الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيه، وهو من شواهد س: الوافر أظبيٌ كان أمك أم حمار على أن الضمير المستتر في كان نكرة، لأنه عاد على نكرة غير مختصة بشيءٍ، وهو ظبي. وقد تكلم الشارح المحقق عليه في باب الأفعال الناقصة، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه هناك. ولنشرح هنا الشعر ونعين قائله، فنقول: هو من أبيات أوردها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل، ونسبها لثروان ابن فزارة بن عبد يغوث العامري، وهي: وكائن قد رأيت من اهل دارٍ *** دعاهم رائدٌ لهم فساروا فأصبح عهدهم كمقص قرنٍ *** فلا عينٌ تحس ولا أثار لقد بدلت أهلاً بعد أهلٍ *** فلا عجبٌ بذاك ولا سخار فإنك لا يضرك بعد عامٍ *** أظبيٌ كان أمك أم حمار فقد لحق الأسافل بالأعالي *** وماج اللؤم واختلط النجار وعاد العبد مثل أبي قبيسٍ *** وسيق مع المعلهجة العشار وقوله: وكائن هي خبرية بمعنى كم الخبرية. والرائد: الذي يرسل في طلب الكلأ. وقوله: فأصبح عهدهم إلخ، العهد، بالفتح: المنزل الذي لا يزال القوم إذا بعدوا عنه، رجعوا إليه؛ وكذلك المهد. وقوله: كمقص قرن ، قال أبو تمام، أي: كمقطع قرن. يريد: خلت ديارهم. وقيل: مقص قرن: جبلٌ مشرف على عرفات أيضاً. وليس يريده. انتهى. قال أبو محمد الأعرابي: مقص: موضعٌ تقتص فيه الأرض، أي: لا يوجد لهم ولعهدهم أثر، كما لا يوجد أثر من يمشي على صخرة. وقرن: جبل. انتهى. وتحس: بالبناء للمفعول، من أحس الرجل الشيء إحساساً، أي: علم به. والأثار بالفتح، هو الأثر. ويقال: أثارةٌ أيضاً بالهاء. وقوله: لقد بدلت أهلاً إلخ، بالبناء للمفعول. والسخار، بضم السين وكسرها: اسم للسخرية والاستهزاء. وقوله: فإنك لا يضرك هذه رواية أبي عبيدة. ورواه مؤرجٍ السدوسي في أمثاله: فإنك لا يضورك ، يقال: ضاره يضوره ويضيره بمعنى. ورويا:حولٍ بدل عام. ولم أر رواية فإنك لا تبالي لأحد إلا للنحويين. وقوله: أظبي كان إلخ، هذه هي الرواية المشهورة التي رواها سيبويه فمن دونه من النحاة. وقال أبو محمد الأسود الأعرابي في رده على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه: كيف يكون الظبي والحمار أمين وهما ذكرا الحيوان؟ حتى إن المثل يضرب بالحمار، فيقال: من ينك العير ينك نياكا والصواب ما أنشدناه أبو الندى: أظبي ناك أمك أم حمار وإنما قلبت اللفظة تحرجاً فيما أرى، ثم استشهد به النحويون على ظاهره. وهذه الأبيات قطعة طريفةً أكتبها أبو الندى، وذكر أنها لثروان بن فزارة بن عبد يغوث بن ربيعة بن عمرو بن عامر. انتهى. أقول: يدفع ما توقف فيه بأن أم هنا معناه الأصل. وهذا معنى شائع لا ينبغي العدول عنه، فإن الأم في اللغة تطلق على أصل كل شيء، سواءٌ كان في الحيوان، وفي غيره. وقال الأعلم: في شرح شواهد سيبويه وصف في البيت تغير الزمان، واطراح مراعاة الأنساب. ويتصل به ما يبينه، وهو قوله: فقد لحق الأسافل بالأعالي فيقول: لا تبالي بعد قيامك بنفسك، واستغنائك عن أبويك، من انتسبت إليه من شريف، ووضيع. وضرب المثل بالظبي والحمار، وجعلهما أمين، وهما ذكران، لأنه مثلٌ لا حقيقة، وقصد قصد الجنسين، ولم يحقق أبوة. وذكر الحول لذكر الظبي والحمار لأنهما يستغنيان بأنفسهما بعد الحول، فضرب المثل بذكره للإنسان لما أراد من استغنائه بنفسه. انتهى. وقوله: وماج اللؤم إلخ، ماج يموج. واللؤم: دناءة النفس والآباء. والنجار بكسر النون وضمها بعدها جيم: الأصل، أي: ذهب السودد، وغلب على الناس اللؤم والدناءة، واشتبه الأصل والنسب، حتى لو بقوا على هذه الحالة سنة لا يبالي إنسانٌ أهجيناً كان، وغير هجين. وقوله: مثل أبي قبيس هو مصغر أبو قابوس، وهو كنية النعمان بن المنذر ملك الحيرة. وقابوس: معرب كاووس، اسم ملكٍ من ملوك الفرس القديمة. وقال أبو محمد الأعرابي: الذي أنشدناه أبو الندى: وعاد الفند مثل أبي قبيس ورواية الناس: العبد. وذكر أبو الندى أنه تصحيف. والفند، بكسر الفاء وسكون النون: قطعة من الجبل طولاً، وقيل: الجبل العظيم. وأبو قبيس: جبلٌ بمكة، سمي برجل من مذحج حداد، لأنه أول من بنى فيه. وفي القاموس: المعلهج، كمزعفر: الأحمق اللئيم، والهجين. وحكم الجوهري بزيادة هائه غلط . والهجين: اللئيم، وعربي ولد من أمة، ومن أبوه خيرٌ من أمه. وفرسٌ هجين: غير كريم، كالبرذون. والعشار، بالكسر: جمع عشير، وهو القريب والصديق، وجمع عشراء، والعشراء من النوق: التي مضى لحملها عشرة أشهر وثمانية، وهي كالنفساء من النساء. وقال أبو محمد الأعرابي: الفند كناية عن الرجل الوضيع. وأبو قبيس: الرجل الشريف. والمعلهجة: الفاسدة النسب، أي: تزوجت هذه المعلهجة ومهرت مهر الشريفة. وثروان بن فزارة: صحابي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو القائل: الطويل إليك رسول الله خبت مطيتي *** مسافة أرباعٍ تروح وتغتدي ونسبه صاحب الجمهرة وابن حجر في الإصابة عنه كذا: ثروان بن فزارة ابن عبد يغوث بن زهير الصتم بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والصتم، بفتح الصاد وسكون التاء المثناة الفوقية: لقب زهير، ويقال له: زهيرٌ الأكبر. ونسب سيبويه هذا البيت لخداش بن زهير. وزهير هذا هو زهير الصتم المذكور، وهو أخو عبد يغوث جد ثروان الصحابي. قال المرزباني: هو جاهلي. وأورده ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به. قال: خداش بن زهير العامري، شهد حنيناً مع المشركين، وله في ذلك شعر، يقول فيه: البسيط يا شدةً ما شددنا غير كاذبةٍ *** على سخينة لولا الليل والحرم ثم أسلم خداشٌ بعد ذلك بزمان، ووفد ولده سعساع على عبد الملك يتنازعون في العرافة، فنظر إليه عبد الملك، فقال: قد وليتك العرافة. فقام قومه، وهم يقولون: فلج ابن خداش فسمعهم عبد الملك، فقال: كلا والله لا يهجونا أبوك في الجاهلية ونسودك في الإسلام. وذكر البيت المتقدم. والمراد بقوله: سخينة قريش. وذكر المرزباني أنه جاهلي، وأن البيت الذي قاله في قريش كان في حرب الفجار. وهذا أصوب. انتهى. ونسب العسكري في كتاب التصحيف البيت الشاهد لزرارة بن فروان من بني عامر بن صعصعة، وقال: الفاء في فروان مفتوحة. ولم أر زرارة هذا في الأقسام الأربعة من الإصابة، ولا في جمهرة الأنساب لابن الكلبي. والله أعلم. وأنشد بعده: وقد تقدم شرحه في الشاهد الخامس والخمسين: الكامل ولقد أمر على اللئيم يسبني على أنه يجوز وصف المعرف باللام الجنسية بالنكرة كما هنا، فإن جملة يسبني نكرة وقعت وصفاً للئيم. وفيه أنهم قالوا: الجمل لا تتصف بتعريف ولا تنكير. وقالوا أيضاً: إن الجملة بعد المعرف باللام الجنسية يحتمل أن تكون حالاً منه، وأن تكون وصفاً له. ومثلوا بهذا البيت. منهم ابن هشام في المغني وغيره. وأنشد بعده: الكامل أزف الترحل غير أن ركابن *** لما تزل برحالنا وكأن قد على أن قد كلمة مستقلة يصلح الوقف عليها. وهذا الفصل قد أخذه الشارح المحقق من سر الصناعة لابن جني، وهذه عبارته فيه، قال: وذهب الخليل إلى أن حرف التعريف بمنزلة قد في الأفعال، وأن الهمزة واللام جميعاً للتعريف. وحكي عنه أنه كان يسميها أل، كقولنا: قد، وأنه لم يكن يقول الألف واللام، كما لا تقول في قد القاف والدال. ويقوي هذا المذهب قطع أل في أنصاف الأبيات، نحو قول عبيد: الرمل المرفل يا خليلي اربعا واستخبرا ال *** منزل الدارس من أهل الحلال مثل سحق البرد عفى بعدك ال *** قطر مغناه وتأويب الشمال وهذه قطعةٌ لعبيد مشهورة، عددها بضعة عشر بيتاً، يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه، إلا بيتاً واحداً من جملتها. ولو كانت اللام وحدها حرفاً للتعريف لما جاز فصلها من الكلمة التي عرفتها، لاسيما واللام ساكنة، والساكن لا ينوى به الانفصال. ويقوي ذلك أيضاً قول الآخر: الرجز عجل لنا هذا وألحقنا بذال *** الشحم إن قد أجمناه بجل فإفراده أل، وإعادته إياها في البيت الثاني يدل من مذهبهم على قوة اعتقادهم لقطعها، فصار قطعهم أل وهم يريدون الاسم بعدها، كقطع النابغة قد وهو يريد الفعل بعدها. وذلك قوله: أفد الترحل غير أن ركابن *** لما تزل برحالنا وكأن قد ألا ترى أن التقدير فيه: وكأن قد زالت، فقطع قد من الفعل كقطع أل من الاسم. وعلى هذا أيضاً قالوا في التذكر: قام ال، إذا نويت بعده كلاماً، أي: الحارث والعباس، فجرى هذا مجرى قولك في التذكر: قدي، أي: قد انقطع، وقد قام، وقد استخرج، ونحو ذلك. وإذا كان أل عند الخليل حرفاً واحداً فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة، كقاف قد، وباء بل، إلا أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه، فحذفت همزته كما حذفوا: لم يك ولم أدر ولم أبل. ويؤكد هذا القول عندك أيضاً أنهم قد أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة، وذلك نحو قول الله عز وجل: {الله أذن لكم} و: آلذكرين حرم أم الأنثيين ونحو قولهم في القسم: أفأ لله، ولاها الله ذا. ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا، فهذا كله يؤكد أن همزة أل ليست بهمزة وصل، وأنها مع اللام كقد وهل ونحوهما. انتهى كلامه. ثم أخذ في تأييد المذهب بكون اللام هي المعرفة، ونفض مذهب الخليل، فقال: وأما ما يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف، وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها فهو جر الجار إلى ما بعد حرف التعريف، وذلك نحو قولهم: عجبت من الرجل، ومررت بالغلام، فنفوذ الجر بحرفه إلى ما بعد التعريف يدل على أن حرف التعريف غير فاصلٍ عندهم بين الجار والمجرور. وإنما كان كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه. وإنما كان كذلك لأنه على حرف واحد ولا سيما وهو ساكن. ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كقد وهل لما جاز الفصل به بين الجار والمجرور، لأن قد وهل كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما. ألا ترى أن أصحابنا أنكروا على الكسائي وغيره في قراءته: ثم ليقطع بسكون اللام. وكذلك: ثم ليقضوا تفثهم ؛ لأن ثم قائمة بنفسها، لأنها على أكثر من حرف واحد، وليست كواو العطف وفائه، لأن تينك ضعيفتان متصلتان بما بعدهما، فلطفتا عن نية فصلهما وقيامهما بأنفسهما. وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال لما جاز نفوذ الجر إلى ما بعد حرف التعريف. وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه. وإنما كان كذلك لقلته وضعفه عن قيامه بنفسه، ولو كان حرفين لما لحقته هذه القلة، ولا تجاوز حرف الجر إلى ما بعده. ودليلٌ آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف بما دخل عليه، وهو أنه قد حدث بدخوله معنًى فيما عرفه، لم يكن قبل دخوله، وهو معنى التعريف، فصار المعرف كأنه غير ذلك المنكور وشيءٌ سواه. ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرجل، قافيتين في شعر واحد من غير استكراه ولا اعتقاد إبطاء. فهذا يدلك على أن حرف التعريف كأنه مبني مع ما عرفه، كما أن ياء التحقير مبنية مع ما حقرته، وكما أن ألف التكسير مبنية مع ما كسرته. فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم قافيتين، وبين درهمكم ودراهمكم، كذلك جاز أيضاً أن يجمع بين رجل والرجل، لأن للنكرة شيء سوى المعرفة، كما أن المكبر غير المصغر، وكما أن الواحد غير الجميع. فهذا أيضاً دليلٌ قوي يدل على أن حرف التعريف مبني مع ما عرفه، وكالمبني معه. ويزيدك تأنيساً بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين، لأن التنوين دليل التنكير، كما أن هذا الحرف دليل التعريف. فكما أن التنوين في آخر الاسم واحد، فكذلك حرف التعريف من أوله ينبغي أن يكون حرفاً واحداً. فأما ما يحتج به الخليل من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكر، فإن ذلك لا يدل على أنه في نية الانفصال منه، لأن لقائل أن يقول: إنه حرف واحد، ولكن الهمزة لما دخلت على اللام فكثر اللفظ بها، أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى، ما كان من الحروف على حرفين، نحو: هل، ولو، ومن، وقد، فجاز فصلها في بعض المواضع. وهذا الشبه اللفظي موجودٌ في كثير من كلامهم. ألا ترى أن أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظاً، إنما روعيت به مشابهة اللفظ، فمنع ما يختص بالأسماء وهو التنوين. ومن الشبه الفظي ما حكى سيبويه من صرفههم جندلاً وذلذلاً، وذلك أنه لما فقد الألف التي في جنادل وذلاذل من اللفظ، أشبها الآحاد، نحو: علبط وخزخز، فصرفا كما صرفا، وإن كان الجميع من وراء الإحاطة بالعلم أنه لا يراد هنا إلا الجمع، فغلب شبه اللفظ بالواحد، وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إدارة الجمع. وهذا الشبه اللفظي أكثر من أن أضبطه لك. فكذلك جاز أن تشبه اللام لما دخلت الهمزة عليها فكثرتها في اللفظ، بما جاء من الحروف على حرفين: نحو بل، وقد، ولن. وكما جاز الوقوف عليها مع التذكر، لما ذكرناه من مشابهتها قد وبل، كذلك جاز أيضاً قطعها في المصراع الأول ومجيء ما تعرف به في المصراع الثاني، نحو ما أنشدناه لعبيد. وأما قوله سبحانه: آلذكرين حرم وقوله: آلله أذن لهم ، فإنما جاز احتمالهم لقطع همزة الوصل، مخافة التباس الاستفهام بالخبر. وأيضاً فقد يقطعون في المصراع الأول بعض الكلمة وما هو منها أصل، ويأتون بالبقية في أول المصراع الثاني. فإذا جاز ذلك في أنفس الكلم ولم يدل على انفصال بعض الكلمة من بعض، فغير منكر أيضاً أن يفصل لام المعرفة في المصراع الأول، ولا يدل ذلك على أنها عندهم في نية الانفصال، كما لم يكن ذلك فيما هو من أصل الكلمة. قال: مجزوء الكامل يا نفس أكلاً واضطج *** عاً نفس لست بخالدة وهو كثير. ومنه قول الأعشى: الخفيف حل أهلي ما بين درنا فبادو *** لي وحلت علويةً بالسخال وإذا جاز قطع همزة الوصل التي لا اختلاف بينهم فيها، نحو ما أنشده أبو الحسن: الطويل ألا لا أرى اثنين أحسن شيمةً *** على حدثان الدهر مني ومن جمل فأن يجوز قطع الهمزة التي هي مختلف في أمرها، وهي مفتوحة أيضاً مشابهةٌ لما لا يكون من الهمز إلا قطعاً، نحو همزة أحمر، أولى وأجدر. إلى آخر ما ذكر، فإنه أطال، وأطاب بضعفي ما نقلنا. وقد أورده الشارح المحقق في الجوازم، وفي كأن من الحروف المشبهة بالفعل أيضاً، على أن الفعل بعد قد محذوف، أي: كأن قد زالت. وقد أورده ابن هشام على أن الفعل يجوز حذفه بعدها لقرينة، وفي التنوين أيضاً على أن دال قد لحقها تنوين الترنم، قال: تنوين الترنم، وهو اللاحق للقوافي المطلقة بدلاً من حرف الإطلاق، وهو الألف والواو والياء، وذلك في إنشاد بني تميم. وظاهر قولهم أنه تنوين محصل للترنم. وقد صرح بذلك ابن يعيش. والذي صرح به سيبويه وغيره من المحققين أنه جيء به لقطع الترنم، وأن الترنم، وهو التغني، يحصل بأحرف الإطلاق، لقبولها لمد الصوت فيها، فإذا أنشدوا، ولم يترنموا، جاؤوا بالنون في مكانها. ولا يختص هذا التنوين بالاسم، بدليل قوله: وكأن قدن البيت. انتهى. والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني، وهو من أوائل القصيدة، وهي: أمن ال مية رائحٌ ومغتدي *** عجلان ذا زادٍ وغير مزود زعم البوارح أن رحلتنا غد *** وبذاك تنعاب الغراب الأسود لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غد أزف الترحل........ ***.............. البيت قال شارح ديوانه: قوله: أمن ال مية يخاطب نفسه كالمستثب، والنون من أمن متحركة بفتحة همزة أل الملقاة عليها لتحذف تخفيفاً. قال الأصمعي: تقديره أم آل مية أنت رائح ومغتد. ورائح: من راح يروح رواحاً. ومغتد: من اغتدى، أي: ذهب وقت الغداة، وهو ضد الرواح. وعجلان: من العجلة، نصبه على الحال. وذا: حالٌ من ضمير عجلان، وقيل: بدل منه. والزاد في هذا الموضع: ما كان من تسليم ورد تحية. وتنعاب الغراب: صياحه. والبوارح: جمع بارح، وهو ما ولاك مياسره، يمر من ميامنك إلى مياسرك. والعرب تتطير بالبارح وتتفاءل بالسانح. وأزف: من باب فرح، أي: دنا. وروى بدله: أفد وهو مثله وزناً ومعنًى. والترحل: الرحيل. وغير منصوب على الاستثناء المنقطع. والركاب: الإبل، واحدها راحلة من غير لفظها. ولما: جازمةٌ بمعنى لم. وتزل بضم الزاي، من زال يزول زوالاً، أي: فارق. والباء للمعية. والرحال: جمع رحل، وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث. وكأن مخففة من الثقيلة. قال الشارح المحقق في بابها: الأفصح عند تخفيفها إلغاؤها، وإذا لم تعملها لفظاً ففيها ضمير شأن مقدر، فاسمها ضمير الشأن، والجملة المحذوفة بعد قد خبرها. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في كأن. ونقل ابن الملا في شرح المغني عن ابن جني في الخصائص، أنه جوز أن يكون قدي هنا بمعنى حسبي، أي: وكأن ذلك حسبي، فقدي وحده هو الخبر. هذا كلامه. وأنشد بعده: الرمل المرفل يا خليلي اربعا واستخبرا ال *** منزل الدارس من أهل الحلال على أن الخليل استدل على أن حرف التعريف أل لام اللام وحدها، بفصل الشاعر إياها من المعرف بها. ولو كانت اللام وحدها حرف تعريف لما جاز فصلها من المعرف، لا سيما واللام ساكنة. وقد تقدم بيانه ونقضه في البيت قبله. قال ابن جني في المنصف، وهو شرح تصريف المازني المسمى بالملوكي: قد ذهب بعضهم إلى أن الألف واللام جميعاً للتعريف بمنزلة قد في الأفعال، ولكن هذه الهمزة لما كثرت في الكلام وعرف موضعها، والهمزة مستثقلة حذفت في الوصل لضربٍ من التخفيف. قالوا: والدليل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر فصلها من الكلمة كما تفصل قد. من ذلك قوله: الرجز عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال *** شحم إنا قد مللناه بجل فقطعها في البيت الأول، ثم ردها في أول الكلمة بعد. لأنها مرت في البيت الأول، فكأنها لما تباعدت أنسيها ولم يعتد بها. وهذا أحد ما يدل عندي على أن ما كان من الرجز على ثلاثة أجزاء، فهو بيتٌ كامل وليس بنصف بيت على ما يذهب إليه أبو الحسن الأخفش. ألا ترى أنه رد أل في أول البيت الثاني. لأن الأول بيتٌ كامل قد قام بنفسه، وتمت أجزاؤه، فاحتاج في ابتداء البيت الثاني أن يعرف الكلمة التي في أوله، فلم يعتد بالحرف الذي كان فصله، لأنهما ليسا في بيتٍ واحد. ولو كان هذان البيتان بيتاً واحداً، كما يقول من يخالف لما احتاج إلى رد حرف التعريف. ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات، وجعل آخر المصراع الأول أل لم يعد الحرف في أول المصراع الثاني، لما كانا مصراعين، ولم يكن كل واحد منهما بيتاً قائماً برأسه. وذلك قوله: يا خليلي اربعا واستخبرا ال *** منزل الدارس من أهل الحلال فطرد هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً على هذا الطرز إلا بيتاً واحداً، وهو: فانتحينا الحارث الأعرج في *** جحفلٍ كالليل خطار العوالي فهذا ما عندي في هذا. وقد كان أبو علي يحتج أيضاً على أبي الحسن بشيءٍ غير هذا. انتهى. وقال ابن جني في باب التطوع بما لا يلزم، من الخصائص قال: وهو أمرٌ قد جاء في الشعر القديم والمولد جميعاً، مجيئاً واسعاً. وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه، ليدل بذلك على غزارة وسعة ما عنده. وأورد قصائد إلى أن قال: وعلى ذلك ما أنشدنا أبو بكر محمد بن علي عن أبي إسحاق لعبيدٍ، من قوله: الرمل المرفل يا خليلي اربعا واستخبرا ال *** منزل الدارس من أهل الحلال مثل سحق البرد عفى بعدك ال *** قطر مغناه وتأويب الشمال ولقد يغنى به جيرانك ال *** ممسكو منك بأسباب الوصال ثم أودى ودهم إذا أزمعوا ال *** بين والأيام حالٌ بعد حال فانصرف عنهم بعنس كالوأى ال *** جأب ذي العانة وشاة الرمال نحن قدنا من أهاضيب الملا ال *** خيل في الأرسان أمثال السعالي شزباً يعسفن من مجهولة ال *** أرض وعثاً من سهولٍ ورمال فانتجعنا الحارث الأعرج في *** جحفلٍ كالليل خطار العوالي ثم عجناهن خوصاً كالقطا ال *** قاربات الماء من أين الكلال نحو قرصٍ يوم جالت جولة ال *** خيل قباً عن يمينٍ وشمال كم رئيسٍ يقدم الألف على ال *** سابح الأجرد ذي العقب الطوال قد أباحت جمعه أسيافنا ال *** بيض في الروعة من حي حلال ولنا دارٌ ورثناها عن ال *** اقدم القدموس من عم وخال منزلٌ دمنه آباؤنا ال *** مورثونا المجد في أولى الليالي ما لنا فيها حصونٌ غير ما ال *** مفردات الخيل تعدو بالرجال في روابي عدملي شامخ ال *** أنف فيه إرث مجدٍ وجمال فاتبعنا دأب أولانا الأولى ال *** موقدي الحرب ومروي بالحبال وقال القصيدة كلها على أن آخر مصراع كل بيت منها منتهٍ إلى لام التعريف، غير بيت واحد، وهو قوله: فانتجعنا الحارث إلى آخره، فسار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي على ترتيب واحد هو الجزء. وذلك أنه دل على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه، ولم يتجشم إلا ما في نهضته ووضعه، من غير اغتصاب له ولا استكراه ألجأ إليه، إذ لو كان ذلك على خلاف ما حددناه، وأنه إنما صنع الشعر صنعاً، لكان قمنا أن لا ينقض ذلك ببيت واحد يوهيه، ويقدح فيه. وهذا واضح. انتهى. وقوله: يا خليلي مثنى خليل. واربعا بألف التثنية من ربع زيدٌ بالمكان يربع بفتح الباء فيهما، إذا اطمأن وأقام به. واستخبرا أمرٌ مسند إلى ألف التثنية. والحلال: جمع حال بمعنى نازل. وفي القاموس: الحلال: جمع حلة بكسر المهملة فيهما، وهم القوم النزول، وجماعة بيوت الناس، ومائة بيت، والمجلس، والمجتمع. وقوله: مثل سحق البرد إلخ، السحق، بالفتح: الثوب البالي، وقد سحق ككرم سحوقة بالضم، كأسحق. والبرد، بالضم: ثوبٌ مخطط: فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف. وعفى تعفية: غطاه تغطية ومحاه. والقطر، أي: المطر، فاعله. ومغناه: مفعوله. والمغنى: المنزل الذي غني به أهله ثم ظعنوا، وعام من غني بالمكان، كرضي، إذا أقام فيه. والتأويب: الرجوع؛ والمراد تردد هبوبها. والشمال: الريح المعروفة. وقوله: ولقد يغنى ، هو من غني المذكور. والممسكو أصله الممسكون، حذفت نونه تخفيفاً. قال ابن جني في المصنف: قوله: الممسكو أراد الممسكون، ولكنه حذف النون لطول الاسم لا للإضافة. وعندي فيه شيءٌ ليس في قوله: الحافظو عورة العشيرة، وذلك أن حرف التعريف منه في المصراع الأول، وبقية الكلمة في المصراع الثاني، والمصراع كثيراً ما يقوم بنفسه حتى يكاد يكون بيتاً كاملاً، وكثيراً ما تقطع همزة الوصل في أول المصراع الثاني نحو قوله: البسيط لتسمعن وشيكاً في دياركم: *** الله أكبر يا ثارات عثمانا وقد أجاز أبو الحسن الخرم في أول المصراع الثاني، بخلاف الخليل، وجاء ذلك في الشعر كقول امرئ القيس: المتقارب وعينٌ لها حدرةٌ بدرة *** شقت مآقيهما من دبر فلما كان أول الممسكو في المصراع الأول وباقيه في المصراع الثاني، وهما كالبيتين، ازدادت الكلمة طولاً، وازداد حذف النون جوازاً. وليس الحافظو كذلك. فهذا فصلٌ فيه لطف، وكلا الاسمين إنما وجب فيه الحذف لطوله. وقوله: ثم أودى ، أي: هلك. وأزمعوا: من أزمعت الأمر وعليه: أجمعت وثبت عليه. وقوله: والأيام حالٌ ، أي: ذات حالٍ وتغير. وقوله: بعنسٍ كالوأى العنس ، بالفتح: الناقة الصلبة. والوأى، بفتح الواو والهمزة بعدها ألف مقصورة: الحمار الوحشي. والجأب، بفتح الجيم وسكون الهمزة: الحمار الغليظ. والعانة، بالنون: الأتان، وهو المراد هنا، والقطيع من حمر الوحش، والشاة الواحدة من الغنم للذكر والأنثى، وتكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام وحمر الوحش، والمرأة، الجمع شاء. كذا في القاموس. وأهاضيب الملا: اسم مكان. وأهاضيب: جمع هضاب جمع هضبة، وهي الجبل المنبسط على وجه الأرض، وجبلٌ خلق من صخرة واحدة، والجبل. قال أبو عبيد البكري في المعجم: الملا: بفتح الميم والقصر: موضعٌ من أرض كلب، وموضع في ديار طيىء. والسعالي: جمع سعلاة، وهي أنثى الغول. وقوله: شزباً إلخ، وهو جمع شازب: الضامر اليابس. والعسف: الأخذ على غير الطريق. ووعثاً: مفعول يعسفن، جمع أوعث بمعنى وعث. والوعث، بالفتح: الطريق العسرة كالوعث بكسر العين. وقوله: من سهول، ورمال، بيان لقوله رعثا. وقوله: فانتجعنا الحارث إلخ، من انتجع فلاناً، أي: أتاه طالباً معروفه. وهنا تهكم وسخرية. والحارث الأعرج هو من ملوك لشام. وأمه مارية ذات القرطين. والجحفل، بفتح الجيم: الجيش الكثير. والخطار: المضطرب. والعوالي: الرماح، جمع عالية، والعالية: أعلى القناة، والنصف الذي يلي السنان. وقوله: ثم عجناهن يقال: عاج رأس البعير، أي: عطفه بالزمام. والخوص، بالضم: جمع أخوص، وخوصاء، وهي الغائرة العينين. والقاربات، من القرب بفتحتين، وهو سير الليل لورد الغد. والأين: الإعياء. والكلال بمعناه أيضاً. وقوله: نحو قرص ، بالضم: موضع. وقباً: جمع أقب، وصفٌ من القبب بفتحتين، وهو دقة الخصر وضمور البطن. وقوله: كم رئيس يقدم الألف ، الرئيس: سيد القوم وكبيرهم. والسابح: الفرس الحسن الجري. والأجرد: القصير الشعر. والعقب، بفتح المهملة وسكون القاف: الجري بعد الجري. والطوال: بالضم بمعنى الطويل، وجمعه: مفعول أباحت، وأسيافنا: فاعله. والقدموس، بالضم: القديم، والسين زائدة. والمورثونا المجد: جمع مورث، ونا ضمير المتكلم مع الغير، والمجد بالنصب مفعول. وقوله: ما لنا فيها ، أي: في تلك الدار. والمفردات، بفتح الراء: التي أفردت عن غيرها، وما زائدة، والخيل بدل من المفردات. وقوله: في روابي إلخ، جمع رابية، وهي ما علا من الأرض. والعدملي بضم العين وسكون الدال المهملتين، وضم الميم وكسر اللام، قال صاحب القاموس: العدمل والعدملي والعدامل والعداملي مضمومات: كل مسن قديم، والضخم القديم من الشجر ومن الضباب. والإرث، بالكسر: الأصل. وقوله: فاتبعنا دأب أولانا إلخ، أي: دأب عشيرتنا الأولى، أي: آبائنا الأقدمين. والأولى الثانية بدل من الأولى، وهي اسم إشارة بمعنى أولئك. والموقدين صفة له، وبدل وحذفت نونه للإضافة. وعبيد هو عبيد بن الأبرص الأسدي، بفتح العين وكسر الموحدة، وهو شاعرٌ جاهلي، تقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر بعد المائة. وقوله في البيت الآخر: عجل لنا هذا وألحقنا البيت، هو من أبيات سيبويه. وهذا نصه في المسألة: وزعم الخليل أن الألف واللام اللتين يعرفون بهما حرفٌ واحد، كقد وأن، ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف الاستفهام في قوله: أزيد، ولكن الألف كألف ايم، في ايم الله، وهي موصولة كما أن ألف ايم موصولة. إلى أن قال: وقال الخليل: ومما يدلك على أن تلك مفصولة من الرجل ولم يبن عليها وأن الألف واللام فيها بمنزلة قد، قول الشاعر: الرجز دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذال *** بالشحم إنا قد مللناه بجل قال: هي ها هنا كقول الرجل، وهو يتذكر قدي، ثم يقول قد فعل. ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيءٍ مما كان من الحروف الموصولة. ويقول الرجل ألي، ثم يتذكر. فقد سمعناهم يقولون ذلك، ولولا أن الألف واللام بمنزلة قد وسوف، لكانتا بناءً بني عليه الاسم لا يفارقه، ولكنهما جميعاً بمنزلة هل، وقد، وسوف، يدخلان للتعريف. انتهى نصه. وقال الأعلم: الشاهد في قوله بذال، وأراد: بذا الشحم، ففصل لام التعريف من الشحم لما احتاج إليه من إقامة القافية ثم أعادها في الشحم لما استأنف ذكره بإعادة حرف الجر. ومعنى بجل حسب، يقال: بجلي كذا، أي: حسبي. انتهى. والبيت غفل لم يحل قائله. وقال العيني: قائله غيلان بن حريث الربعي الراجز. وقوله: وألحقنا في رواية سيبويه: وألزقنا ، وضبط بعض شراح أبياته بخل بالخاء المعجمة، أراد به الخل المعهود. والباء فيه حرف جر. وهذا أقرب إلى المعنى. انتهى. ولم أر ما ذكره. والله أعلم. وأنشد بعده: الطويل وبالنسر عندما هو قطعة من بيت، وهو: أما والدماء المائرات تخاله *** على قنة العزى وبالنسر عندما على أن لام التعريف قد تزاد في العلم. قال ابن الشجري في أماليه: نسرٌ: الصنم الذي كان قوم نوح يعبدونه، وقد ذكره الله تعالى في قوله: ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً . وأدخل فيه الشاعر الألف واللام زيادة للضرورة في قوله: وبالنسر عندما البيت. انتهى. وقال ابن جني في سر الصناعة: أنشدنا أبو علي هذا البيت وقال: اللام في النسر زائدة. وهو كما قال، لأن نسراً بمنزلة عمرو. وقال ابن جني قبل هذا: وأما اللات والعزى فذهب أبو الحسن إلى أن اللام فيهما زائدة. والذي يدل على صحة مذهبه أن اللات والعزى علمان، بمنزلة يغوث ويعوق ونسر ومناة، وغير ذلك من أسماء الأصنام. فهذه كلها أعلام وغير محتاجةٍ في تعرفها إلى اللام، وليست من باب الحارث والعباس، التي نقلت فصارت أعلاماً وأقرت فيها لام التعريف، على ضربٍ من توهم روائح الصفة فيها، فتحمل على ذلك. فوجب أن تكون فيها زائدة، ويؤكد زيادتها فيها أيضاً لزومها إياها كلزوم لام الآن والذي وبابه. فإن قلت: فقد حكى أبو زيد: لقيته فينة والفينة، وقالوا للشمس: إلاهة والإلاهة. وليست فينة، ولا إلاهة، بصفتين فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارثوالعباس. فالجواب: أن فينة والفينة وإلاهة والإلاهة، مما اعتقب عليه تعريفان: أحدهما: بالألف واللام، والآخر: بالوضع والعلمية، ولم نسمعهم يقولون: لات وعزى بغير لام، فدل لزوم اللام على زيادتها، وأن ما هي فيه، ليس مما اعتقب فيه تعريفان. انتهى. ومحصلة أن اللام في النسر زائدة بعد وضع العلمية، وأن اللام في اللات والعزى زائدة فيهما عند وضع العلمية، وأن اللام في الفينة والإلاهة للتعريف، وليست زائدة. ولهذا لم ينشد الشارح المحقق البيت بتمامه لتعين الزائد الطارئ للضرورة من الزائد غير المنفك إلا في ضرورة، كقوله: الطويل عزاي شدي شدةً لا تكذبني *** على خالدٍ والقي الخمار وشمري وبيت الشاهد أول أبيات ثلاثة لعمرو بن عبد الجن، وبعده: الطويل وما سبح الرهبان في كل ليلةٍ *** أبيل الأبيلين المسيح بن مريما لقد هز مني عامرٌ يوم لعلعٍ *** حساماً إذا ما هز بالكف صمما كذا أنشد هذه الأبيات أبو علي في التذكرة القصرية عن ابن الأعرابي، وابن الأنباري في مسائل الخلاف، وابن الشجري في أماليه. وقوله: ألا والدماء إلخ، ألا: كلمة يستفتح بها الكلام، التنبيه، والواو للقسم، والدماء مقسم به، والبيت الثالث جواب القسم. والمائرات: المترددات، من مار الدم على وجه الأرض يمور، إذا تردد. ويروى: أما ودماء مائرات بدون لام. وتخالها: تظنها. وعندما المفعول الثاني. وقنة العزى: أعلاها. وقنة الجبل، بالضم: أعلاه. والعندم: البقم. والعندم: دم الأخوين. رواه أبو علي في الحجة: أما ودماءٍ لا تزال كأنها وقال انتصاب عندم بأحد شيئين: أحدهما: ما في كان من معنى الفعل، والآخر: أن يجعل على قنة العزى مستقراً فيكون الحال عنه. فإن نصبت بالأول فذو الحال الضمير الذي في كأنها، وإن نصبته عن المستقر فذو الحال الذكر الذي في المستقر، والمعنى على حذف المضاف، كأنه مثل عندم. انتهى. وقوله: وما سبح إلخ، الواو عاطفة على الدماء، وما: مصدرية، وسبح بمعنى نزه، والرهبان: فاعله، وأبيل مفعوله، وفي كل ليلة متعلق بسبح. وروى: في كل بيعة، أي: وتسبيح الرهبان أبي الأبيلين. والبيعة، بكسر الباء: متعبد النصارى. وأبيل الأبيلين: راهب الرهبان. قال ابن فارس، والصاغاني في العباب: الأبيل: راهب النصارى، وكانوا يسمون عيسى عليه السلام أبي الأبيلين، ومعناه راهب الراهبين. وعيسى: بدلٌ وعطف بيان له. والأبيل، بفتح الهمزة وكسر الموحدة، كأمير: الراهب، سمي به لتأبله عن النساء وترك غشيانهن. والفعل منه أبل يأبل إبالة، ككتب كتابة، إذا تنسك وترهب. وأورده الجواليقي في المعربات قال: الأبيل: الراهب، فارسي معرب، قال الشاعر وهو جاهلي: وما سبح الرهبان في كل بيعة ***.............. البيت وقال الآخر: الطويل وما صك ناقوس النصارى أبيلها وقالوا: أيبلي. قال: المتقارب وما أيبلي على هيكلٍ *** بناه وصلب فيه وصارا قال أبو عبيدة: أيبلي: صاحب أبيل، وهي عصا الناقوس. انتهى. والأيبلي هو بتقديم المثناة التحتية الساكنة وتأخير الموحدة المفتوحة، ويجوز ضمها، ويجوز إبدال الألف هاء فيقال: هيبلي، ويجوز إبدال الياء التحتية ألفاً فيقال آبلي. وقد جمع صاحب القاموس هذه اللغات، فقال: الأبيل كأمير: العصا، والحزين بالسريانية، ورئيس النصارى، والراهب، وصاحب الناقوس، كالأيبلي بضم الباء وفتحها، والهيبلي والآبلي بضم الباء، والأبيل بضم الباء وفتحها. انتهى. وقوله: وما أيبليٌّ على هيكل ، هو من قصيدةٍ للأعشى ميمون. قال الصاغاني في العباب: قيل أراد أبيلي، كأميري، فلما اضطر قدم الياء كما قالوا أينق، والأصل أنوق. قال عدي بن زيد العبادي: الرمل إنني والله فاقبل حلفتي *** بأبيلٍ كلما صلى جأر وقال ابن دريد: الأبيل: ضارب الناقوس. وأنشد: وما صك ناقوس النصارى أبيلها انتهى. ونقل العيني عن ابن الأثير أنه روي أيضاً: أبيل الأبيليين عيسى بن مريما على النسب. وقوله: هز مني عامر إلخ، هذا من قبيل التجريد، يريد أن عامراً وجدني حساماً في ذلك اليوم. وروى الصاغاني في العباب: لقد ذاق مني. ولعلع: كجعفر: موضع، قال ابن ولاد: لعلعٌ آخر السواد إلى البر، ما بين البصرة والكوفة. وقال غيره: لعلعٌ: ببطن فلج، وهي لبكر وائل، وقيل: هي من الجزيرة. كذا في معجم ما استعجم للبكري. وصمم: مضى، يقال: صمم الرجل في الأمر، إذا جد فيه. والأبيات لعمرو بن عبد الجن. كذا قال الصاغاني في العباب وغيره. وفي جمهرة الأنساب لابن الكلبي أنه تنوخي. وهو عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن سعد بن كثير بن غالب بن جرم. وأسد بن ناعصة بن عمرو بن عبد الجن، كان فارساً في الجاهلية. قال: ورأيت رجلاً من بني عبد الجن بالكوفة شجاعاً، قطعت رجله فجعلت له من فضة. وتنوخ: قبيلةٌ من قبائل اليمن. تتمة العزى في الأصل: تأنيث الأعز، وقد يكون الأعز بمعنى العزيز، والعزى بمعنى العزيزة. قال في الصحاح: العزى: اسم صنم كان لقريش وبني كنانة، ويقال العزى: سمرة كانت لغطفان يعبدونها، وكانوا بنوا عليها بيتاً وأقاموا لها سدنة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة، وهو يقول: الرجز يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك ولا بأس بإيراد شيءٍ من أخبار الأصنام، وسبب اتخاذ العرب لها، وكيف أزالها النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأصنام: حدثني أبي وغيره أن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم لما سكن مكة، وولد له بها أولادٌ كثيرة حتى ملؤوا مكة، ونفوا من كان فيها من العماليق، ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش. وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة، أنه كان لا يظعن من مكة ظاعنٌ، إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم، وصبابة بمكة فحيثما حلوا، وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها وصبابةً بها وحباً، وهم على إرث أبيهم إسماعيل: من تعظيم الكعبة، والحج، والاعتمار. ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم، كقوم نوح، وفيهم بقايا على دين أبيهم إسماعيل، مع إدخالهم فيه ما ليس منه. فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية: عمرو بن ربيعة، وهو لحي ابن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة. وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة. فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية، وقاتل جرهماً ببني إسماعيل، فظفر بهم، وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم من بلاد مكة، وتولى حجابة البيت. ثم إنه مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برأت. فأتاها فاستحم بها، فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو. فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة، ونصبها حول الكعبة. وحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، أن إسافاً ونائلة - رجلٌ من جرهم، يقال له: إساف بن يعلى، ونائلة بنت زيد من جرهم - وكان يتعشقها في أرض اليمن، فأقبلوا حجاجاً فدخلا الكعبة، فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت، ففجر بها في البيت، فمسخا فوجدوهما مسخين، فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما، فعبدتهما خزاعة وقريش، ومن حج البيت بعد من العرب. وكان أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم، وسموها بأسمائها على ما بقي فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل - هذيل بن مدركة. اتخذوا سواعاً فكان لهم برهاطٍ من أرض ينبع. وينبع عرضٌ من أعراض المدينة وكانت سدنته بني لحيان. واتخذت كلبٌ: ودا بدومة الجندل. واتخذت مذحج وأهل جرش: يغوث، واتخذت خيوان: يعوق، فكان بقريةٍ لهم يقال لها: خيوان من صنعاء على ليلتين مما يلي مكة. واتخذت حمير: نسراً فعبدوه بأرضٍ يقال لها: بلخع، ولم أسمع حمير سمت به أحداً، ولم أسمع له ذكراً في أشعارها، ولا أشعار أحد من العرب. وأظن ذلك كان لانتقال حمير أيام تبع عن عبادة الأصنام إلى اليهودية. وكان لحمير أيضاً بيت بصنعاء، يقال له: رئام، بهمزة بعد الراء المكسورة،يعظمونه ويتقربوه عنده بالذبائح، وكانوا فيما يذكرون يكلمون منه. فلما انصرف تبع من مسيره الذي سار فيه انصرف تبع من مسيره الذي سار فيه إلى العراق قدم معه الحبران اللذان صحباه من المدينة، فأمراه بهدم رئام. وتهود تبع، وأهل اليمن. فمن ثم لم أسمع بذكر رئام ولا نسرٍ في شيءٍ من الأشعار ولا الأسماء. ولم تحفظ العرب من أشعارها إلا ما كان قبيل الإسلام. قال هشام أبو المنذر: ولم أسمع في رئام وحده شعراً، وقد سمعت في البقية. هذه الخمسة الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، وذكرها الله في كتابه: ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً . فلما صنع هذا عمرو بن لحيٍّ دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها. فكان أقدمها مناة. وسميت العرب عبد مناة وزيد مناة. وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة. وكانت العرب جميعاً تعظمه وتذبح حوله، وكان أشد إعظاماً له الأوس والخزرج. وكان أولاد معدٍّ على بقية من دين إسماعيل، وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه. ومناة هي التي ذكرها الله: ومناة الثالثة الأخرى . وكانت لهذيلٍ وخزاعة. وقريش وجميع العرب تعظمها، إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سنة ثمان من الهجرة، وهو عام الفتح. فلما سار من المدينة أربع ليال، وخمس ليال، بعث علياً إليها فهدمها وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما أخذ سفيان كان الحارث بن أبي شمرٍ ملك غسان أهداهما لها، أحدهما اسمه مخذم، والآخر رسوب، فوهبهما لعلي، فيقال: إن ذا الفقار سيف عليٍّ أحدهما، ويقال: إن علياً وجدهما في الفلس: صنم لطييء حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمه. ثم اتخذوا اللات بالطائف، وكانت صخرةً مربعة، وكان يهوديٌّ يلت عندها السويق، وكانت سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك، وكانوا بنوا عليها بناء، وكانت قريشٌ وسائر العرب تعظمها. وسمت زيد اللات، وتيم اللات، وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم. فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. ثم اتخذوا العزى وسمي بها عبد العزى بن كعب، وكان الذي اتخذها ظالم بن أسعد، وكانت بوادٍ من نخلة الشآمية يقال له: حراضٌ عن يمين المصعد إلى العراق من مكة فوق ذات عرق إلى البستان بتسعة أميال، فبنى عليها بيتاً، وكانوا يسمعون فيه الصوت. وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانت تطوف بالكعبة، وتقول: واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . وكانوا يقولون: بنات الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهن يشفعن إليه. فلما بعث الله رسوله أنزل عليه: أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى الآية. وحمت لها قريشٌ شعباً من وادي حراض، يقال له: سقام، يضاهون به حرم الكعبة. وكان لها منحرٌ ينحرون فيه هداياها، يقال له: الغبغب، وكانت قريش تخصها بالإعظام، فلذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تأله في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام: الوافر تركت اللات والعزى جميع *** كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيه *** ولا صنمي بني غنمٍ أزور ولا هبلاً أزور وكان رب *** لنا في الدهر إذ حلمي صغير وكان سدنة العزى بني شيبان، من بني سليم، وكان آخر من سدنها منهم دبية، فلم تزل كذلك حتى بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم فعاب الأصنام ونهاهم عن عبادتها، ونزل القرآن فيها، فاشتد ذلك على قريش، فلما كان يوم الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقال: انطلق إلى شجرةٍ ببطن نخلة فاعضدها . فانطلق فقتل دبية. وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس، قال: كانت العزى شيطانةً تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما بعث النبي خالد بن الوليد، قال له: ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى . فأتاها فعضدها، فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية . فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثالثة . فأتاها فإذا هي بحبشيةٍ نافشة شعرها، واضعةٍ ثديها على عاتقها، تصرف بأنيابها، وخلفها دبية السلمي وكان سادنها، فلما نظر إلى خالد، قال: الطويل عزاي شدي شدةً لا تكذبي *** على خالدٍ ألقي الخمار وشمري فإنك إن لا تقتلي اليوم خالد *** تبوئي بذلٍّ عاجلاً وتنصري فقال خالدٌ رضي الله عنه: يا عز كفرانك لا سبحانك *** إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا حممة، ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب . قال أبو المنذر: ولم تكن قريش ومن بمكة، يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة. فأما العزى فكانت تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية. وكانت ثقيف تخص اللات، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة، وكلهم كان معظماً للعزى، ولم يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي رفعها عمرو بن لحي كرأيهم في هذه. وكانت لقريش أصنامٌ في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها عندهم هبل، وكان فيما بلغني من عقيقٍ أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريشٌ كذلك، فجعلوا له يداً من الذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة، وكان يقال له: هبل خزيمة، وكان قدامه سبعة أقدح مكتوبٍ في أولها: صريحٌ، والآخر: ملصقٌ. فإذا شكوا في مولودٍ أهدوا له هديةً، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج: صريح ألحقوه، وإن كان ملصقاً دفعوه. وقدحاً على الميت، وقدحاً على النكاح، وثلاثةً لم تفسر لي. فإذا اختصموا في أمرٍ، وأرادوا سفراً، وعملاً، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج، عملوا به وانتهوا إليه. وكان لهم إسافٌ ونائلة، لما مسخا حجرين، وضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما وعبدت الأصنام، عبدا معها، وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريشٌ الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر. وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما. فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ودخل المسجد، والأصنام منصوبة حول الكعبة، فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها، ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، ثم أمر فكفئت على وجوهها، ثم أخرجت من المسجد فحرقت، فقال في ذلك راشد بن عبد الله السلمي: الكامل قالت هلم إلى الحديث فقلت ل *** يأبى الإله عليك والإسلام وما رأيت محمداً وقبيله *** بالفتح حين تكسر الأصنام لرأيت نور الله أضحى ساطع *** والشرك يغشى وجهه الإظلام وكان لهم أيضاً مناف، وسمت به عبد مناف، ولا أدري أين كان ولا من نصبه؟ ولم تكن الحيض من النساء تدنو من أصنامهم، ولا تمسح بها، إنما كانت تقف ناحيةً منها. وكان لأهل كل دارٍ من مكة صنم في دارهم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به. فلما بعث الله نبيه وأتاهم بتوحيد الله وعبادته، قالو: أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءُ عجاب ، يعنون الأصنام. واستهترت العرب في عبادتها، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت، وسموها الأنصاب. فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان. وسموا طوافهم الدوار. فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذ رباً، وجعل ثلاث أثافي لقدره، وإذا ارتحل غيره، فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك، فكانوا ينحرون ويذبحون عند كلها ويتقربون إليها، وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة عليها. وكانت بنو مليح من خزاعة - وهم رهط طلحة الطلحات - يعبدون الجن، وفيهم نزلت: إن الذين تدعون من دون الله عبادٌ أمثالكم . وكانت من تلك الأصنام ذو الخلصة، وتقدم شرحه في أوائل الكتاب في الشاهد السابع والعشرين. وكان لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدة صنم، يقال له: سعد، وكانت صخرةً طويلةً، فأقبل رجل منهم بإبلٍ له ليقفها عليه، يتبرك بذلك فيها، فلما أدناها منه نفرت وكان يهراق عليه بالدماء، فذهبت في كل وجه، فتناول حجراً فرماه به، وقال: لا بارك الله فيك، إلهاً، أنفرت علي إبلي ثم انصرف، وهو يقول: الطويل أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملن *** فشتتنا سعدٌ فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرةً بتنوفةٍ *** من الأرض لا يدعو لغيٍّ ولا رشد وكان لدوس، ثم لبني منهب بن دوس، صنم يقال له: ذو الكفين، فلما أسلموا بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمروٍ الدوسي فحرقه، وهو يقول: الرجز يا ذا الكفين لست من عبادك *** ميلادنا أكبر من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا وكان لبني الحارث بن يشكر من الأزد صنم، يقال له: ذو الشرى. وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان، صنمٌ في مشارف الشام يقال له: الأقيصر. وكان لمزينة صنم، يقال: نهمٌ، وبه سميت عبد نهم، وكان سادنه خزاعي بن عبد نهمٍ، من مزينة، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ثار إلى الصنم فكسره وأنشأ يقول: الطويل ذهبت إلى نهمٍ لأذبح عنده *** عتيرة نسكٍ كالذي كنت أفعل فقلت لنفسي حين راجعت عقله *** أهذا إلهٌ أبكمٌ ليس يعقل أبيت فديني اليوم دين محمدٍ *** إله السماء الماجد المتفضل ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وضمن إسلام قومه مزينة. وكان لأزد السراة صنم، يقال له: عائم بالهمزة. وكان لعنزة صنمٌ، يقال له: سعير، وتقدم شرحه قريباً. وكان لخولان صنمٌ، يقال له: عميانس، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين الله تعالى بزعمهم، فما دخل في حق الله من حق عميانس ردوه عليه، وما دخل في حق الصنم من حق الله الذي سموه له تركوه له. وفيهم نزل فيما بلغن: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . الآية. وكان لبني الحارث كعبةٌ بنجران يعظمونها. وكان أبرهة الأشرم بنى بيتاً بصنعاء، سماها القليس بفتح القاف وكسر اللام، وضبطه صاحب القاموس بضم القاف وفتح اللام المشددة، بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب، وكتب إلى ملك الحبشة: إني قد بنيت لك كنيسةً لم يبن مثلها أحد، ولست تاركاً العرب حتى أصرف حجهم عن الكعبة. فبلغ ذلك بعض نسأة الشهور، فبعث رجلين من قومه وأمرهما أن يخرجا حتى يتغوطا فيها. ففعلا، فلما بلغه ذلك غضب وخرج بالفيل والحبشة، فكان من أمره ما كان. قال أبو المنذر: المعمول من خشبٍ وذهبٍ وفضة صورة إنسانٍ فهو صنم. وإذا كان من حجارة فهو وثن. هذا ملخص ما ذكره من الأصنام، وبقي عليه عوض وتقدم شرحه قبل هذا بستة شواهد. واليعبوب، وهو صنمٌ لجديلة طيئ، وكان لهم صنم أخذته منهم بنو أسد، فتبدلوا اليعبوب بعده: قال عبيد: الكامل فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم *** صنماً فقروا يا جديل وأعذبوا أي: لا تأكلوا على ذلك ولا تشربوا. وباجر، بالموحدة وبالجيم، قال ابن دريد: هو صنمٌ كان للأزد في الجاهلية ومن جاورهم من طيئ وقضاعة، كانوا يعبدونه. وهو بفتح الجيم، وربما قالوا بكسرها. وأنشد بعده: الطويل لحافي لحاف الضيف والبرد برده على أن أل في البرد عوضٌ عن الضمير المضاف إليه، والتقدير: وبردي برده. وتمامه: ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع وهو من شعرٍ في الحماسة، وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين.
|