثم انتقل إلى "الفاء" فقال: الفاء للترتيب باتصال أي: بلا مهلة, فهي للتعقيب, وهذا مذهب الجمهور, وما أوهم خلافه يُؤَوَّل. وذكر في التسهيل أن الفاء تقع موقع ثم كقوله تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً}. ثم انتقل إلى "ثم" فقال: وثم للترتيب بانفصال أي: بمهلة، وهو مذهب الجمهور، وما أوهم خلافه يؤول. وذكر في التسهيل أنها قد تقع موقع الفاء كقوله: ....................... جرى في الأنابيب ثم اضطرب وذكر فيه أيضا أنها قد تقع في عطف المقدم بالزمان؛ اكتفاء بترتيب اللفظ. وقد أشار الفراء إلى ذلك. قال ابن عصفور: وما ذكره الفراء من أن المقصود بثم ترتيب الإخبار، يعني في نحو: إن من ساد ثم أبوه.............. ليس بشيء؛ لأن "ثم" تقتضي تأخُّر الثاني بمهلة، ولا مهلة بين الإخبار. وذكر الشارح أن الفاء وثم قد يكونان لترتيب الذكر، وهو الذي عناه في التسهيل بترتيب اللفظ. تنبيه: في "ثم" أربع لغات: ثُمَّ، فُمَّ، ثُمَّتَ، ثُمَّتْ. بقوله: واخصص بفاء عطف ما ليس صله... على الذي استقر أنه الصله يعني: أن "الفاء" تختص بعطف ما لا يصلح كونه صلة؛ لعدم الضمير على ما هو صلة كقوله: "الذي يطير فيغضبُ زيدٌ الذبابُ", ولو عطفت بغير الفاء لم يجز، وذلك لما فيها من معنى السببية. قلت: وما ذكره في التسهيل من أنها تنفرد بتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين من صفة أو صلة أو خبر, أعم لشموله ست مسائل تنفرد بها الفاء, هذه إحداها. ثم انتقل إلى "حتى" فقال: بعضا بحتى اعطِفْ على كل ولا... يكون إلا غاية الذي تلا لا يكون المعطوف بحتى إلا بعض متبوعه نحو: "قدم الحجاج حتى المشاة". وقال في التسهيل: أو كبعضه, وفي الكافية: بعضا وشبهه "ومثله" في شرحها بقوله: "أعجبتني الجاريةُ حتى حديثُها", فإن حديثها ليس بعضا منها ولكنه كالبعض؛ لأنه معنى من معانيها. قال: وقد يكون المعطوف بحتى مباينا, فنقدر بعضيَّته كقوله: ألقى الصحيفةَ كي يخفف رحله... والزادَ حتى نعلَهُ ألقاها فعطف "النعل" وليست بعضية لما قبلها صريحة، لكنها بالتأويل؛ لأن المعنى: ألقى ما يثقله حتى نعله. ولا يكون المعطوف بها أيضا إلا غاية لما قبلها في زيادة أو نقص نحو: "مات الناسُ حتى الأنبياءُ" و"قدم الحجاجُ حتى المشاةُ". تنبيهات: الأول: "حتى" بالنسبة إلى الترتيب كالواو، خلافا لمن زعم أنها للترتيب كالزمخشري. الثاني: إذا عطف بحتى على المجرور، قال ابن عصفور: الأحسن إعادة الخافض؛ ليقع الفرق بين العاطفة والجارة، وقال ابن الخباز: لزم إعادة الجار للفرق. وقال في التسهيل: لزم إعادة الجار ما لم يتعين العطف. الثالث: حيث جاز الجر والعطف فالجر أحسن، إلا في باب "ضربتُ القومَ حتى زيدًا ضربتُهُ" فالنصب أحسن على تقدير كونها عاطفة و"ضربته" توكيد, أو على تقدير جعلها ابتدائية و"ضربته" تفسير. الرابع: قد فهم من اشتراط كون المعطوف بحتى بعضا، أنها لا تعطف جملة على جملة وإنما تعطف مفردا على مفرد. ثم انتقل إلى "أم" فقال: وأَمْ بها اعطفْ بإثر همز التسويه... أو همزة عن لفظ أي مغنيه "أم" على ضربين: متصلة ومنقطعة. فالمتصلة: هي المعادلة لهمزة التسوية, أو همزة يطلب بها وبأم ما يطلب بأي. وعلامة الهمزة الأولى: أن تكون مع جملة يصح تقدير المصدر في موضعها. وعلامة الثانية: أن يصح الاستغناء بأي عنها. مثال الأولى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}. ومثال الثانية: "أزيدٌ في الدار أم عمرو؟". وقد تحذف الهمزة قبل المتصلة للعلم بها, وأمن اللبس كقراءة ابن محيصن: "سَوَاءٌ عليهم أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لم تنذرهم", وهو في الشعر كثير. وإلى ذلك أشار بقوله: وربما أُسقطت الهمزة إن... كان خفا المعنى بحذفها أمن فإن قلت: فهل يطرد ذلك؟ قلت: ظاهر قوله في شرح الكافية. فهذا وأمثاله من مواضع حذف الهمزة المعطوف على مصحوبها بأم جائز اطراده, وقد أجاز الأخفش حذف الهمزة في الاختيار، وإن لم يكن بعدها أم، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ}. والمنقطعة ما سوى المتصلة، وإليها أشار بقوله: وبانقطاع وبمعنى بل وَفَتْ... إن تَكُ مما قُيِّدت به خَلَت الذي قيدت به هو أن يكون بعد إحدى الهمزتين لفظا أو تقديرا. فإن خلت من ذلك فهي منقطعة. واختُلف في معنى المنقطعة، فذهب البصريون إلى أنها تقدر "بمعنى" بل والهمزة مطلقا. وذهب الكسائي وهشام إلى أنها بمنزلة بل, وما بعدها مثل ما قبلها. فإذا قلت: "قام زيد أم عمرو" فالمعنى: بل قام عمرو. وقال في التسهيل: وتقتضي إضرابا مع استفهام ودونه. وذكر في غيره أن الأكثر اقتضاؤها مع الإضراب استفهاما. فإن قلت: قوله: "وبمعنى بل" يقتضي موافقة الكسائي وهشام إذا لم يذكر الاستفهام. قلت: إنما اقتصر على ذكر "بل"؛ لأن اقتضاء المنقطعة إضرابا لازم, وليس اقتضاؤها الاستفهام بلازم. تنبيهات: الأول: حصر "أم" في المتصلة والمنقطعة هو مذهب الجمهور، وذهب أبو زيد إلى أن "أم" تكون زائدة، فهو قسم ثالث. الثاني: سُميت المتصلة متصلة؛ لأن ما قبلها وما بعدها لا يستغنى بأحدهما عن الآخر, ولذلك لم تقع إلا بين مفردين أو "بين" جملتين في تقدير مفردين، أو مفرد وجملة في تقدير مفرد. وسُميت المنقطعة منقطعة؛ لوقوعها بين جملتين مستقلتين. الثالث: إذا عادلت المتصلة بين جملتين، فقد تكونان فعليتين أو اسميتين أو مختلفتين, قيل: إلا في التسوية، فإنه لا يُذكَر بعدها إلا الفعلية، ولا يجوز: "سواءٌ علي أزيدٌ قائمٌ أم عمرٌو منطلقٌ" فهذا لا تقوله العرب، وأجازه الأخفش قياسا على الفعلية. وقد عادت بين مفرد وجملة في قوله: سواءٌ عليك النَّفْرُ أم بِتَّ ليلة............................ ويجري مجرى التسوية: ما أدري، وليت شعري -ويقع بعده الجملتان- وما أبالي -ويقع بعده الجملتان أيضا- خلافا لمن زعم أنه لا يكون بعده إلا الفعلية. الرابع: فصل "أم" مما عُطفت عليه نحو: "أزيد في الدار أم عمرو" أولى من وصلها "به", هذا مذهب سيبويه، وهو الصحيح. قال في شرح التسهيل: ومن ادعى امتناع وصلها أو ضعفه فمخطئ؛ لأن دعواه مخالفة للاستعمال المقطوع بصحته، ولقول سيبويه والمحققين من أصحابه. الخامس: قد يكتفى "بلا" عن ذكر المعادل نحو: "أتفعل أم لا؟". السادس: ذهب ابن كيسان إلى أن ميم "أم" بدل عن واو، وأصلها أو، وهي دعوى مجردة عن الدليل. السابع: ذكر في التسهيل أن عطف المنقطعة المفرد قليل, ومثل في الشرح بقولهم: "إنها لإبل أم شاء". "قال: فأم هنا لمجرد الإضراب عاطفة ما بعدها على ما قبلها، كما يكون بعد "بل" فإنها بمعناها، ومذهب الفارسي وابن جني في ذلك أنها بمنزلة بل والهمزة، وأن التقدير: بل أهي شاء؟". وبه جزم في شرح الكافية. وقال في شرح التسهيل, بعد حكاية هذا القول: وهذه دعوى لا دليل عليها, ولا انقياد إليها. وقد قال بعض العرب: "إن هناك لإبلا أم شاء", فنصب ما بعد "أم" حين نصب ما قبلها، وهذا عطف صريح مقوٍّ لعدم الإضمار قبل المرفوع. قيل: ولا حجة في قول بعضهم: "إن هناك لإبلا أم شاء"؛ لاحتمال كونها متصلة، والهمزة قبلها محذوفة. ويحتمل أن ينصب "شاء" على إضمار فعل, تقديره: أم ترى شاء. الثامن: قد ظهر من كلام المصنف أن "أم" المنقطعة تكون عاطفة، وقال في شرح الكافية: وأما "أم" المنقطعة فليست للعطف, لا في مفرد ولا جملة. التاسع: تدخل "أم" المنقطعة على "هل" وأسماء الاستفهام نحو: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} , {أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وهو فصيح كثير، ولا التفات لمن زعم أنه من الجمع بين أداتي معنى، وأنه قليل جدا. وبذلك رد على من قال: "إنها بمعنى" بل والهمزة في كل موضع. ثم انتقل إلى "أو" فقال: خيِّر أَبِحْ قسِّم بأو وأبهِمْ... واشكُكْ وإضراب بها أيضا نُمي فذكر لها سبعة معانٍ: الأول: التخيير، نحو: "خذ دينارًا أو ثوبًا". والثاني: الإباحة، نحو: "جالس الحسن أو ابن سيرين". فإن قلت: فما الفرق بينهما؟ قلت: الفرق بينهما جواز الجمع بين الأمرين في الإباحة, ومنعه في التخيير. فإن قلت: فهل استفيد جواز الجمع في الإباحة من لفظ "أو"؟ قلت: قد ذكر بعضهم أن ذلك ليس لأمر راجع إلى اللفظ, بل لأمر خارج، وهو قرينة انضمّت إلى اللفظ. وذلك أن التخيير يرد فيما أصله الحظر، والإباحة ترد فيما ليس أصله الحظر. تنبيه: قال المصنف: من علامات الإباحة استحسان الواو موقعها، فلو جيء بالواو مكان "أو" لم يختلف المعنى. وفرق غيره بين الواو وأو في ذلك؛ "فقال": إذا قلت: "جالس الحسن أو ابن سيرين", جاز له مجالستهما ومجالسة أحدهما. وإذا عطفت بالواو, لم يجز له مجالسة أحدهما دون الآخر. الثالث: التقسيم, نحو: "الكلمة: اسم أو فعل أو حرف" قال في التسهيل: بدل التقسيم: أو تفريق مجرد, يعني: من الشك والإبهام والتخيير، ومثّله بقوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}. قال: والتعبير عن هذا بالتفريق أولى من التعبير عنه بالتقسيم؛ لأن استعمال الواو فيما هو تقسيم أجود من استعمال "أو" نحو: "الكلمة: اسم وفعل وحرف". وعبّر بعضهم عن هذا المعنى بالتفصيل. الرابع: الإبهام، نحو: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى} , ومعنى الإبهام أن يكون المتكلم عالما ويبهم على المخاطب. الخامس: الشك نحو: "قام زيد أو عمرو". والفرق بينهما أن الشك للمتكلم, والإبهام على السامع. السادس: الإضراب، كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ}. قال الفراء: "أو" هنا بمعنى "بل". وأشار بقوله: "بها أيضا نمي" أي: نُقل، إلا أن ورودها للإضراب غير متفق عليه. وقال في شرح الكافية: أجاز الكوفيون موافقتهما "بل" في الإضراب، ووافقهم أبو علي وابن برهان. قلت: وابن جني. قال في قراءة أبي السمال "أَوْ كُلَّمَا عاهدوا عهدا": معنى "أو" هنا معنى "بل". وقال ابن عصفور: والإضراب ذكره سيبويه في النفي والنهي إذا أعدْت العامل، كقولك: "لست بشرا، أو لست عمرا، ولا تضرب زيدا، أو لا تضرب عمرا". قال: وزعم بعض النحويين أنها تكون للإضراب على الإطلاق، واستدلوا بقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} , وبقوله: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. قال: وما ذهبوا إليه فاسد. السابع: معنى "الواو" كقوله: جاء الخلافةَ أو كانت له قَدَرَا................... أي: وكانت، فأوقع "أو" مكان الواو؛ لأمن اللبس. وإلى هذا أشار بقوله: وربما عاقبتِ الواوَ إذا... لم يُلفِ ذو النطق للبس مَنْفَذا وإلى أن "أو" تأتي بمعنى "الواو" ذهب الأخفش والجرمي، واستدلا بقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ} وهو مذهب جماعة من الكوفيين. وذكر في التسهيل أن "أو" تُعاقب "الواو" في الإباحة كثيرا، وفي عطف المصاحب والمؤكد قليلا. مثل الإباحة: "جالس الحسن أو ابن سيرين" وقد تقدم الكلام عليه. ومثال المصاحب قوله عليه الصلاة والسلام: "اسكن أحد, فإنما عليك نبي أو صدِّيق أو شهيد". ومثال المؤكِّد: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا}. تنبيهان: الأول مذهب الجمهور: أن "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء، فإذا عطف بها في الطلب فهي للتخيير أو الإباحة، وإن عطف بها في الخبر فهي للشكّ أو الإبهام أو التقسيم. الثاني: إذا دخل النهي في الإباحة، استوعب ما كان مباحا باتفاق النحويين، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا}. فهذه هي التي تقع في الإباحة؛ لأن النهي وقع على الجمع والتفريق، وإذا دخل النهي في التخيير ففيه خلاف. ذهب السيرافي إلى أنه يستوعب "الجميع" كالنهي عن المباح. وذهب ابن كيسان إلى جواز أن يكون النهي عن كل واحد، وأن يكون عن الجميع. وقوله: ومثل أو في القصد إما الثانيه... في نحو إما ذي وإما النائيه يعني: أن "إما" مثل "أو" فيما يقصد بها، فتكون للتخيير والإباحة والتقسيم والشك والإبهام، ولم يذكر الإباحة في التسهيل. فإن قلت: ظاهر قوله: "مثل أو" أنها توافقها في المعاني السبعة. قلت: لا يصح حمله على ظاهره؛ لأن "إما" لا ترد بمعنى "الواو" ولا بمعنى "بل", والعذر له أن ورود "أو" لهذين المعنيين قليل ومختلف فيه، فالإحالة إنما هي على المعاني المتفق عليها. وقد فهم من البيت فوائد: الأولى: أن "إما" ليست بعاطفة، إذ لم يجعلها مثل "أو" مطلقا, بل في القصد فقط؛ ولذلك لم يذكرها مع حروف العطف أولا. ونقل المصنف عن أكثر النحويين أنها عاطفة، ونقل عن يونس وابن كيسان وأبي علي أنها ليست بعاطفة، ووافقهم المصنف وهو الصحيح؛ لدخول الواو عليها. واستدل الرماني على أنها عاطفة بأن الواو للجمع، وليست هنا كذلك؛ لأننا نجد الكلام لأحد الشيئين فعلم أن العطف لإما. ونقل ابن عصفور اتفاق النحويين على أن "إما" ليست بعاطفة، وإنما أوردوها في حروف العطف "لمصاحبتها لها". "وقد عدّ سيبويه" "إما" من حروف العطف، فجعل بعضهم كلامه على ظاهره. وقال: إن "الواو" عطفت "إما" الثانية على "إما" الأولى، و"إما" الثانية عطفت الاسم الذي بعدها على الاسم بعد الأولى. وتأوله بعضهم بأن "إما" لما كانت "صاحبة" المعنى، ومخرجة الواو عن الجمع، والتابع يليها، سماها عاطفة مجازا. الثانية: أن المشبهة بأو إنما هي الثانية، وهي المختلف فيها، وأما الأولى فليست بعاطفة! الثالثة: فهم من قوله: "الثانية" أن "إما" لا بد من تكرارها بخلاف "أو". "وهذا أحد الفرقين بينهما، والثاني: أن الكلام مع "إما" مبني من أوله على ما جيء بها لأجله, بخلاف "أو"". الرابعة: فهم من تمثيله أنه لا بد من اقترانها بالواو. فإن قلت: التزام الواو ظاهر عند من لم يجعل "إما" عاطفة، فما يقول من جعلها عاطفة؟ قلت: من رأى أنها عاطفة لم ير إخلاءها من الواو إلا نادرا، كقوله: ....أيما إلى جنة أيما إلى نار فإن قلت: فهل يحسن الاحتجاج بمثل هذا البيت، لمن قال: إنها عاطفة؟ قلت: لا؛ لندوره، فيجعل من حذف العاطف ضرورة. تنبيهات: الأول: ما ذكر من أن "إما" لا بد من تكرارها هو الكثير، وقد يستغنى عن الثانية بأو، كقراءة أُبَيّ: "وإنا وإِيَّاكُمْ لإما على هدى أو في ضلال مبين" ونحوه في الشعر كثير. وبإن الشرطية مع "لا" النافية كقوله: فإما أن تكون أخي بصدق... فأعرف منك غثِّي من سَمِيني وإلا فاطَّرِحْني واتخذني... عدوا أتقيك وتَتَّقيني وقد يستغنى عن الأولى، كقول الفرزدق: __________
تُهَاض بدار قد تقادم عهدها... وإما بأموات ألمّ خيالها الثاني: اختُلف في "إما" المذكورة؛ فقيل: بسيطة, وقيل: مركبة من: إن وما وهذا مذهب سيبويه، والدليل عليه اقتصارهم على "إن" في الضرورة، كقوله: ....................... فإنْ جَزَعا وإن إجمالَ صبر وقوله: سقتْه الرواعد من صيف... وإن من خريف فلن يَعْدَما وأجيب بأنه يحتمل أن تكون "إن" في البيتين شرطية حذف جوابها، والتقدير: فإن كنت ذا جزع فلا جزع، وإن كنت مجمل صبر فأجمل، وإن سقته من خريف فلن يعدم الري. فرع: لو سميت "بإما" على القول بالتركيب, حكيت. الثالث: في "إما" المذكورة لغتان: كسر همزتها، وهي لغة أهل الحجاز ومن جاورهم وهي الفصحى، وفتح همزتها، وهي لغة قيس وأسد وتميم. وحكي إبدال ميمها الأولى "ياء" مع كسر الهمزة وفتحها. الرابع: تشارك "إما" المذكورة في اللفظ "إما" الشرطية وهي مركبة من: إن وما بغير إشكال، كقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً}. وزعم الكسائي أن لها قسما ثالثا تكون فيه جحدا، تقول: "إما زيد قائم" تريد: إن زيد قائم، وما صلة. ثم انتقل إلى "لكن" فقال: وأول لكن نفيا او نهيا ولا... نداء او أمرا أو إثباتا تلا فالنفي "نحو": "ما قام زيدٌ لكن عمرٌو" والنهي: "لا تضرب زيدًا لكن عمرًا" فالمعطوف بلكن محكوم له بالثبوت بعدهما. وفهم من ذلك أنها لا تقع في الإيجاب "وهو مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون أن يعطف بها في الإيجاب" نحو: "أتاني زيدٌ لكن عمرٌو". تنبيه: إنما يشترط النهي والنفي في الواقعة قبل المفرد, وتقدم الخلاف في كونها عاطفة. وإذا وَلِيَها جملة فتكون حينئذ بعد إيجاب أو نفي أو نهي "أو أمر" لا استفهام, فلا يجوز: "هل زيد قائم لكن عمرو لم يقم؟". فإن قلت: إذا وقعت قبل الجملة، فهل هي عاطفة أو غير عاطفة؟ قلت: الذي ذهب إليه أكثر المغاربة أنها حينئذ حرف ابتداء، لا حرف عطف. وقيل: إنها تكون عاطفة جملة على جملة, إذا وردت بغير واو. قال ابن أبي الربيع: وهو ظاهر كلام سيبويه. فإن قلت: فما المفهوم من كلام الناظم؟ قلت: المفهوم من اشتراطه قبل العاطفة النفي والنهي، أن الواقعة قبل الجملة غير عاطفة، إذ لا يشترط فيها ذلك. ثم انتقل إلى "لا", فقال: ................. ولا نداء او أمرا أو إثباتا تلا أي: وأَوْلِ "لا" نداء نحو: "يا يزيد لا عمرو" أو أمرا نحو: "اضرب زيدا لا عمرا" أو إثباتا نحو: "زيد كاتب لا شاعر". وزعم ابن سعدان أن العطف "بلا" على منادى ليس من كلام العرب, ونص على جوازه سيبويه. ومنع أبو القاسم الزجاجي في كتاب معنى الحروف أن يُعطَف بها بعد الفعل الماضي, وليس منع ذلك بصحيح؛ لثبوته في كلام العرب. تنبيهات: الأول: في معنى الأمر الدعاء نحو: "غفر الله لزيد لا بكر", والتحضيض نحو: "هلا تضرب زيدا لا عمرا". الثاني: أجاز الفراء العطف بها على اسم "لعلّ" كما يعطف بها على اسم "إنّ". نحو: "لعل زيدًا لا عمرًا منطلق". الثالث: فائدة العطف "بلا" قَصْر الحكم على ما قبلها؛ إما قصر أفراد كقولك: "زيد كاتب لا شاعر"، ردا على من يعتقد أنه كاتب وشاعر. وإما قصر قلب، كقولك: "زيد عالم لا جاهل"، ردا على من يعتقد أنه جاهل. الرابع: شرط عطف الاسم "بلا" أن يكون ما بعدها غير صالح لإطلاق ما قبلها عليه؛ فلذلك لا يجوز: "قام رجل لا زيد". الخامس: قد يحذف المعطوف عليه "بلا" نحو: "أعطيتُك لا لتظلم" أي: لتعدل لا لتظلم. السادس: لا يعطف "بلا" إلا مفرد أو جملة لها موضع من الإعراب نحو: "زيد يقوم لا يقعد". فإن لم يكن للجملة موضع لم تكن عاطفة؛ ولذلك يجوز الابتداء بها. وفي النهاية: وتعطف لا الجملة "على الجملة" نحو: "زيد قائم لا عمرو جالس". ثم انتقل إلى "بل" فقال: وبل كلكن بعد مصحوبيها................................ مصحوبا "لكن" هما النفي والنهي. فإذا عطفت "بل" بعدهما، فهي كلكن, يعني: لتقرير حكم ما قبلها وجعل ضده لما بعدها نحو: "ما قام زيد بل عمرو", "فتقرر" نفي القيام عن زيد، وتثبته لعمرو. ومثله: كلم أكن في مربع بل تَيْها والمربع: منزل الربيع، والتيهاء: الأرض التي لا يُهتدَى بها. وتقول: "لا تضرب زيدا بل عمرا" فتقرر النهي عن زيد, وثبت الأمر بضرب عمرو. ووافق المبرد على هذا الحكم، وأجاز مع ذلك كون "بل" ناقلة حكم النفي والنهي لما بعدها. ووافقه على ذلك أبو الحسين عبد الوارث. قال المصنف: وما أجازه مخالف الاستعمال. ثم قال: وانقُل بها للثان حكم الأول... في الخبر المثبت والأمر الجلي مثال الخبر المثبت: "جاء زيد بل عمرو", والأمر: "اضرب زيدا بل عمرا". فهي في ذلك لإزالة الحكم عما قبلها حتى كأنه سكوت عنه، وجعله لما بعدها. وذهب الكوفيون إلى أن "بل" لا تكون نسقا إلا بعد النفي أو ما جرى مجراه، ولا تكون نسقا بعد الإيجاب. وجملة القول في "بل" أنها إن وقع بعدها جملة كانت إضرابا عما قبلها، إما على جهة الإبطال نحو: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ}. وإما على جهة الترك من غير إبطال نحو: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا}. فظهر "من هذا" أن قوله في شرح الكافية: فإن كان الواقع بعدها جملة فهي للتنبيه على انتهاء غرض واستئناف غيره، ولا يكون في القرآن إلا على هذا الوجه، فيه نظر. وإن وقع بعدها مفرد وليس قبله نفي أو نهي، فهي لإزالة حكم ما قبلها وجعله لما بعدها. وإن كان قبل المفرد نفي أو نهي، فهي لتقرير حكمه وجعل ضده لما بعدها. تنبيهات: الأول: لا يعطف ببل بعد الاستفهام، لا يقال: "أضربتَ زيدًا بل عمرا؟" ولا نحوه. الثاني: ظاهر إطلاق المصنف أن "بل" تعطف الجملة كما تعطف المفرد. وقد صرح به الشارح في قوله: فإن كان المعطوف بها جملة. وذكر غيره أنها لا تكون قبل الجملة عاطفة. الثالث: قال في التسهيل: وتزاد "لا" قبل "بل"؛ لتأكيد التقرير وغيره. انتهى. فإذا زيد بعد إيجاب أو أمر نحو: "قام زيد لا بل عمرو" و"اضرب زيدا لا بل عمرا" فهي لتأكيد الإضراب عن جعل الحكم للأول. وإذا زيدت بعد نفي أو نهي نحو: "ما قام زيد لا بل عمرو" و"لا تضرب خالدا لا بل بشرا". فهي لتأكيد بقاء النفي والنهي. وذهب الجزولي إلى أنها بعد الإيجاب والأمر نفي، وبعد النفي والنهي تأكيد. ومنع ابن درستويه زيادتها معها بعد النفي. وقال ابن عصفور: لا ينبغي أن يقال بزيادتها مع "بل" في النفي والنهي إلا أن يشهد له سماع، قيل: وهو مسموع من كلام العرب. الرابع: قد تكرر "بل" في الجمل رجوعا عما ولي المتقدمة "نحو": {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}. وتنبيها على رجحان ما ولي المتأخرة، نحو: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ}. ولما ذكر معاني حروف العطف, شرع في ذكر أحكام تتعلق بالباب فقال: وإن على ضمير رفع متصل... عطفت فافصِلْ بالضمير المنفصل أو فاصل ما.... يعني: أنه إذا قصد العطف على ضمير الرفع المتصل، لم يحسن إلا بعد توكيده بضمير رفع منفصل، كقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ}. أو فصل يقوم مقام التوكيد، كقوله تعالى: {يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ}. ونبه بقوله: "أو فاصل ما" على أنه يكتفى بما يصدق عليه فاصل ولو قل. أجاز صاحب الكشاف في قوله تعالى: {أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} أن يكون "آباؤنا" معطوفا على الضمير في لمبعوثون للفصل بالهمزة. ومن صور الفصل: الفصل "بلا" بين العاطف والمعطوف نحو: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}. وفهم من قوله: "متصل" أن المنفصل يعطف عليه بلا شرط. فحكم المنفصلين في العطف والعطف عليهما حكم الظاهر. ووهم الأُبَّدي في منعه: "رأيت زيدا وإياك". ثم نبه على ورود العطف على الضمير المذكور بغير توكيد ولا فصل، فقال: ............ وبلا فصل يرد... في النظم فاشيا.... كقول عمر بن أبي ربيعة: قلت إذ أقبلت وزهر تهادى....................... وهو كثير في الشعر، ومع كثرته فهو ضعيف؛ ولهذا قال: ........ وضعفه اعتقد فإن قلت: فهل يطرد مع ضعفه أو يختص بالضرورة؟ قلت: نص المصنف على أنه يجوز في الاختيار مع ضعفه؛ لقول بعض العرب: "مررتُ برجلٍ سواءٍ والعدمُ" حكاه سيبويه. ولأن العطف في البيت السابق ونحوه ليس بفصل مضطر؛ لإمكان النصب. ومذهب الكوفيين وابن الأنباري جوازه في الاختيار، ونقل الجواز عن أبي علي. قيل: ومذهب البصريين أنه لا يجوز بغير فصل بتوكيد, أو غيره إلا في الضرورة. ونص سيبويه والخليل على قبحه. وفي كتاب سيبويه حين ذكر انفصال بعض الضمائر، وكذلك: "كنا وأنتم ذاهبين" إلا أن الشراح تأولوه. تنبيه: شرط في التسهيل في صحة العطف صلاحية المعطوف, أو ما هو بمعناه لمباشرة العامل. الأول: نحو "قام زيد وعمرو". والثاني: نحو "قام زيد وأنا", فإنه لا يصح "قام أنا"، ولكن يصح "قمت", والتاء بمعنى أنا. فإن لم يصح هو أو ما هو بمعناه لمباشرة العامل، أضمر له عامل مدلول عليه بما قبله، وجعل من عطف الجمل. قال: وذلك كالمعطوف على الضمير المرفوع بالمضارع ذي الهمزة أو النون أو تاء المخاطب أو بفعل الأمر نحو: "أقوم أنا وزيد", و"نقوم نحن وزيد", و"تقوم أنت وزيد", و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} أي: وليسكن زوجك. وكذا في باقيها. قال: وكذلك المضارع المفتتح بتاء التأنيث نحو: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}. قال الشيخ أبو حيان: وما ذهب إليه مخالف لما تضافرت عليه نصوص النحويين والمعربين، من أن "زوجك" معطوف على الضمير المستكن في "اسكن" المؤكد "بأنت". ولا نعلم خلافا في جواز تقدم هند وزيد، وأنه من عطف المفردات. انتهى. وقوله: وعَوْد خافض لدى عطف على... ضمير خَفْض لازما قد جُعلا هذا مذهب جمهور البصريين, أن إعادته لازمة إلا في الضرورة. وذهب الكوفيون ويونس والأخفش إلى جواز العطف عليه بدون إعادة الخافض, واختاره الشلوبين والمصنف. ولهذا قال: ......وليس عندي لازما ثم استدل بوروده في النثر كقراءة حمزة: "تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ". والنظم كقوله: .................... فاذهب فما بِكَ والأيامِ من عَجَب أنشده سيبويه، وهو كثير في الشعر. وفي المسألة مذهب ثالث, وهو أنه إذا أُكِّد الضمير جاز نحو: "مررتُ بك أنت وزيدٍ" وهو مذهب الجرمي والزيادي. قلت: وهو حاصل كلام الفراء، فإنه أجاز: "مررت به نفسِهِ وزيدٍ، ومررت بهم كلِّهم وزيدٍ". قال: وكذا القول في أجمعين وقضهم وقضيضهم وخمستهم, إذا خفضت. فإن نصبت "خمستهم" لم يجز -يعني العطف- بغير إعادة الجار. قال الشارح: ولا يبعد أن يقال في هذه المسألة: إن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار غير جائز في القياس، وما ورد من السماع محمول على شذوذ إضمار الجار. تنبيهان: الأول: قيل: ينبغي أن يقيد العطف على الضمير المجرور، بأن يكون الحرف غير مختص بالضمير، احترازا من المجرور بلولا على مذهب سيبويه, فإنه لا يجوز عطف الظاهر عليه، فلو رفع على توهم أنك نطقت بالضمير مرفوعا, ففي جوازه نظر. الثاني: قد فهم من سكوته عن الضمير المنصوب المتصل أنه يجوز العطف عليه بلا شرط. وقوله: والفاء قد تُحذف مع ما عطفتْ يعني: إذا أمن اللبس. ومنه: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ} أي: فضرب فانفجرت. وزعم ابن عصفور أنه إنما حذف المعطوف عليه وحده وحذفت الفاء من المعطوف, فاتصلت الفاء الأولى بالمعطوف، فأبقي من كل منهما ما يدل على المحذوف. ورُدّ بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي: فأفطر فعدة؛ لأن فاء العطف لا تنوب مناب فاء الجزاء. وقوله: "والواو". يعني: أن الواو أيضا قد تحذف مع ما عطفت، ومنه: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ}. أي: والبرد. وإنما يجوز إذا دل عليه دليل. فإن قلت: ظاهر كلامه أن هذا مختص بالفاء والواو، وقد ذكر في التسهيل أن "أم" تشاركهما في ذلك، كقوله: .................... فما أدري أرشد طلابها التقدير: أم غي. قلت: هو في الفاء والواو، وأكثر منه في "أم", فلقلته لم يذكر هنا. وقوله: "وَهْيَ" يعني الواو. انفردت بعطف عامل مزال قد بقي... معموله... مثال ذلك قول الشاعر: علفتُها تبنا وماء باردا....................... أي: وسقيتها ماء. فحذف العامل المعطوف، واستغنى بمعموله، وأمثلته كثيرة نظما ونثرا. وهذا مذهب جماعة من الكوفيين والبصريين, منهم الفراء والفارسي. وذهب قوم, منهم أبو عبيدة والجرمي والمازني والمبرد إلى أن تالي الواو في ذلك معطوف على الأول عطف مفرد على مفرد، لا عطف جملة على جملة, وأن العامل ضمن معنى ينظم المعطوف والمعطوف عليه، واختاره بعض المتأخرين. واحتج الأولون بأنه لو كان على التضمين, لساغ: "علفتها ماء وتبنا". ورد بأنه مسموع من كلام العرب كقوله: ..................... لها سبب ترعى به الماءَ والشجرَ واختُلف أيضا في هذا التضمين، والأكثرون على أنه ينقاس. وضابطه عندهم: أن يكون الأول والثاني يجتمعان في معنى عام. قال الشيخ أبو حيان: والذي أختاره التفصيل، فإن كان العامل الأول تصح نسبته إلى الاسم الذي يليه حقيقة, كان الثاني محمولا على الإضمار؛ لأن الإضمار أكثر من التضمين، نحو: "جدع الله أنفه وعينه" أي: "ويفقأ عينه", فنسبة الجدع إلى الأنف حقيقة. وإن كان لا يصح كان العامل مضمنا معنى ما يصح نسبته إليه؛ لأنه لا يمكن الإضمار، نحو قول العرب: "علفت الدابة ماء وتبنا" أي: أطعمتها أو غذيتها. وقوله: دفعا لوهم اتُّقي. يعني: أن إضمار العامل في "نحوه" يدفع توهم أنه معطوف أو مفعول معه. فإن قلت: ولِمَ كان حمله على العطف أو المعية وَهْمًا؟ قلت: أما العطف؛ فلأن العامل لا يصلح للعمل فيه، وأما المعية؛ فلأنها غير مرادة هنا، وذلك واضح. وقوله: وحذف متبوع بدا هنا استبِحْ يعني: أنه يجوز حذف المعطوف عليه؛ لظهوره، ويستغنى بالعاطف والمعطوف نحو: "بلى وزيدا" لمن قال: "ألم تضرب عمرا؟". ومنه قول العرب: "وبك وأهلا وسهلا" لمن قال: مرحبا. تنبيهان: الأول: حذف المتبوع كثُر مع الواو كما مثّل، وقلّ مع الفاء. ومنه: {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} أي: فضرب فانفلق. ونذر مع "أو" كقول أبي أمية الهذلي: فهل لكَ أو من والد لكَ قبلَنَا......................... أي: فهل لك من أخ أو من والد؟ والثاني: جعل الزمخشري من ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا} و {أَفَلَمْ يَسِيرُوا}. فقدّر بين الهمزة والعاطف محذوفا هو المعطوف عليه، وإلى ذلك ذهب محمد بن مسعود الغزني. ومذهب الجمهور أن حرف العطف عطف ما بعده على الجملة قبله ولا حذف, ولكنه اعتنى بالهمزة فصدرت. وقوله: وعطفك الفعل على الفعل يصح يعني: أن الأفعال في جواز عطف بعضها على بعض كالأسماء، نحو: "زيد قام وقعد، ويقوم ويقعد". تنبيه: أهمل المصنف شرطا في عطف الفعل، وهو اتحاد زمانهما. فلا يعطف الماضي على المستقبل, ولا المستقبل على الماضي. فإن قلت: فهل يشترط اتحاد اللفظ, أعنى: أن يكونا بصيغة الماضي أو بصيغة المضارع...؟ قلت: لا, بل يجوز عطف الماضي على المضارع نحو: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ} وعكسه نحو: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}. وإنما ساغ ذلك لاتحاد الزمان. فإن قلت: ليس هذه المثل من عطف الفعل على الفعل، وإنما هي من عطف جملة على جملة. قلت: لما كان الغرض منها إنما هو عطف الفعل؛ لأن فاعل الفعل الثاني هو فاعل الفعل الأول, صح أن يقال: إنها من عطف الفعل على الفعل. وقوله: واعطف على اسم شبه فِعْل فِعْلا مثاله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا} , {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ}. فإن قلت: كيف جاز ذلك "وحرف" العطف لا يربط بين مختلف الجنس؟ قلت: إنما جاز؛ لأن أحدهما مؤول بالآخر، فاتحد الجنس بالتأويل. فإن قلت: فأيهما المؤول؟ قلت: الذي يؤول هو الحال محل الآخر "فيكون" الأول كمثال الأول؛ لأن المصدقين صلة "أل" وحق الصلة أن تكون جملة، فأل مؤولة بالذي والمصدقين بتصدقوا. وتارة يكون الثاني كالمثال الثاني؛ لأن صافات فيه حال، وأصل الحال أن يكون اسما, فيقبضن مؤول بقابضات. وقوله: وعكسا استعملْ تجدْهُ سهلا يعني: بالعكس أن تعطف الاسم المشابه للفعل على الفعل، كقوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}. وقول الراجز: أم صبي قد حَبَا أو دارج عطف "دارجا" على "قد حبا". قال في شرح الكافية: لأن دارجا بمعنى درج. قلت: ظاهر هذا أن الاسم في البيت ونحوه مؤول بالفعل، وليس بجيد، بل الظاهر أن "حبا" مؤول بحاب؛ لأنه في موضع النعت، وأصل النعت أن يكون اسما.
|